فُجع بيتم باكر إثر سقوط بضاعة على رأس أبيه عام (1360=1941م)، ثمّ تكررت المواجع عقب ذلك بخمس سنوات بوفاة خاله عبدالله بن أحمد الزنيدي، وهو الرجل الشفيق الذي تكفّل بهم عقب رحيل والدهم! حمل الفتى العبء مستقلًا به ومتشاركًا مع إخوانه فيما بعد، ومارس العمل من أدنى درجاته، وصبر وصابر، واستعلى على رغبات النفس المتطلعة إلى كثير الراحة، ومزيد الطعام، مع التسويف والتواكل، ولم يغتر بلذاذة الكسل، حتى استطاع بناء مجد استثماري لافت، تجاوز التجارة إلى غيرها، وبه فاق أقرانه من رجال المال والأعمال، وضرب بسهم وافر الحظ في سير نبلاء العصر، ومسيرة فضلاء البلاد.
ذلكم هو الشيخ الوجيه عبدالعزيز بن أحمد بن غنام الغنام المولود في الكويت عام (1349=1930م)، وهو ينتمي إلى قبيلة بني تميم، وتعود أصول أسرته إلى مدينة الزلفي بالسعودية، وقد هاجر جده الأعلى عبدالعزيز بن غنام بن سالم الغنام من الزلفي إلى الكويت عام ( 1233=1817م). إن الارتباط بين الكويت ونجد أظهر ما يكون في كثرة الأسر الزلفاوية التي استقرت في الكويت، وما لهم من حضور رسمي وشعبي كبير فيها. ولأكثر هذه الأسر الطيبة ارتباط وثيق الصلة بديار الأجداد، ومنهم الشيخ عبدالعزيز الذي يزور بلدته النجدية كل سنة، وله فيها مزارع ذات نخيل مثمر بأصناف من التمور تشهد بجودتها الديوانيات والقصور. ومن ارتباطه بها حرصه على حفظ تاريخها، وإدامة التواصل مع أهلها، والمشاركة في حفظ شجرة أسرته وتحديثها، والتغني بمواطن الجمال والمكارم في بلدته بالقول والإشارة!
تلقى أبو أحمد شيئًا من التعليم في مدرسة النجاة الأهلية بالزبير الحاضرة النجدية بجنوب العراق، ولم يكمله لمسيس الحاجة إلى العمل والكسب؛ فبقيت فيه نهمة للعلم والتعلّم. ومارس العمل لدى أسرة الحمد في البصرة منذ وفاة خاله عام (1365=1946م)، وعمر الفتى آنذاك ستة عشر عامًا فقط، علمًا أن أسرة الحمد أسرة كويتية زلفاوية لها تجارة عابرة للقارات. وتدرج في المهمات من مراسل إلى أمين صندوق فمشرف على البضائع وتصديرها، وفاز بخبرة جيدة، وسمعة ممتازة، مع القدرة على إعاشة والدته وعائلته الصغيرة، وتوفير المال قدر المستطاع، حتى أنه تخفف من زوائد المأكل والمشرب والملبس، ليجمع القرش مع القرش، وهي الفلسفة التي يحث عليها، للتوفير، والادخار، والتخلص مما لاحاجة له، مع ضرورة الحذر من التطلّع إلى منزلة أعلى من قدرات المرء، ويالها من حكمة في الاقتصاد والتدبير تركها بعض الناس فآل مصيرهم إما إلى الإعسار، أو العيش في كآبة واستقلال لآلاء الرب المتفضل المنعم.
وكان من حسن استشراف الشيخ عبدالعزيز وإخوانه للمستقبل واستثمارهم للفرص، أن دخلوا في تجارة قطع الغيار والاستيراد من اليابان عام (1370=1950م). لم تكن السيارات حينها كثيرة، ولم تشتهر للصناعة اليابانية سمعتها البراقة التي نعرفها الآن، ولدى شقيقه محمد بصر بمداخل هذه التجارة. ومن حسن العهد حتى مع غير البشر أن الشيخ عبدالعزيز يحتفظ في ديوانه العامر بصورة لدكانهم الأول، ويظهر في الصورة مع أخويه العظيمين مثله: محمد -رحمه الله- ويوسف، وفي أسفل الصورة نص المبايعة وتوثيقها. عقب ذلك توسعت بفضل الله تجارتهم في العقار، والمجوهرات، والأسهم، والاستيراد، والمطاعم، والمدارس، والفنادق، والمقاولات، والسيارات، وتجاوزت الكويت إلى خارجها، وظلّ الإخوة الثلاثة أوفياء لشراكتهم وقديم عهدهم، والله يزيدهم وأجيالهم تماسكًا وتآزرًا وتعاونًا على البر والتقوى.
ومما لا ينسى في مسيرة الشيخ عبدالعزيز، أنه حين وقع الغزو البغيض على الكويت عام (1411=1990م) لم يغادر بلاده مع أن أسرته كانت كلّها خارج البلاد في إجازة الصيف. بقي أبو أحمد في بيته وديوانه ومحلاته، وتعامل بحصافة مع ضباط الاحتلال وجنوده وموظفيه، وفي الوقت نفسه كان خير معين للمقاومة الكويتية، ودائم الصلة بالحكومة في مقرها المؤقت بالطائف، وإن هذه الموازنة في مثل هذه الأحوال لصعبة عسيرة إلّا على إنسان موفق محاط بحفظ الرب، هذا الحفظ الذي حظيت به الكويت وأهلها، حتى قال مقاول كردي للشيخ عبدالعزيز: سوف تنجون من احتلال صدام لأن الله معكم، ولكم أعمال خير وإحسان لا تنكر. يقول الكردي هذه الكلمة بصيغة الجزم وهو قادم مع جيش محتل، ويعمل بعقد معهم.
خلال شهور الرباط السبعة العصيبة، لم يتوقف الشيخ عن الاستضافة والبشاشة حتى مع البغضاء الدخلاء، اتقاء لشرهم، ونفعًا لمواطنيه، وخدمة لبلاده وحكومتها ومقاومتها الوطنية. ومع أن الفرصة تهيأت له مبكرًا للنجاة إلّا أنه آثر المكوث، ولم يتنغص بما سرقه المحتلون من بضائع وأموال مرة تلو المرة؛ لأن الكويت عنده أهم، وكلما أبلغه موظفوه بأن المخزن نهب، حمد الله واسترجع، وعاد إلى شأنه الحياتي كأن شيئًا لم يكن.
ولأنه لم يغادر الكويت أصرت والدته المربية الفاضلة منيرة الزنيدي-رحمها الله- على البقاء معه.هذه الوالدة التي أثرت في شخصيات بنيها كثيرًا كثيرًا؛ فأحسنت التربية والتوجيه، وصانتهم من الوقوع تحت غوائل الفقر، أو لواء الاستجداء والحاجة، فعملت وربحت ما يعين بيتها الراحل عائله وكافله، ولم تقنع بذلك بل حثت أولادها على التحلي بمكارم الأخلاق، ومزاحمة الرجال في ميادين المحاسن والفضائل، وركزت على خصلة الكرم والاستضافة وبذل الندى؛ ذلك أن سجية الكرم تجلّي المحامد وتزيدها، وتحجب غيرها إن وجدت.
لأجل ذلك، ينتصب ديوان الغنام في الكويت بشموخ يستحق الإطراء. حضر في هذا الديوان جلّ أمراء البلاد وشيوخها -رحم الله الراحلين وحفظ الباقين-كبار رجالات الدولة فيها. كما استضاف زعماء دول الخليج ومنهم الملك فهد والملك عبدالله والأمير سلطان -رحمهم الله- والملك سلمان -حفظه الله ورعاه- الذي سأل مضيفيه: هل أنتم من “العْقدة” أم “البلاد”؟ وعندما رأى أنواع التمر الفاخر في ديوانهم مازحهم -حفظه الله- بالسؤال: هل هذا التمر من الغاط أم من المجمعة؟! وقد شهد ديوان الغنام ومجالسه وصالاته حضور زعماء وعلماء وحفاظ ووجهاء ووزراء وسفراء وكتّاب ومفكرون وأطباء ومهندسون وطلاب من التعليم العام، وجنود وفئام من عامة الناس، وهم من داخل الكويت، ومن ضيوفها؛ لأن زيارة ديوان الغنام أصبحت جزءًا من برامج الزيارات الرسمية، وغدا معبرًا عن أصالة الثقافة الكويتية.
وتمتاز الديوانية بفخامة المكان، وحسن الترتيب، ودقة التوثيق، وكثرة الصور التاريخية. كما يمتاز الديوان بتخصيص وقف ناجز يصرف عليه كي يستمر ولا يتوقف جعله الله عامرًا معمورًا. ومن مزايا الديوان حسن إعداد الضيافة مشروبها ومأكولها، حتى أن المرء ليحار أيها أطيب، ويزداد العجب حين نعلم أن هذه الموائد لا تنقطع، وتقام للإفطار والسحور في شهر رمضان يوميًا، وأيضًا ولائم العيدين، وهدايا التمور المستمرة. أما أجلّ مايراه الزائر فهي تلك البشاشة من الشيخ وأخويه والأبناء والأحفاد والأسباط؛ حتى لكأنهم تواصوا بها، وتناقلوها في أمشاجهم وراثة خالصة حتى ملأت البسمة منهم المحيا، وبدت علائم الرضا والسكون عليهم والحمدلله.
ومن مواضع الإجلال حرص الجيل الثاني والثالث على الديوان وأضيافه، ودوران الأحاديث النافعة المتنوعة فيه، وشعور الداخل الجديد فيه بألفة حتى لكأنه يخطر في مكانه، ويخطو فيما عرف وألف، واختلاف أصناف الزوار حت ىفي الثقافة واللسان، حتى أن الديوان طبع كتابًا عن الدواوين في الكويت بخمسة عشر لغة لتوزيعه على الزوار حتى يتعرفوا على ثقافة الديوان باختصار. هذا الاستثمار لعمركم من الاستثمار الأمثل الذي قد يغفل عنه بعض أكابر الأسر العريقة، وأصحاب المجالس والديوانيات، وهو لا يقل عن الاستثمار بتعليم الأجيال فنون التجارة واسرار العمل، ومنحهم الفرصة للتجديد والابتكار والتجربة المأمونة، وهو عين ما صنعه الشيخ عبدالعزيز وأشقاؤه مع أولادهم وأحفادهم بداية من عام (1411=1991م)، وكلا الاستثمارين يصبان في نفع الأسرة والمجتمع والحكومة.
وقد شارك الشيخ عبدالعزيز في مجالس إدارة كيانات حكومية وتجارية واجتماعية قدر مستطاعه وبما يمكنه الخدمة دون قصور، كما ظلّت ذاكرته وفية لأصدقائه وأساتذته وتجار الكويت والزلفي والبصرة والزبير، ولمن وقفوا معهم في عراك الحياة أول الأمر خاصة والدته وخاله الذي وضع له صورة كبرى في ديوانه. ولم بنس بداياته المتواضعة، والقرض الحسن الذي أخذه من أسرة الشايع ففرج الله عليه به. ولم يتخل الشيخ عن تواضعه وقربه من العامة؛ حتى أن رجلًا دخل لديوانه وخلع نعليه وجلس وأقدامه حافية على الرخام البارد، فقام الشيخ من مكانه ولم يأمر احدًا، وإنما أحضر للضيف نعليه كي لا يتسرب البرد إلى جسده من أقدامه.
هذا طرف بهي، من سيرة رجل أبي، همام رضي، لم ينكسر أمام وطأة حال، ولم ينكسر لقلة المال، ولم يخضع لما يعترض المسيرة من كدر ورهق وصعوبة معالجة للبشر والأحداث. وقد أفدت من زيارتي لديوانه العامر مساء أمس الأحد، ومن قراءة لكتاب عنوانه الصادق هو: عائلة الغنام رمز الضيافة الأصيلة للديوان الكويتي، تاليف: د.عبدالمحسن الجارالله الخرافي، صدرت طبعته الأولى عام (1429=2008م)، والمؤلف مهتم بتوثيق سير الأسر والشحصيات والبيوت الكويتية. وكذلك من استعراض سيرة الشيخ مستلة من كتاب عنوانه: رجال في تاريخ الكويت ليوسف شهاب، إضافة إلى متابعة بعض اللقاءات الصحفية معه، أو المصورة والمحفوظة عبر اليوتيوب، والمتوقع أن حياة الشيخ -أمتع الله به- تحتفظ بالمزيد من الخصال العبقة، والمرويات الحميدة، ولا غرو فالنفوس الكبار لا يتعاظم أمامها شيء وإن كان على التحقيق عظيمًا، صعب المنال، عسير المبلغ!
الكويت-الاثنين 15 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446
16 من شهر ديسمبر عام 2024م