عرض كتاب قراءة وكتابة لغة وأدب

ليالي عبدالله الهدلق!

الذي بين يدي وأمام ناظري ليس كتابًا واحدًا فقط! إنه مكتبة متكاملة لا يستطيع أحد تصنيف مالكها، ولا إحصاء فنونها، ولا استقصاء خيراتها. الحمدلله أن التصنيف والاستقصاء والإحصاء -خاصة على سبيل الافتراء والإفك- مهام تقف عاجزة حائرة أمام بعض الأعمال والأشخاص. عنوان هذه المكتبة المتنقلة، وهذا الكتاب المطبوع: ظلال الأشياء: ليالي عبدالله الهدلق، انتقاه وحرره: صالح بن عبدالله الخليفة، صدرت طبعته الأولى عام (1445=2023م) عن دار أدب للنشر والتوزيع، ويقع في (500) صفحة من القطع المتوسط. يتكون الكتاب من إهداء، ومقدمة، ثم المحتوى. نرى على الغلافين الأمامي والخلفي صورة مكتبة في الليل، ربما أنها تحسن التعبير عن الشيخ الأديب عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق، وتاريخه مع القراءة، ولياليه التي كانت تملأ “تويتر”، وتشغل رواده ومتابعيه من الكبار فمن دونهم، ومن الرجال والنساء حتى الصبايا منهن!

لقد أحسن الأستاذ صالح الخليفة غاية الإحسان بحفظ هذا التراث الثمين الذي ربما كان مصيره الضياع في فوضى الشبكات وتقلبات المنصات. وبعد شكره لا مناص من شكر الذين أشار لهم في مقدمته، وهم الشيخ الهدلق على إذنه بالنشر، ود.عبدالله السفياني ودار أدب على ماوجده الكتاب وفكرته عندهم من رعاية وحماسة. كما يمتد الشكر لعثمان أبا الخيل حين ضغط على صديقه الخليفة لإنجاز هذا العمل. أما أجزل الشكر وأوفاه فهو للشيخ عبدالله الخليفة الذي سدّ على نجله منافذ اللهو صغيرًا، وفتح له كوى المعرفة انطلاقًا من مكتبته حتى ارتقى صالح في مدارجها مرغمًا أول الأمر فمغرمًا متيمًا بها؛ وأي عشق مثل حب المكتبة!

محاسن هذا الكتاب كثيرة، منها أنه متنوع يناسب كل القراء تقريبًا؛ حتى لكأن الذين كتبوه عدة مؤلفين فيهم الشيخ السلفي، والأديب الطرب، والفيلسوف المتأمل، والمفكر المنضبط والجامح وربما الشرود! لا تستكثرن مني هذا الوصف أيها القارئ العزيز، وسوف تجد مصداقه ضمن محتواه الذي أخبرنا فيه كاتبنا الهدلق عن طريقته في القراءة التي لا تستثني عنوانًا، وعن كيس الكتب الذي يخرج به من معارض الكتب حتى لو فحصه فاحص لظنه من “أكياس المجانين” إذ كيف يجتمع علم ابن تيمية مع كتب الطبخ وسير الغرباء؟!

من مزاياه أيضًا أن الملل لا يدرك الناظر فيه البتة، ولو قرأه مثنى وثلاث ورباع مثلما أشار جامعه في مقدمته وصدق وبر. أما سر انتفاء الملل فيكمن في أن كاتب هذه الدرر هو المثقف ذو الملاءة -في عالم الكتاب- الأستاذ الشيخ عبدالله الهدلق، وأن فيها وقار الشيخ، واستظراف الأديب، وتساؤل المفكر أو تمرده، وخبرة البصير بالنفس والمجتمع والحياة. يضاف لذلك ما فيها من نفس فكه، وسرد لا يخلو من صريح البوح، واغتراف من مكامن الوجع، ومجاهل الفكر، وزوايا لا يكاد أن يعرفها أحد عن أحد، ولا يكاد أن يبينها حق البيان لسان أو قلم إلّا بتوفيق من الرحمن الذي امتن على الإنسان فعلمه البيان، ويا له من منة ومنحة ونعمة.

هذا الكتاب يصلح أن يكون رفيق سفر، وجليس سمر، ونديم البشر حين الانشغال عن القراءة بدراسة أو عمل جاثم، وهل تخلو الحياة من كدر أو كبد، ولمغالبة هذه الشرور جاء هذا الكتاب وأضرابه من النفائس المجلوة جلوة الجواهر وما أندرها! كذلك يمكن أن يكون هذا الكتاب زادًا للإحماض عند ذوي القراءة العميقة، وقد يجعله رب الأسرة الموفق من الكتب المقروءة في داره. إن وجود كتب تقرأ في المنزل بأي طريقة لضرورة تحتمها المسؤولية، ويزاحم بها المربون طوفان التفاهة الذي يستهدف العقول والقلوب والأرواح.

في هذا الكتاب نبذ من متين العلم، ونتف من طرائف الحكمة. فيه مستراح لمن كد ذهنه حتى كاد أن يتجمد. فيه منجم من الأفكار لمن رام استخلاصها للكتابة فيها أو التأليف عنها. فيه إحالات لكتب بعضها نادر أو مغمور، ولمؤلفين ربما لم تطرق أسماؤهم الآذان. فيه أدب وشعر وتاريخ، وفيه استمداد من كتب السير الذاتية التي حكى الهدلق عن نفسه في ميراث الصمت والملكوت أنه قرأ منها ما يملأ قبة الصخرة؛ ولذا فليس بعجيب أن يقول الخليفة في مقدمته: “لا أبالغ إن قلت: إن له أثرًا كبيرًا على استدعاء كتب السير الذاتية وتداولها في الساحة الثقافية.”، والحق أن الجامع المبارك لم يبالغ فيما استنتجه، ولم يحد عن الحقيقة قيد أنملة.

سيقتبس القارئ من هذا الكتاب فوائد منهجية شتى، هي جليلة للغاية، والحاجة إليها قائمة وسوف تبقى. منها كيفية القراءة، واستلال الفوائد، وعرضها، وتقريب الكتب والإشادة بها. منها كذلك صنعة الكتابة العلمية والأدبية المحكمة، التي يبهرك منها البناء، ويقنعك منها المضمون أو تؤمن -إذا كنت منصفًا- بوجاهته ولو لم توافقه. ومنها منهجية التفكير، والنقد، والتحليل، ومنها الإنصاف، ومنها اللطف دون سخف، والسخرية بلا تجريح. ومنها الوقوف على عظمة ما صنعه الأوائل بتفريغ ذوي العقول عن تطلّب المعاش واللهاث خلف رزق العيال وقوت البيت، وكان ذلكم الصنيع المجيد بالأوقاف، وأعطيات الأمراء، حتى قال قائلهم إعجابًا بكتاب: إن عقلًا كتب هذا لحقيق بأن يُكفى مؤونة العيش أو كلمة نحوها.

من منافع هذا الكتاب، ومنافعه غزيرة بالمناسبة، نفي اليأس عن شداة الثقافة، فقد ذكر الشيخ الهدلق ما تعرض له من صدود وإهمال وردود أقبح من تجاعيد بعض الوجوه! ثم مالذي جرى عقب ذلك؟ لقد تقاطروا إليه، وتوافدوا عنده طالبين مشاركته في كتابة مفردة أو دائمة، وفي حديث مسموع أو مرئي. إن العاقبة تدبير من رب العالمين، مكتوب في مكنون الغيب، ولو علم الناس الغيب لاستكثروا من الخير، وما مسهم السوء، ولا قطب منهم الجبين في مواجهة شاب سيكون له شأن، ولهم إليه حاجة وفيه مطمع.

قد يعجب الناظر في هذا المجموع، أن هذه الفوائد الرفيع طرازها، البديع سبكها، المتماسك مضمونها، ليست سوى “تغريدات” في منصة إكس -تويتر سابقًا-. هذه المنصة التي فضحت القدرة الكتابية والثقافية والفكرية عند “رموز” كانت تطل عبر صحف أو مجلات، فأتاها هذا الفتح التقني ليكشف للناس أن مضمار السباق يجري فيه غير الخيول الأصيلة، وأن البهرج والزيف وعريض الدعوى كانت “بلاوي” راسخة تستر مساحات من القبح سُكبت عليه أدوات التجميل والتحسين والتلميع؛ لكنها لا تجدي نفعًا مع قنوات التواصل الحديثة التي أظهرت حقيقة المحتوى، وأبانت عن مدى جدية الإيمان المزعوم بحرية الرأي!

ألا ما أجمل أديبنا وشيخنا المحتجب، وما أحلى لياليه في تويتر، أو في جلسة بمختصر. وما ألذ السهر بمنتخبات ومختارات تغمر بطعمها ومذاقها الفاتن الجسد كله. ألا ما أحوجنا لبث نماذج ناجحة في التكوين الجاد، وأخذ الكتاب بقوة؛ كي لا يعتقد الناشئة والشباب أن المراتب العالية يستطاع نيلها ببحث مقوقل، أو بجواب على سؤال يلقى إلى تطبيق ذكاء اصطناعي قد لا يختلف في بعض المرات عن التقاطات الكهنة وسجعهم. ألا ما أجدر مجتمعنا برموز ثقافية مثل الهدلق، وما أحوج المجالس الفخمة، والنخب التي لا تجد وقتًا للقراءة إلى ندماء يرتقون بالذوق والذائقة، وينقل عنهم المرء المجتمعي والوجه الوجيه دون وجل أو خوف. إن ظاهرة النديم قديمة حديثة، والله يجعل الندماء من البررة الخيرة الكرام.

إن نفسي قد حدثتني -وحدثت غيري نفوسهم-، وهي جملة تساءل الهدلق فيها عن شخص المتحدث وشخص المستمع! وحديث النفس هذا مختصره الحاجة الماسة إلى ليالي هدلقية عامة أو خاصة، ليالي تنتشر فيستفيد منها الجموع في الحال والمآل. هي ليال يمكن أن تكون حقيقية أو افتراضية، تنسج على منوال مجالس الأدب والعلم لدى الأوائل والأواخر، مع تقييد حواراتها، وحفظ أحاديثها. هي فرصة لمؤسسات ثقافية تسابق إليها ضمن عملها الرسمي أو التطوعي، وسوف تكون من الروافد الكريمة الطيبة المنبعثة من بلادنا الطيبة الكريمة.

ahmalassaf@

الرياض ليلة الجمعة 28 من شهرِ ربيع الآخر عام 1446

31 من شهر أكتوبر عام 2024م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. مقالة تتوغل في الداخل وإلى الأعماق؛ وكتابتك الهدلقية المتميزة كاتبنا العزيز فيها تجليّ حقيقي لتذّوق الجمال، يعكس روحك التي تستل الفرائد ولا تصيد منها إلا الثمين، وتنتقي الكلمات لتصيغ جملاً تليق بليالي الهدلق ومسامرة النديم،سيولة الكتابة وتعبيرها كان جاذبًا لأن أضعه ضمن اختياراتي الخريّفية، بين روعة السطر الأول للمقالة ومرورا بختامها كانت رحلة سردية ممتعه عن الكتاب نقلتنا معها لمنجم من الأفكار البديعة حول ما يتضمنه الكتاب، كل الشكر على هذه المقالات التي تجلو عن النفس كدرها، وتحلق بنا نحو فضاء الكتب..

  2. ما شاء الله. من الله علي بهذا الكتاب، ووجدت ما قلته فيه حقا متحققا، ومن قبل كنت قد قرأت للدكتور الهدلق: ميراث الصمت والملكوت، والهادي والهاذي.
    دكتور: كثيرا ما ثار هذا السؤال في نفسي، وهو: ما سبب قلة التأليف عند الدكتور الهدلق؟ المنطق يقتضي أن يوازي هذا الإطلاع الواسع المنوع، ضروب من التآليف، لكن الأ مر كان وما زال غير ذلك.
    شكرا جزيلا لكم على هاته المقالة الماتعة

  3. أحسنت يا شيخ في عرض هذا الكتاب للمثقف الكبير الهدلق

    وكونه ينجح في استجلاب الاهتمام حتى بكتابه الذي يدور في *فن الشذرات* الذي هو شكل قديم للكتابة الأدبية الفلسفية، وهو فن يقوم على تركيز الفكرة وفق مبدأ: لا شيء زائد عن الحاجة، ولا كلمة من دون غاية، فهي عبارات تحتوي شحنة دلالية محملة بالمعنى، عبر تعبيرات خاطفة تخفي أكثر مما تفشي، وتلمح إلى المعاني من بعيد..

    ورغم هذا فقليل جداً ممن يكتب في هذا المجال يستحق القراءة فضلاً عن التعريف به، وقد أحسنت الاختيار.

  4. ما شاء الله.

    قلم كقلمك، والمحتوى عن أديب كالهدلق، لا ريب إذن أن تفتنني المقالة من أولها لآخرها.

    فتح الله عليك أيها الأديب الأريب اللوذعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)