أحسن الشيخ د.إبراهيم المديهش كثيرًا كثيرًا في قناته العلمية المباركة النافعة عبر تطبيق التليقرام، وهي قناة جديرة بالمتابعة والنهل من ينبوعها والاستضاءة بدررها. من إحسان الشيخ المديهش أنه كتب تعريفًا وافيًا عن أحد المشايخ الأخفياء وعن كتبه وجهوده. لم يكن الشيخ المترجم له بارزًا للعامة، أو مشاركًا في المسائل الثائرة، وإنما حبس نفسه على العلم، والبحث، والدرس، والتعليم، وإدارة الشؤون الشريفة في المساجد التي تشد إليها الرحال، وفي جامعات العلم ومعاهده التي يقصدها الطلبة من مئة بلد وأزيد.
ذلكم العَلَم هو الشيخ أ.د.عبدالله بن محمد بن أحمد الطريقي (1366-1446=1947-2024م) الذي بلغنا نعيه اليوم بعد زمن من المرض المتعب، وعقب سنوات من العناء على إثر جلطة أقعدته، وأعظمت له الأجر بكتابة عمله حال الصحة بإذن المولى وجوده، وكذلك لأهل بيته ومن تولى خدمته من زوج ونسل. وسوف يصلى عليه عصر اليوم في جامع الراجحي شرق الرياض، ثمّ يدفن في مقبرة النسيم، والله يثبته بالقول الثابت، وينير له المرقد ويرحمه، ويحسن العزاء لعائلته وأسرته، ويرزقهم الصبر والأجر وخير منال يرتجى.
امتاز الشيخ عبدالله بالتنشئة العلمية منذ صغره، وفي يفاعته وشبابه الأول. درس القرآن صغيرًا، والتحق بالمعاهد العلمية ثم كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء. إن أثر القرآن، والتأسيس العلمي، ومعايشة العلماء والأخذ عنهم مباشرة، وربط الطلبة بأصول ثقافتهم، ومنابع حضارتهم؛ لأساس متين من أسس النبوغ والتفوق، وسبب أصيل من أسباب ولائهم ونفعهم لمجتمعاتهم؛ لأنهم يشعرون بحقيقة الانتماء للدين والوطن واللغة والتاريخ والتقاليد، فلم يبتلَ أحد منهم ببت الصلة بهذه العُرى الوثيقة، وإن هذا البعد لركن ركين من فلسفة التعليم، فقد يبرع من لا يرفع رأسًا بالمصالح العامة والعليا بسبب ما في جوفه من فراغ، وما في ذهنه من ضباب.
ثم عمل الشيخ بالتعليم العام والعالي في الرياض والمدينة سنوات طويلة، وأسندت له مهام إدارية عالية في المسجد النبوي التابع لرئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. وإبان عمله التعليمي والإداري الطويل المستفرغ للطاقة لم ينس الشيخ نصيبه من التعليم، والإفادة، والإشراف على الرسائل، وعون الطلبة، والمشاركة في المقابلات، ولجان المناهج، وإلقاء المحاضرات، والدروس في الدورات العلمية داخل المملكة وخارجها، وفي المواسم الثقافية.
أما أجلّ عمل علمي ظاهر للشيخ، فهو مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الأربعين وربما أنها أكثر، وهذا الرقم ينصرف لعدد العناوين فقط، إذ أن المحتوى لبعضها يتفرق في عدة مجلدات، مما يرفع الرقم إلى قريب من مئة. اختص الشيخ الطريقي بتراجم السادة الحنابلة، ومؤلفاتهم، وبما يرتبط بهم من بيوت ونسب وأقوال فقهية. كما بحث كثيرًا من المسائل الطبية بما يفيد في هذا الباب المتجددة مسائله، الدائمة الحاجة إليه، وما أجدر كلياتنا الشرعية، ومجمعاتنا الفقهية، بالعناية فيه مع غيره من النوازل والمسائل.
وقد حفظ الشيخ بمنجزه العلمي الذي تنوء به المراكز وأولوا العصبة من الباحثين تاريخ الفقه الحنبلي وعلمائه، بل حفظ لنا تاريخ علماء الجزيرة العربية والسعودية على وجه التحديد، إذ يحوي المعجم أكثر من سبعة آلاف ترجمة لعلماء ارتحلوا من الدنيا، وانتهى به البحث إلى ما قبل أعوام من الآن، ولولا المرض لزاد فيه حتى يكمل البقية الباقية؛ وليت أن بعض الباحثين الموفقين أن يفعل، فيكون الصنيع الجديد تكملة لأصل، أو استمدادًا منه مع التصريح بذلك.
وعندما فتح الله على الشيخ الفقيه هذا الباب الجميل من التاريخ وعلومه، جاز له أن يتعقب مؤلفات بعض العلماء الأكابر. من ذلك أنه ألّف كتابًا يتعقب فيه ما كتبه الشيخ د.بكر بن عبدالله أبو زيد آل غيهب عن تراجم الحنابلة، ورصّع الشيخ الطريقي كتابه بمقدمة أديبة لطيفة في الاعتذار للشيخ بكر، فلم يتخذ ما أدى إليه اجتهاده سلمًا لانتقاص عمل غيره في ميدان هو من فرسانه، بل ختم مقدمته بالاعتراف بأن عمله هو -أي الطريقي نفسه- عرضة لوجود الخطأ والوهم. هذا منهج رفيع من العلم، وطراز بديع سامق من الأدب والنبل. إن حوارات العلماء والأساتيذ الخالية من التنابز والغلو والتجريح لباب آخر من أبواب المعرفة والوقار والأخلاق.
هذا المنهج الرشيد القويم لا يستغرب من شيخ تربى ودرج في أسرة عريقة أنجبت الكثير من الأفاضل والفضليات، ومنهم رموز في العلم الشرعي، وعلوم النفط، والهندسة الطبية، والعمل الحكومي والتجاري والمجتمعي. هذا المنهج لا يستغرب ممن عاش منذ نشأته الأولى مع القرآن والسنة والعلماء وكتبهم ومعاهدهم. إن طريقته لطريق رشد وفضل امتن الله به على عبده وعلى قلمه وفكره، وهو طريق لا يستغرب من عالم شهد له عارفوه باللطف، وحسن الخلق، وخفيض الصوت، والبعد عما يؤذي ويجرح.
بقي أن أشير في الختام إلى ملامح مهمة لا مناص من الإشارة إليها. أولها أن شيخنا الراحل ينتمي إلى أسرة عريقة، من ضمن أسر مجتمعنا الطيبة جذوره، الأصيلة منابته، اليانعة ثماره. إن عراقة الأسر بما لها من لوازم، وما يؤدي إليها من أعمال، لمما يجب التمسك به من قبل الكافة؛ فقوة الأسرة ضمان للمجتمع وسلامة وأمن ونماء. وثانيها أن الشيخ الراحل أمضى حياته بالجدية والعزيمة، حتى كتب وألّف ما قد يعجز عنه جمهرة من الدارسين والمؤلفين، أو يطول الزمان قبل أن نرى مثل إنتاجه من مراكز ومؤسسات، فمرحبًا بالجدية والبكور وأخذ الكتاب بقوة، وأعاذنا الله من الكسل والتفاهة والغثاء، وإنها لبئس القعيد عن المحاسن والمفاخر.
وثالث ملمح أن خفوت الذكر في الدنيا، والتنائي عن الاشتهار والإعلام، قد يتبعه خلود الذكر مع الممات إلى أن يشاء الله، وإنها لعبرة ومدكر أن يُختم اسم المرء الغائب بالثناء والدعاء، وتطمس أسماء لطالما ذاعت وشاعت. أما الملمح الرابع فهو التأكيد على وحدة مكتبتنا العربية الإسلامية؛ فالفقيه قد يكون مع الفقه مؤرخًا ونسابة وبلدانيًا، وتلك عظمة من روائع حضارتنا التي بها نسر ونبتهج.
وخامس ملمح هو أن الشيخ عبدالله قد رزق بعائلة كريمة تتفهم ما يجب للعالم والباحث فيها، فقاموا بأمره خير قيام، حتى مع حرصه على ألّا يكلفهم. كان من ثمار هذه التشاركية الحسنة تلك المؤلفات الباهر خَبرها وخُبرها. فإلى السليلة الكريمة الصالحة أم محمد وإلى أولادها من بنين وبنات خالص الدعاء بأن يتقبل الله منهم أحسن الذي عملوه، وأن يكتب لهم من أجر العلم الذي نشره فقيدهم وفقيدنا وفقيد السادة الحنابلة أبد الدهر، ولهم العزاء الذي يليق براحلهم وبهم. وعسى أن يلهمهم الله الاستمرار في الإحسان لمؤلفاته، ومكتبته، وذكراه العبقة، وإنهم لفاعلون. غفر الله للشيخ، ورحمه، وثبته بالقول الثابت عند السؤال القريب وقته، وحين يقوم الأشهاد.
الرياض- الأربعاء 25 من شهرِ جمادى الأولى عام 1446
27 من شهر نوفمبر عام 2024م
One Comment
قرأت ما كتبته حول فضيلة الشيخ عبدالله الطريقي رحمه الله رحمة واسعة
فأحببت أن أشكرك على هذا المنشور الذي أسلت فيه قلمك للتعريف بهذا الشيخ العالم الذي ما عرف له قدره ومكانته إلا بعد موته
فنسأل الله أن يرحمه ويجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة
ويوفقنا لاغتنام وجود العلماء قبل رحيلهم