في بلادنا مؤسسات سعودية قديمة، عريقة، منجزة. ارتبطت هذه المؤسسات برجالات من البناة الأوائل، تركوا فيها أعظم الأثر وأبقاه. إن تخليد مآثر أولئك “الآباء المؤسسين” لمن أجلّ الأعمال؛ ففيه تاريخ وسيرة، وإدارة وتدبير، وقدوة ومثال، وحفظ لتاريخ كيانات وأعمال، وفيه حسن عهد، ووفاء كريم، وتأكيد على عراقة البلاد بكل مكوناتها. ولست أنكر اغتباطي من حين علمت عن نية رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي إقامة ملتقى مآثر سماحة الشيخ عبدالله بن حميد وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام، فالشكر واجب للرئاسة ورئيسها الشيخ أ.د.عبدالرحمن السديس، ولجميع العاملين معه، ولرعاة الملتقى على اختلافهم.
سبب الغبطة لا يخفى، فسماحة الشيخ عالم وفقيه وقاض ورجل دولة كبير، جعل الله له المحبة والمهابة والقبول والتوقير في نفوس الخاصة والعامة وعيونهم وقلوبهم. وهو مثال على الطراز الرفيع الذكي الزكي من مشايخ البلاد، ومن الرموز العلمية المهمة في عصرنا وأرضنا، ومن سادات فقهاء الحنابلة بزماننا. كما أن هذا النهج الرشيد قد يدفع مؤسسات أخرى إلى محاكاته، وما أشدّ الحاجة إليه. وفي مثل هذا الملتقى ثناء على جهود ولاة الأمر، وبيان لحرصهم على المصالح الدينية والدنيوية المرعية. ومن أعظم أسباب حبوري أن والدي كان يحب سماحة الشيخ عبدالله حبًا جمًا -رحمهما الله-، وأني لأتعبّد الله بحب الشيخ وأنجاله فوق فضلهم، وعلمهم، وصلاحهم الذي به يستحقون المحبة -أحسبهم ولا أزكي على الله أحدًا-.
سيقام الملتقى بمكة غدًا وبعده في يومي الثلاثاء والأبعاء. وسيطلق مع جلسات الملتقى العلمية، مشروع مجموع آثار سماحة الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله-. وسوف تبحث الجلسات المصاحبة على التوالي جهود الشيخ العلمية والعملية، وتتحدث عن حياته الاجتماعية. بينما تدرس الجلسة الثالثة معالم المنهجية العلمية عند الشيخ، وتختتم الجلسات عن منهج الشيخ عبدالله في الأقضية والفتوى، وعنايته بالعقيدة. هذه الموضوعات فيها الجديد خاصة إذا استجليت طريقة الشيخ في الإدارة، والتأسيس، والتعامل مع المراكز الحكومية الأخرى؛ فهذا الباب مهم، وتزداد أهميته في المسيرة الإدارية المشيخية. ومن الموضوعات المهمة مجلس الشيخ القضائي، وتعامله مع هذا الأمر الجلل، ونظرته له وللقائمين عليه.
مما يظهر في الملتقى حضور بعض أبناء سماحة الشيخ وهما الشيخان أ.د.صالح و أ.د.أحمد، وهما عالمان مرتبطان بالحرم الشريف، وبالعلم الشريف، وللشيخ صالح عناية فائقة بكل ما يتعلق بتراث والده الشيخ العلمي. كذلك يستبين من جدول الملتقى أن رئاسة جلساته أسندت لعلماء كبار، ورجال دولة حكماء. أول جلسة سيرأسها الشيخ عبدالله بن منيع أقدم عضو في هيئة كبار العلماء، وقد زامل الشيخ ابن حميد في عضويتها إبان تأسيسها عام (1391=1971م)، وهو أحد أكبر خطباء عرفة سنًا عبر التاريخ، ثمّ يرأس الشيخ أ.د.صالح بن حميد الجلسة الثانية، وهو الذي خلف والده -باستحقاق- على مناصب كثيرة بعد زمن من وفاة الشيخ الأب.
أما ثالث الجلسات فسوف تكون برئاسة الشيخ أ.د.عبدالله التركي أشهر مدير لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأول وزير للشؤون الإسلامية، وأحد الأسماء العلمية والإدارية الكبيرة في بلادنا والعالم الإسلامي. علمًا أن الشيخين المنيع والتركي ممن تتلمذ على سماحة الشيخ ابن حميد، وتتلمذ عليه كذلك نجله الشيخ صالح. وسوف تكون آخر جلسة برئاسة الشيخ صالح آل الشيخ العالم النحرير، ورجل الدولة الكبير، وحفيد سماحة المفتي الأكبر، الذي كان سماحة الشيخ ابن حميد أحد أهم طلابه وأبرزهم.
وأما مقررو الجلسات والمتحدثون فغالبهم ممن ارتبط بالشيخ المحتفى بمآثره ارتباطًا شخصيًا بقرابة أو عمل أو صداقة وزمالة مع أب، وفيهم من تبحر بدراسة آثار الشيخ العلمية والعملية، فكانوا من خيرة من ينتقى للحديث في هذا المحفل المبارك، وإنه لمحفل مبارك في مكانه، وفيمن رعاه وأداره وتابعه وسانده ماديًا ومعنويًا، وفي شخصيته، وفي نتائجه وثماره المتوقعة إن على صعيد آثار الشيخ، أو اقتفاء هذا السبيل الحميدة عاقبته؛ حتى تتسابق الأجهزة الحكومية إلى مثل هذا الاحتفاء العلمي.
إن بلادنا عظيمة، عظيمة حقًا بكل شيء فيها، وعليه فلا يستغرب أن تبدع الإبداع العلمي والعملي، وليس بعجيب أن تبدأ منها مبادرات وأفكار فيها ابتكار أو مسابقة أو تجديد، حتى تغدو الأولى والأْولى بكل ما يستحق الثناء، وحتى تكون قبلة ومصدرًا وحلم ذوي الهمم والطموح. إن بلادنا لعظيمة وجديرة بأن تقدم نماذجها للناس قاطبة، وهذه النماذج تشمل الإنسان، والفكرة، والكيان، والمشروع. نحن يا قوم أهل لذلك وما فوقه، وأهليتنا حقيقة بالرعاية من قبلنا كل بحسبه، كي نحسن الأداء، والتبرع، والتصرف، وهذا الوجوب عام على كل قادر، وقد لا يعذر بتركه أحد.
الرياض- ليلة الثلاثاء 23 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446
24 من شهر ديسمبر عام 2024م