هذا النسيج من صنعك أنت، يعبر عنك وحدك؛ بل يجب أن يحسن التعبير عنك، ويصدق في الدلالة عليك. هو نسيج يلائم مقاسك، ويناسب ذوقك؛ فدع عنك الآخرين وما قالوا. طبعًا هذا لا يعني الترفع عن سماع الآراء، والاهتمام بأقوال النقاد؛ بيد أن الكاتب يضعها في موقعها الصحيح، فهي في النهاية مجرد رأي انبنى على ذوق أو انطباع، واستثني منه ما ركن إلى علم أو برهان، وكلاهما -النقد بذوق أو بعلم- لهما حظ من النظر والعناية، ولكن بقدر معلوم، لا ينقص فيخفى، ولا يطيش فيطغى.
نسيجك أيها الكاتب وأيتها الكاتبة لا يفترض فيه التمازج أو التساوي؛ فربما أربى شيء على غيره، وربما كمن ملمح وبرز آخر، وقد يتقدم جزء تأخر فيما مضى، أو يبدو ما توارى، أو ينقص الذي زاد والعكس. الشيء المهم أنه من صنعك أنت، وأنك اقتنعت به وأرضاك، والأكثر أهمية أنه سيغدو سمة عليك، ودليلًا يوصل إليك، فإن لم ينجح في تحقيق ذلك؛ فأنت بحاجة للمزيد من العمل والتعب حتى تصنع نسيجًا فريدًا، وتحجز بصمتك الخاصة، كي يقال عنك في عالم الكتابة “نسيج وحده”، وتؤول منجزاتك إلى أن يشار إليها على وجه اليقين بأنها من نصوصك، ومن بوحك، وروحك، وكدّ ذهنك، وسهر لياليك!
أما السؤال الأهم فهو عن كيفية حياكة هذا النسيج؟ مختصر الجواب أن النسيج يحتاج أولًا إلى مواد أولية يتكون منها، وهذه المواد تختلف في شكلها وحجمها ومصادرها والكمية المستعملة منها، وهي ما بين قراءة وسماع ومشاهدة، بيد أنه لامناص فيها من إعمال التفكير بهذه المواد، وإدامة التقليب بالذهن والتأمل فيها، حتى يكون المنتج متوافقًا مع عقلك وقلبك وروحك، وهذا هو الأمر الثاني، ولا مناص منهما.
وثالثهما بعد حصر المكونات، واستخدامها، والتفكر فيها، هو المراجعة الذاتية أو مع الآخرين، فالمراجعة منهج رشيد، ومن سبل الإنضاج، ورؤية الأثر المتوقع قبل العزم على النشر. في عصرنا الحاضر كثرت النوافذ للمراجعة، فقد يكتب المرء كلمة عن فكرته، أو يصور مقطعًا قصيرًا لعرض رأيه، ويحصد هذا العمل اليسير من التفاعل والنقاش ما يثري فكرته، ويشارك في تجويد نسيجه المنتظر، حتى لو لم يغير منه ناسجه حرفًا ولا معنى ولا ترتيبًا، لكن يكفي من منافعه حسن الاستعداد لما سيأتي من سهام أو ثناء.
ثمّ إن من أدوات صناعة النسيج للكاتب أن يسعى سعيًا حثيثًا في امتلاك رصيد معجمي لغوي، وأسلوب في الكتابة والعرض والإقناع. وأيضًا أن يعيش مع فكرته عيش العاشق مع ما يحب؛ فليست المسألة اقتناص بوارق، أو صيد عوارض، أو حجز قدحات من الشرر، وإنما الشأن كله يجتمع في فواتح المعايشة، وفضائل الانتظار، ونتائج التداخل مع الفكرة لدرجة الذوبان فيها. بغير هذا الانصهار الحميد لا يمكن ابتداع الجديد، أو الإتيان بغير مألوف. بمثل هذا الجهد يصير العمل ذا متانة وإمتاع وفرادة، وواحدة منها كافية!
كذلك من الأدوات محاولة الإحاطة بجميع ما نشر وقيل عن موضوعك إن سبقك إليه أحد. هذه الإحاطة ستفتح لك بابًا لم يلجه سواك، وستعطيك قوة في النقد، وقدرة على المعالجة بوجهة نظر جديدة لم تطرأ على بال. هي منهكة حقًا؛ لكن ثمرتها تستأهل هذا العناء. ومن عظيم الأدوات ألّا تتكبر على الفائدة من أي أحد، فسوف يلهمك الطفل الصغير، وقطعًا ستفيدك العجوز الفانية، ولن تعدم من العامي كلمة ذات حمل ثقيل.
بذلك ستمتلك نسيجًا كتابيًا جميلًا. سيصبح لك كلمات خالدة تروى، وآراء متداولة خاصة ما كان فيها استشراف أو دراسة لطبائع البشر أو المجتمعات، أو لوازم السنن، وسيصير بعضها رأيًا يحصد عددًا من المتمسكين به والمنحازين إليه، ولن تكون كتابتك عابرة بوجود مثل هذا النسيج، ولن تسطر شيئًا تندم عليه أو يسئ لتاريخك لا قدر الله؛ بل مع الوقت والمران والتطبيق سيصبح جلّ ما تكتبه جوابًا عن سؤال مكتوم، أو استثارة لتساؤل مشروع، وفي كلا الحالين أنت تخدم نسيجك الكتابي، وتلقي عليه إهاب السمو والبهاء، وتسقيه من ماء الخلود. فيا أيها الكاتب وأيتها الكاتبة: بادروا إلى صناعة نسيجكم! قد يطول بكم الزمان قبل إحكام الصناعة، لكن المآل حميد ويستحق الاشتغال به.
هذا النسيج القشيب قد يفتح لك الطريق نحو ابتكار المصطلحات وسك الكلمات. هي مصطلحات ستنقل عنك وتنسب إليك، ولن تفلح الجرأة عليها بالسطو والدعوى، مثلما حفظت “الأماني القومية” عن الزعيم سعد زغلول، و”الأيدي المتوضئة” عن الكاتب مصطفى صادق الرافعي، و”القابلية للاستعمار” عن عالم الاجتماع مالك بن نبي، و”الأقلية الكاسحة” عن الباحث د.حسن ظاظا -تعبيرًا عن اليهود-، و”الجماعة الوظيفية” عن المفكر د.عبدالوهاب المسيري، و”القوة المرجحة” عن الأستاذ الجامعي د.عبدالرحمن الإبراهيم -تعبيرًا عن أبناء البادية والقرى والغواصين والعلماء والمثقفين-، وهذه الإشارة قد تغني عن الاسترسال في الرصد، علمًا أن جمع هذه التعابير “المسكوكة” فكرة لطيفة مفيدة لعل أحدًا أن ينشط إليها!
الرياض- ليلة الجمعة 03 من شهرِ رجب الحرام عام 1446
03 من شهر يناير عام 2025م
2 Comments
استاذنا العزيز، من تحفك الكتابية هذه المقالة التي أطلت علينا في هذه الليالي شديدة البرودة، كانت أشبه بقطعة من الصوف تدفئ أفكار الكتاب التي تغلي في مرجل لا يهداء..
نسيج المقالة بديع بلاتنافر، بل بتقاطع وتداخل غريب ومألوف، يلتحم النسيج الكتابي بطريقة تخص من يحيك كلماته بصنعة جمالية تمنحنا قطعة فريدة، خلف النسيج الذي خطته أناملك بنصيحة صادقة من كاتبنا لكل من يحاول أن يمسك الخيط الأول من نسيجه، فأجدت وأوجزت وأبدعت.. مقالة بديعه!
شكرا لكم كاتبنا المتابع