أفخم مكان يلجأ إليه القارئ هو ما ارتبط بالكتاب من مكتبات، ومعارض، ومقاهي، وندوات، وأشخاص أحيانًا. أما الأفخم على الإطلاق فمكتبته مهما كانت مساحتها، وأيًا كان ترتيبها. صحيح أن المكتبة الجميلة المنظمة هي المطلب الأعلى، لكن من يقوى على ذلك خاصة مع حراك الكتب الذي لا ينتهي، وتزاحمها للاقتراب من قارئها ومالكها. من طبيعة الكتاب أن خروجه من مكانه أحب إليه من بقائه مرصوصًا؛ فليس في البقاء سوى فضيلتي التراص وجميل المنظر، بينما في الحراك فوائد شتى وهو الغاية من الكتاب؛ كي لا يكون الموات مصيره أو مصير عقل من يطالعه وهمته.
إن المكتبة بالنسبة لصاحبها هوية يستجير بها من لظى الأجواء، ويأرز إليها من ضنك الواردات، ويستنير فيها مقاومًا حالك الظلمات. هي هوية تدل على انتمائه، تحكي عن ثوابته ومتغيراته، تبين موارده التي نهل منها واستقى. ليست المكتبة بحال موضع التهمة أو الشك البتة ولا حتى المساءلة العنيفة، ليست المكتبة المكان الملائم للتفتيش إلّا عن شيء خارج عن طبيعتها. إن محتويات المكتبة تحاور عقلًا مسؤولًا، وتثاقف ذهنية تملك قدرًا من النقد أو التمحيص أو هكذا يجب. لأجل ذلك فلا خوف من المكتبة؛ فالكتاب مهما اشتعل من داخله، سيجد من إخوانه من يوازنه، ويكمل رسم الصورة، فيحدث الأثر الحميد على جوارح قارئنا وعقله ونفسه.
إن المكتبة مدد لا يتناهى لربها، تعينه إذا فكر وتفكر، وقلّب أوجه النظر وتأمل. ترفده إذا تحدث أو خاطب. تفتح عليه إذا استمع أو حاور وناقش. تسانده عندما يبحث أمرًا أو يدرس موضوعًا أو يفتش عن حل أو مقترح. تسعفه حال الكتابة المجدولة أو الهابطة فجأة هبوط هذا المقال الجذل بقرب افتتاح معرض الكتاب في عاصمتنا الرياض. إن معارض الكتب أعراس للثقافة، إطلالات للمعرفة، سعادات للنفوس. هذه الصفات جديرة بإلقاء المحبة للمعارض في الأفئدة، واختصاصها بالانتظار والتتبع. هذه السمات تدفع القارئ كي يصرف ويدفع في سبيل المعرفة، دون أن يخش بعد نفقته من ذي العرش الكريم الرزاق إقلالًا.
إن المكتبة بما فيها لذكرى جميلة أنيسة لمالكها، يراها فيأنس، ويتذكرها فيزول ما به من هم، وينقشع ما علق به من كدر. في المكتبة شاهد على غرارة الشباب وزيغ البدايات وعجلتها، وفيها شهادات على حكمة الكهول وجنة الإيمان واليقين. لكل كتاب ذكراه الجميلة: كيف عرف عنه؟ متى اشتراه؟ ومن أين؟ وبكم؟ وهل تعب في الحصول عليه أم وجده بسهولة؟ في مكونات المكتبة ذكريات حين القراءة، والتباحث مع الآخرين، والاستعارة إن تجرأ عليها مالك الكتاب -والله يعوضه خيرًا في الغالب!-. فيها أرقى الحكايات حينما يكتب القارئ عنها، أو يقتبس، أو يحيل إليها. في ترتيب الكتب على الرفوف، وتجاورها قصص وذكرى ومشهد ذو بهاء. فيه تبادل المعرفة بين الأصدقاء، فيه تجاور الأضداد، وتحاور الفرقاء، بلا حراب ولا صخب ولا استعداء. في توسع المكتبة ضمن البيت، واستيلائها على غرف أخرى، أو تقلصها وربما طردها، مواضع للذكرى، مواطن للحنين. مادة للسيرة الثقافية أو الشخصية.
إن المكتبة صومعة فيها يخلو المرء ويبتعد عن لجج الحياة ومعالجة الخلائق. إن المكتبة صومعة يجد الواحد فيها من الاعتزاز والاستغناء ما قد يفقده كليًا أو جزئيًا في غيرها. إن المكتبة جسر يربط بين أرواح، ويصل بين عصور، ويمتاح من عقول. إن المكتبة نبع يصفي الروح، ويعذب البيان، ويزيد الشواهد عند صاحبها غزارة. إن المكتبة لمكان تجتمع فيه لذة الحكمة، وشهوة المعرفة، وهي لذائذ لا حرج فيها، وتغلب شهوات السمع والبصر لدى الصبّ حتى لو كان عفيف الضمير؛ هذا إن بقي للعفة مكان في عالم الصبابة الشهوانية!
إن المكتبة بهذه المعاني وغيرها جديرة بألّا تهجر، وألأّ تخلو منها البيوت والأحياء والمدن. جديرة بالإكرام والإجلال والعناية حتى لو ترحل صاحبها الذي نصب واجتهد في الجمع والقراءة والتعليق. إن المكتبة حقيقة بأن تكون ذات مكانة علية في نفوس الورثة، فإن لم يستفيدوا منها مباشرة، فبالإمكان أن يعمموا الفائدة منها للآخرين إكرامًا للعلم ولمورثهم، ولهذا الباب من القول حديث وأحاديث ستأتي بحول المولى.
يا معاشر أصدقاء الكتاب -على اختلاف مستويات الصداقة- استمتعوا بمعارض الكتاب؛ فهي ثقافة، وفكر، وتجارة، واسترواح. هي معارف، ولقيا، ومنافع متنوعة، ويصحبها مهارات، وفرص، والتوفيق من الله. هي من منابع الخير والمعروف، من سبل إمضاء الوقت الثمين بما يؤول إلى استثمار مضمون على الإنسان والأوطان، خاصة إذا ارتقت بالوعي، وجندلت التفاهة والغوغائية تاركة إياها صريعة مضرجة، أو جريحة مثخنة. هكذا تفعل الثقافة الحقة بالمناسبة، ومن هذا الباب تكون بركتها المرجوة للبشر والبلاد والدين.
الرياض- الخميس 23 من شهر ربيع الأول عام 1446
26 من شهر سبتمبر عام 2024م