إليك يا أستاذ اللغة وعلومها!
أتيحت لي فرصة سماع قراءة بعض طلبة الجامعة، ورؤية خطوطهم، وسمعت من أساتذة أو عنهم ما ينغص على الخاطر. توسلت أستاذة جامعية لطالباتها راجية منهن أن تكون الخطوط مقروءة، والكلام المسطور قابلًا للفهم، والكتابة مرتبة على استقامة معقولة! هذه ليست نظرة متشائمة؛ بيد أنها تصف صورة واقعية شبه عامة. إذا كان حولك طالب أو طالبة في الجامعة، فيمكنك أن تسمع منه كيف يقرأ صفحتين فقط من كتاب، ويسعك أن ترى خطه بعد نسخ عدة أسطر مما قرأ. تستطيع أن تكتشف مستواه في الكتابة والحديث لو اقترحت عليه إعادة صياغة ما قرأه كتابة، أو عرضه خطابة بلغته المنطوقة!
هذه المشكلة المحزنة المقلقة لا تخص بلدًا بعينه. كما أنها لا تقتصر على مناهج اللغة العربية وإن كانت هي الأكثر تضررًا مع غيرها من أركان الثقافة، فجدول الضرب -مثلًا- أصبح من المهجور حفظه، مع أن جميع حسابات الحياة فضلًا عن أجزاء كبيرة من علم الرياضيات تقوم عليه، وبالمقابل تعرض بعض المواد التطبيقية بكثافة ينسي أولها آخرها.
إن الواجب المنتظر في التعليم هو بناء الأسس، وهذه الأسس ترتبط بالحضارة والثقافة والمكونات. هي أساسية من أجل طفولة مستقرة، وشباب آمن، واكتمال ناضج. ما سوى ذلك لا ثمرة فيه إلّا دون المرتجى، فضلًا عن أن الإبداع والتجديد لا يكون إلّا بعد ضبط الأصول، فضبطها ضمان أكيد للوصول. هذه المسؤولية مشتركة بين البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع. يمكن للأبوين جعل دارهما معهدًا للتربية والتعليم، مع الترفيه والاستمتاع بطعم العائلة وأجوائها.
بناء على ما سلف؛ هذه أفكار ربما تفيد أستاذ اللغة العربية أيًا كانت بلاده التي يعمل بها عربية أو غير عربية، ما دام أنه يعلّم التلاميذ هذه اللغة الشريفة المنيفة. هذه الأفكار خلاصة تجارب عشتها، أو سمعتها، أو قرأت عنها، وكم ترك الأول للآخر، ومن سعى وحرص فبإمكانه أن يصنع الأحسن والأكمل. الغاية المهمة المنشودة هي أن يشارك أستاذ اللغة العربية في رفع مستوى الطلبة دون إجحاف بالمنهج ومحتواه. هذا المراد الجليل غير عسير على الموفق الملهم من أساتيذ لغتنا الجميلة البهية السامية؛ وجلّهم كذلك.
من الأفكار المقترحة علمًا أنها قابلة للدمج، والتحوير، والتفريع، ولا تخالف نظامًا مرعيًا، أو منهجًا رسميًا، وغاية ما هنالك التفنن في التطبيق، والصدق في تعميق التكوين لدى الناشئة والشباب:
- عرض مادة اللغة بطريقة تمزج بين النقل والعقل قدر الوسع. دروس النحو على سبيل المثال سوف تغدو سهلة حينما يتصور الطالب أركان الجملة وما تستند إليه مكوناتها. تذوق البيان سيحرك ذهن الطالب في العربية والمنطق، وسيعينه على التحليل وإعادة تركيب الكلام، وغيرها من مهارات.
- استخدام الشواهد اللغوية الحقيقية غير المصنوعة. تقتبس هذه الشواهد من القرآن الكريم، والسنة النبوية، والشعر العربي، والأمثال والحكم، والخطب والرسائل. هذه الشواهد ترتقي بذائقة الطالب، وتربطه بأصوله، وتحميه من العجمة الضاربة أطنابها.
- تعريف الطلاب والطالبات بالإرث الخالد من كتب العربية وعلومها، مع الحرص على تقسيمها حسب المستويات لتصبح متدرجة كي لا يغرق أحدهم فيما لا يفهمه فيولي هاربًا، مع الحذر من إيراد أيّ كتاب قيل عنه أو عن مؤلفه ما يجعله غير مناسب للنص عليه.
- إيقاف الطلبة والطالبات على سير أعلام العربية عبر العصور، وعلى أهم مؤسساتها، وأنجح مشروعاتها، وأكبر مؤتمراتها. من الأهمية التيقظ والابتعاد عن الإشادة بإنسان أو كيان أو مشروع أو ملتقى يلحقها شيء من الغبار الذي يفرح به أمهر الصيادين في الماء العكر، ويسعد بالتقاطه من ابتلي بالبحث في كل المحاسن عن شيء من الكدر، وهو شيء لا يبعث على الفرح، ولا يستجلب السعادة، ومن كمل عقله واستتمت مروءته فلن يحيد عن ابتغاء العذر لمن اجتهد، وتقديم حسن الظن بالآخرين.
- تدريب الطلبة على الكتابة والخطابة والحوار من خلال المنهج ومفرداته، حتى مع غياب هذه المواد. إن الكتابة والخطابة والحوار مما يكفل استقامة اللسان، والقدرة على التفكير والبيان.
- حث الطلبة على تحسين الخط، والاحتساب في تعليمهم ذلك. يمكن إرشادهم لكتب أو مواقع تعينهم على تجويد الخط وتجميله. مما سمعته أن أحد أساتذة الرياضيات الكرام عقد للطلبة دروسًا إضافية في حصص الفراغ لإصلاح الخطوط وستر عورتها.
- لن ينسى الدارسون الأستاذ المتميز وهو يقرأ النصوص ويلقيها مترنمًا متلذذًا ببيانها وألفاظها ومعانيها وبلاغتها الأخاذة، وربما أجاد في القراءة التصويرية، والتحكم بطبقات الصوت، ويا له من فضل، ويا لها من مكرمات.
- إلزام الطلبة بالقراءة الجهرية. هذه القراءة فيها تصويب للأخطاء، وتعويد على الجرأة والحديث العام، وتصحيح للنحو والإملاء؛ فمن سلم نطقه فعلى الأغلب لن يجرح كبرياء العربية النحوي والإملائي.
- قال لي رجل أديب: قبل خمسين عامًا، طلب أستاذ التعبير في المرحلة المتوسطة أن نخصص دفترًا يكتب فيه الطالب أحسن ما قرأ، وفي نهاية تلك السنة اجتمع لدى أكثرنا دفتر عامر بالفوائد. هذه الفكرة فيها قراءة، وتلخيص، وكتابة، وحفظ، وخيرات حسان لا تحصى.
- أخبرني صديق مسن أن معلمهم طلب منهم وهم في الصف السادس كتابة بحث عن شخصية أدبية عربية! صاحبي كتب عن أبي القاسم الشابي، وأظن لو سألنا بعض طلبة الجامعة أو الثانوية عن المتنبي لما عرفوه! ومما ذكره لي هذا الرجل أن مدرستهم الابتدائية استضافت لهم الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- على جلالة قدره.
- امتاز عصرنا الراهن بأنه عصر تقنية، وشبكة معلومات، وتطبيقات، وذكاء اصطناعي، وليس بعسير تسخيرها لخدمة التعليم، وتعليم اللغة العربية، شريطة ألّا تكون بديلًا عن جهد الطالب، وبحثه، وتعبه.
- حظي زماننا بتوافر القنوات التعليمية عبر مواقع ومنصات وتطبيقات، وأجزم أن الطلبة يعرفونها وهم بها أعلم من بعض الأساتذة؛ لكنهم يحتاجون لمن يدلهم على أن هذه المنافذ فيها سبل شتى للتعليم والتطوير، وتقريب للعلوم والآداب، وأن الإفادة منها عملية يسيرة جدًا بالسماع والمشاهدة والقراءة.
- قد تستحيا غيرة الطلاب والطالبات، وتستثار حميتهم، وتنعش هممهم، بذكر اهتمام الآخرين بلغاتهم، وسعيهم للترجمة المتقنة إليها ومنها، والالتزام بها في التعليم والحديث والمؤتمرات، ومقاومة أي عدوان عليها. الأمثلة في هذا المضمار وافرة جدًا ولن تعجز الباحث عنها.
- يغيب عن فئام من الناس أن اللغة وسيلة للكسب المادي، وتنشيط الاقتصاد، والسياحة، ومن المهم تفتيق الأذهان في هذا الباب؛ فأعظم محركات البحث، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم على اللغة، وتنطلق منها.
هنيئًا لك يا معلّم اللغة العربية حينما تؤدي المطلوب منك، وتقيم المنهج الدراسي مثلما أريد منك وزيادة ولك الحسنى بحول المولى. هنيئًا لك أيها الأستاذ عندما تجعل درسك محببًا منتظرًا، وسببًا في تفتيح أذهان الطلبة، وتوسيع آفاقهم الفكرية، إضافة إلى زيادة المروءة، وترسيخ كريم الأخلاق والشيم لديهم. هنيئًا لك أيها الأستاذ -ذكرًا كنت أم أنثى- وأنت تأخذ بأيدي الطلبة نحو مدارج الصعود لفهم العربية وحبها، وصوب القرب من علوم الشريعة، ومن آثار التاريخ، فهذه العلوم أساسية ومركزية، ومن كانت قاعدته فيها متينة، فهو أهل ليس للتفوق فقط، وليس للإبداع والتجديد وأنعم بهما، وإنما سيكون البصير بهذه الفنون مع التفوق والتجديد صادق الوعد، ناجع الجهد، يمضي بثبات حدبًا على نفع بلاده وثقافته، مع الإخلاص في هذا الطريق الشاق الذي لا يصبر عليه من نشأ على الرطانة والاستغراب، البعيد عن روح حضارتنا ولباب ثقافتنا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 24 من شهر ربيع الآخر من عام 1446
27 من شهر أكتوبر عام 2024م