في القسم القصير المنشور من سيرته، قد لا يعلم القارئ الخلو من متابعة سابقة، أن الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السالم (1351-1446=1932-2024م) قد تبوأ منصب الأمين العام الثالث لمجلس الوزراء الموقر، وأمضى فيه أطول مدة لأمين حتى الآن (1405-1426=1985-2005م). قد لايعرف القارئ أن هذا الرجل الكاتب المحب لصنعته قد عمل في مناصب مهمة بوزارتي المعارف والداخلية، ثمّ ترأس مجلس الأمن الوطني بعد تأسيسه.
لكن القارئ دون حاجة إلى مزيد حصافة أو مهارات إضافية سيوقن بأن الشيخ عبدالعزيز مثقف كلف بالثقافة والأدب والقراءة، وأنه نتيجة لهذه المكونات الأصيلة أصبح كاتبًا يحب هذه الحرفة المقدسة، ويقدمها على ما سواها، ويعي لوازمها، وأنها ليست للتكسب الحرام أو المذموم، ولا لاستجلاب الثناء، وإنما للمشاركة في الارتقاء بالمجتمع في وعيه وأخلاقه وسلوكه، ولتحقيق مصالح البلاد وأهدافها. لقد كانت الكتابة في وجدانه صنعة نبيلة، وعملًا رفيعًا، لا تدركها الدنايا، ولا تزري بها الموبقات الفكرية أو اللفظية أو المسلكية، ولا تلحقها في الأهمية موهبة أخرى، وقليل من الكتّاب الذين يبلغ بهم هُيام الكتابة إلى درجة الشعور الحقيقي بهذه المنزلة الباسقة الطاهرة.
لقد كانت الكتابة أحد أسباب استقطاب مدير التعليم بمكة للمدرس الشاب الصغير حديث التعيين عبدالعزيز بعد أن رفض توظيفه في المديرية أول الأمر؛ بيد أنه حينما اطلع على ما يصله من المدرسة، ولمح في المكاتبات قلم أديب قادم، وأسلوب منشئ متمكن، عاد فقبل ماكان بالأمس يأباه، بل حرص على استرجاعه إلى حيث كان الفتى يأمل، واستأثر المدير بهذه الموهبة للإدارة الأعلى بدلًا من قصرها على مدرسة واحدة، وعلى طلاب قد يستفيدون ممن هو دونه في هذا الباب.
ربما أن الأديب الشاب قد استيقن حينها أن عصر الكتابة في هذه البلاد بدأ يطل برأسه الشامخة، وأن تاريخ الكتّاب آخذ في العودة إلى مرتبته المهمة، ومكانته المتقدمة. ربما أن هذا الأمر زاد في نهمته المغروسة في داخل نفسه نحو القراءة، والتضلّع من كتب الأدب. لقد كان الاطلاع، والحوار الثقافي، وطلب العلم، هو المحرك الأكبر في حياة الشيخ الأديب، فلا يؤثر على الثقافة والأدب شيئًا، ولم يندم على أمر أكثر من ندمه على فوات وقت دون جني المزيد من ثمار المكتبة. لعله لأجل هذه المحبة فضّل شيئًا من العزلة، والتخفف من المناسبات الاجتماعية، والبعد عن الإعلام الذي كان لعابه يسيل على من يماثل السالم منصبًا وأدبًا.
ومما واظب عليه الشيخ أبو عصام حتى وهو في منصبه ذي المعالي والمهام الشاقة، كتابة مقال أسبوعي طويل في صحيفة الرياض لمدة أربعة عشر عامًا. كان يوقع المقال باسم مستعار هو ” مُسْلم بن عبدالله المُسْلمْ”، دون أن يعلن عن شخصيته الحقيقة توقيرًا للمنصب، ومنعًا لأي تفسير لما يكتبه، أو تملّق بمديح مسرف ممن يجيدون الثناء على من يرجونه أو يخافونه دون النظر إلى حق أو أحقية أو استحقاق.
كما ألف الشيخ عدة كتب منها جزء يسير عن حياته عنوانه “ذكريات مما وعته الذاكرة”، ولم يكن في هذا النص الذاتي ضحية ولا بطلًا، بل أطلق لقلمه عنان الصراحة الوقورة، والأدب الماتع، وهذه سمة لأسلوب الشيخ، فهو أديب جالس المشايخ والعلماء ورافقهم، وهو تراثي لم ينغلق أمام محاسن العصر، ولم يفقد ثوابته بسبب البحث عن أيّ توافق حقيقي أو صناعي مع أي شيء حديث أو معاصر. وليته أكمل سيرته أو توسع فيها، لكن قضاء الله نافذ، وشيء مختصر أحسن من أشياء مفقودة كلها.
امتاز الشيخ عبدالعزيز السالم بتوقير ثقافته ولغته وسمت مجتمعه ومجاله العام، وسعى لخدمة حكومته وبلاده ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وظهرت هذه المناقب فيما يعمله أو يكتبه أو يحدث به، وشهد له من تعامل معه بحرصه على الصالح العام، ومنح الخدمة النظامية الممكنة. أما الذين عملوا معه فيثنون على بشاشته، وعذوبة لسانه، وحسن طويته، وما تعلموه منه سمتًا وإدارة وإخلاصًا. كما حرص الشيخ الأديب على توثيق علائقه وصلات بلاده بمثقفين كبار، وأدباء عظام، من أبرزهم شيخ العربية محمود محمد شاكر -رحمه الله-الذي لا يلين لغير عالم أو طالب علم مجتهد.
وكان للشيخ عبدالعزيز ارتباط وثيق الصلة ببلاده وتاريخها وبلدانها وقادتها وأناسها. من جميل الموافقات أنه ولد في الدرعية العاصمة الأولى للدولة السعودية، وكان ميلاده في سنة توحيد الدولة باسم واحد، ثم خدم البلاد في أكثر من مدينة ومؤسسة. وحين نال شهادته الجامعية من مصر آثر الالتحاق بالعمل الرسمي؛ كي يواصل الخدمة الوطنية مع أن نفسه تهفو لإكمال الدراسة، بيد أنه وازن بين المصالح، وقدّم أرجاها وأشدها إلحاحًا. ومما يتبدى في سيرته علاقته الوظيفية القوية بالملك فهد -رحمه الله-، حتى أنه رافقه في محطاته العملية كلها إلى أن ختم مسيرته العملية مستشارًا في الديوان الملكي.
غفر الله للشيخ عبدالعزيز الذي أُعلن خبر وفاته اليوم الأحد، وسوف يصلى عليه عصر يوم الاثنين في جامع الملك خالد بأم الحمام، ثم يدفن في مقبرة عرقة. رحم الله الشيخ الأديب الذي أحب الكتابة والثقافة، ونصح بصدق للمجتمع والحكومة والأجيال. أعلى الله منازل الرجل الذي لم يضع الوقت في التجارة وحصد الأموال، ولم يصرف الساعات فيما لا طائل منه، وظلّ يؤمن بأن الموهبة الكتابية حقيقة بالحرية من القيود كي تبدع بلا حدود غير المعتبر منها، وحتى تسمو الحروف وتتعالى بدون عوائق من وظيفة أو غيرها. لقد أعاد أبو عصام -مع آخرين- للكتابة والأدب قيمتهما التي كادت أن تنسى، وزادت به الكتابة ألقًا وشرفًا. وقد كان شيخنا الأديب ومسؤولنا الكبير أمينًا على الكتابة وقلمها في مناصبه وفي أدبه وفكره وعطائه؛ فغدا رجل دولة أمين، ورجل أدب مكين.
الرياض- ليلة الاثنين 09 من شهر جمادى الأولى عام 1446
11 من شهر نوفمبر عام 2024م
6 Comments
صباح الخير كاتبنا الأنيق:
أحيانًا يكون ما عندك دافع ولا رغبة ولا حتى شغف في الاستيقاظ لقراءة شيء ولكن حين تكون المقالة من كتاباتك تكون مضطر أن تقرأها بكل تلهف.. رغم ما يلفها من رثاء الفقد ووجعه ومرارته..
كاتبنا العزيز .. بصمة الإنسان كتاباته، والكتابة صَنْعةٌ لا تُصْطَنَع، فإن أحببت كاتباً لأسلوبه لن تفوت له مقالة أبد الدهر مهما بلغت في نعيها وحزنها؛ لذلك لم يكن بوسعي أن أفوت ما تكتبه، وجديراً بي ألا أفعل فلم أكن أعرف بعضاً من المآثر عن -الشيخ الأديب المثقف عبدالعزيز بن عبدالله السالم- غفر الله له إلا من خلال ما كتبته، تغمده الله بواسع فضله، ورحمه برحمته وكرمه..
بارك الله في قلمك ووفاءك المعهود لكل الرموز الأكفاء ممن هم يتنفسون فوق الأرض او ممن توارى جسدهم تحت الأرض!
شكرا لكم قارئنا العزيز
رحم الله الكاتب
(مسلم بن عبدالله المسلم)
كم كنت شغوفها بقراءة مقالاته في صغري لأسلوبه العذب والعبارة الأدبية الرشيقة .
جزاك الله خيرا أ. أحمد
شكرا لكم ورحمه الله
رائع
شكراً لك
ورحم الله عبدالعزيز السالم
وجميع أموات المسلمين
اللهم آمين وشكرا لكم يا سعد