سير وأعلام

الدكتور سليمان بن إبراهيم العسكري وصنعة الثقافة!

ليست صناعة الأسلحة هي الصناعة الثقيلة فقط، ولا تحتكر هذا الوصف عليها فقط؛ فكل ما يرتبط بالقوة الصلب منها والناعم هو صناعة ثقيلة، ولا غرو إذ لا تستجلب القوة بشيء هين وهي العظيم شأنها، الكبير خطرها. هذه النتيجة سوف يصل إليها من يتابع مسيرة الشخصيات التي عملت في الحقول الناعمة المنتجة للقوة؛ ذلك أن أي شيء يرتبط بالتطوير، والتغيير، والتجديد، لا بد أن يتصادم مع معوقات أكثر مما يصادفه إجراء السائد، وتكرار المعتاد.

ألحت هذه الفكرة عليّ خلال زيارة أنيسة لمدة ساعات، وما تلاها من نقاشات. كانت الزيارة يوم السبت الماضي للدكتور سليمان بن إبراهيم العسكري في منزله العامر بضاحية عبدالله السالم. والدكتور العسكري أستاذ جامعي، مختص ومهتم بالأدب والتاريخ، وحاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة مانشستر، وهو البصير بالعربية والعروبة، الناظر بعين ثاقية في أحوال المجتمع ومقتضيات الاجتماع، الخبير بمقتضيات الإدارة، والقريب من قامات سياسية وإدارية كويتية، ومن رموز ثقافية وفكرية عربية، وبالتالي فهو من أبرز الأمثلة على الإدارة الثقافية المؤسسية المنتجة ذات الخلود في عالمنا العربي. هذه المزايا وهبت للدكتور العسكري القدرة اللافتة على إحكام الرأي، وحشد المعنى، وسبك القول، وصولًا إلى سكه في قالب جامع مختصر قابل للحفظ والرواية.

أمضى د.سليمان العسكري حياته الوظيفية في حقول التربية والتعليم والثقافة، وهي حقول شديدة التداخل والتشابك، ويمكن جعلها تحت مظلة الثقافة، وأنعم بها من مظلة. كان موقعه في هذه الحقول موقع المثقف والمفكر، وموقع المدير والمسؤول، وما أصعبهما من موقعين يكثر بينهما التضاد، حتى يحار المرء أيهما يغلّب: سعة الثقافة، أم حذر الإدارة! والموفق من وضع كل شي في مكانه المستحق، حتى لا تكون الجناية على الثقافة، ولا يهدر للإدارة حق.

وقد عمل د.العسكري أستاذًا في جامعة الكويت، وأمينًا عامًا للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ورئيسًا لتحرير مجلة العربي، ومديرًا للمركز العربي للبحوث التربوية، وقبلها كلّها بدأ حياته الوظيفية مسؤولًا عن مكتب مقاطعة إسرائيل في وزارة المالية الكويتية، مع رجل الدولة الكبير عبدالرحمن بن سالم العتيقي-رحمه الله-. ويضاف لذلك عضويات ثقافية وإعلامية كويتية وعربية ودولية، ومؤلفات وأبحاث تدرس تاريخ المنطقة وآمالها وسير بعض رموزها، هذا غير ماراجعه وحكمه من كتب ودراسات وأبحاث، وهي مع الأعمال الثقافية الأخرى مما يضاف لرصيده وإنتاجه العلمي والعملي حتى لو لم ينسب إليه مباشرة.

من حسنات الدكتور العسكري أنه حين أسندت إليه أمانة المجلس الوطني، بادر للسعي باستصدار مرسوم أميري يقضي بضم شتات الأعمال الثقافية بمعناها الواسع، لتغدو تحت جناح المجلس، ولم يخش من كثرة الأعمال أو صعوبة التوفيق بينها، ذلك أن الذهن الحاضر، والهمة العالية، والنظرة البعيدة، كفيلة بتسهيل الصعب، وتسخير العسير. أثمرت هذه الجهود عن ميلاد أعمال جديدة، أو تطوير أعمال قائمة، أو توسيعها، وهذه سياسة عسكرية ثقافية يتبعها المثقف المسؤول أينما حلّ. هذه المنجزات كثيرة من أجلّها المكتبة الوطنية، والمعاهد العربية والإسلامية في أوروبا، ورعاية الإبداع والمبدعين، والنشر الدوري، والترجمة، والامتداد الثقافي امتدادًا عاموديًا وأفقيًا.

ثمّ حين وقعت أزمة الكويت لم يستسلم د.العسكري ويركن للصمت، وإنما سارع لافتتاح مكتب إعلامي في الكويت بالمتاح الممكن، ونهض لإكمال بعض مشروعات المجلس الوطني، حتى أنه أصدر أحد كتب سلسلة عالم المعرفة من مصر، وفيه حصر لمنجزات الكويت الثقافية. ونشر كذلك صحيفة كويتية توزع مع صحيفة الأهرام العريقة، وحصل على بثّ يومي كويتي من إذاعة مصر، وساعده في ذلك مواطنوه ونبلاء من مصر. إن الثقافة لا تعرف اليأس البتة، ولو أن تبوح بربع كلمة!

وقد ارتبط د.سليمان مع شخصيات كويتية عديدة، وأثنى على جهودهم لنشر الثقافة من الكويت، وقدّر لهم التعاون والتفويض، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ؛ بل أشاد بمن خلفوه في أعماله، وعادة أكثر البشر خلاف ذلك، والمحسن منهم من كفّ عن لا وعن نعم! ومن الوفاء ما عمل عليه مع آخرين لإصدار كتاب عن الوزير الكويتي ورجل الدولة المثقف عبدالعزيز حسين التركيت -رحمه الله-، وهو أحد منارات التعليم والثقافة في الكويت.

لقد نالت الكويت المرجعية الثقافية العربية بمفهومها الواسع في زمن مبكر، من خلال الكتب، والمجلات، والترجمة، والمتاحف، والمعارض، والإصدارات، والأسابيع، والعلاقات الثقافية، والإفادة من سياسات ثقافية دولية، حتى نجح قادة الثقافة في الكويت بتقديم بلادهم إلى العرب كي أبناء العربية أن البلدة النفطية ليست صندوق أموال فقط، ونجحوا في هذا الصنيع حتى أن مجلة العربي تقرأ في جنوب السودان والسنغال، وتصل لبعض البلاد تهريبًا، ومثلها سلسلة عالم المعرفة التي يتزاحم حولها القراء، والوصف يتكرر مع برامج ثقافة الطفل، والمهرجانات، والاحتفالات بالفنون والمسرح والآداب وغيرها. هذه النتائج الباهرة تنسب لأسماء، وإن د.سليمان بن إبراهيم العسكري منهم لبمكان.

حقًا إن الثقافة أساس بكل تفاصيلها كما يقول د.سليمان العسكري. وحقًا إن إصلاح العقول يصلح الأحوال غالبًا، بينما إصلاح الأحوال ليس بالضرورة أن يصلح العقول دائمًا! وحقًا كذلك إن الثقافة صناعة ثقيلة كما يقول د.سليمان العسكري. أما لماذا هي ثقيلة؟ فيبدو -والله أعلم- أن وسمها بالثقل يعود إلى المشقة في إدارتها، وإشكالات التعاطي مع التحفظات الحكومية والمجتمعية، وحرج التعامل مع المثقفين أنفسهم، وجسامة تأثيرها على الشعوب والحضارات، ويزيد الثقل ثقلًا العجز عن إقناع الآخرين بجدوى الصرف عليها وبجدوى آثارها. أعان الله كل من يتولى مسؤولية ثقافية كبرى! والبشرى لهم فهذه الصناعة تمتاز بالإمتاع، والخلود، والتأثير.

 @ahmalassaf

الكويت- ليلة الاثنين 15 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446

16 من شهر ديسمبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)