سير وأعلام

عليك سلام الله يا عمر!

عليك سلام الله يا عمر!

دون السبعين بعامين فقط، هو العمر الذي انتهى إليه الشيخ د.عمر بن سعود العيد -رحمه الله- بعد أن فجعنا هذه الليلة بخبر وفاته، وسوف يصلى عليه غدًا  الخميس بجامع الراجحي شرق الرياض بعد صلاة العصر. غفر الله له، ورحمه، وثبته بالقول الثابت، وجعل ما أصابه من الممحصات وأسباب علو الدرجات. ثم إن العزاء لأسرته وآله ومحبيه وطلابه، ولكل من حزن لمرضه، وتنغص بمماته، وهذه سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تحويلًا.

امتاز الشيخ عمر بخصال علمية وصفات عملية عديدة. منها أنه درس في معاهد وكليات، ثم لازم عددًا من العلماء والأشياخ الكبار، وكان قريبًا جدًا من علَمين من رؤوس زماننا في العلم والعبادة والاحتساب، هما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، وسماحة الشيخ عبدالرحمن البراك -أمتع الله به-، وهما من هما في تاريخنا العلمي والدعوي المعاصر. كنا في زمن مضى إذا ذكر طلبة الشيخ ابن باز برز لنا اسم الشيخ عمر العيد في مقدمتهم مع أنه لم يكن من أسنهم.

إن طول الصحبة، وكثرة المعايشة، تصنع ألفة بين الشيخ وتلميذه، وتوجد معرفة عميقة بينهما، وهي سمة ظاهرة في أئمتنا، فلكل إمام من الأئمة الأربعة -مثلًا- صاحب أو أكثر اختص به، ونقل سمته وعلمه. هكذا كان راحلنا مع شيخيه، ولأجل هذا فللشيخ عمر فوائد بازية علمية وعملية مروية، بل إنه وصف الظلمة التي يجدها طلاب الباز حين يغادر الشيخ الرياض إلى الطائف. وهكذا كان راحلنا مع الشيخ البراك حتى أنه يعامل شيخه كما لو كان ابنًا له، وخلفه في كلمة وعظية تلقى في أحد جوامع الرياض الكبرى، وللاستخلاف دلالة لا تخفى.

من خصال الشيخ العظيمة أنه وإن انصرف إلى علوم الشريعة وتحصيلها باجتهاد وإقبال إن في العقيدة أو غيرها، إلّا أنه لم يترك أبواب التطبيق العملي في الدعوة والتربية. كان الشيخ العالم داعية داخل البلاد وخارجها دون ضوضاء ولا أضواء، وله أفكار مثمرة مثل خيمة الدعوة في مكتب دعوة الجاليات بالبطحاء. كان الشيخ العالم مربيًا تربية عملية تعبدية مسلكية لمن حوله من تلاميذ وأبناء حتى انتصب في مقام القدوة للمتقين والمصلحين. إن الدعوة والتربية مجالان لابد منهما لكل أمة عريقة، وإذا تولاهما حملة العلم والأمناء عليه فيا لسعادة الجيل والمكان والزمان، وإذا تركا للأغرار بعجلة أو جهل فأي رعونة وأي خطورة وأي بلاء قادم!

كما صرم الشيخ أوقاته وعمره في العلم الذي تعلمه، وما أحسن الجواب عن سؤال العمر فيما أفناه صاحبه إذا كان العمر قد ذهب في الطاعات التي تقود صاحبها بفضل الله وكرمه إلى أبواب الجنة الثمانية أو بعضها. تلك الأبواب المشرعة لمن له حظ ونصيب من العبادة المتقبلة بصنوفها والتوفيق من الله. وما أحسن الجواب عن سؤال العلم وما فعل به إذا حبس المرء نفسه على التعليم ونشره في المسجد والبيت والجامعة، وفي الوسائل الحديثة، بل حتى للصم البكم الذين واصل الشيخ دروسه لهم خمسة عشر عامًا متوالية، ولم يهمل هذه الفئة الغائبة في سلم الاهتمامات غالبَا؛ بل أجاد لغتهم، وحرص على رفقتهم في الحج.

هذا الجلد في تعليم أولئك القوم -نضر الله وجوههم وكتب أجرهم- يوقفنا على خصيصة لافتة في الشيخ عمر العيد. هذه الخصيصة هي أن العلم وبثه وتعليم الناس أيًا كانوا أولى وأكثر أهمية وأجدر بالتقدمة لديه من غيره. إن تعليم الآخرين مسائل العلم بالتدرج لمن سبل الهدى، ومن علائم الفقه، ومن كمال الحظ للبلدان وأهلها. من لطيف ما وقعت عليه قول أحد طلبته بالجامعة ما معناه: نزلت معه في المصعد، وسألته سؤالًا، فأصلح لي السؤال وطريقته أولًا، ثم أجاب عنه. إن القدرة على صنع سؤال صحيح من أولى ما يجب تفهيمه للطلبة والدارسين والباحثين، ولا يحسن المرء السؤال قبل صحة التصور، وإحسان السؤال مئنة على الفهم والنبوغ. ومن خبره معرفته بأشياخ البلاد الإسلامية، والإحالة على أقوالهم الصائبة في حوارات الشيخ مع طلبة ينتمون لتلك البلدان.

تقودنا هذه الخصائص والمرويات إلى صفة جليلة في الشيخ عمر، ذلك أنه صان العلم الشريف الذي يحمله، فما أهانه ولا ابتذله، ولم يستخدمه للشغب على بلاد أو زعامات، ولم يجعله سبيلًا للشهرة بالصخب والمسائل الجماهيرية التي تطرب لها الجموع دون طائل، ويطير بها المغرضون والمتربصون وهم أبعد الناس عن ابتغاء المصالح وتوخيها. ولم يصير شيخنا ماحواه الصدر من علوم أداة للتكسب على الموائد أو في المجالس، وكم في ذوي الوجاهات من يتمنى تزيين أماكنه بحضور أهل العلم، وغشيانهم لمناسباته حتى وإن سكنت حجرات قلبه بكل شبهة وشهوة، وتربع فيها كل غوي جبار عنيد! إن حكمة العالم حفظ للعالَم وسكينة للمجتمع. إن عزة العالم مكرمة له ولعلمه. إن المرء على نفسه بصيرة، فمن خاف عليها نأى عن مواطن الزلل عسى أن يسلم له دينه، وتسلم له سيرته، وتسلم له مروءته.

كما عرف عن الشيخ الوقور المهيب أنه لا يقع في عرض غيره ولو كانت لهم من الأخطاء ما كانت، فجهوده متوجهة صوب إشاعة الحق والصواب، وإنكار الأخطاء، والتحاشي عن ذكر الأسماء والرجال. كم رتع في أعراض الصالحين والمصلحين أقوام بشبه لا ترقى إلى الحجج، وبزغل ودواخل نفس الله العالم بما وراءها. كم يسعد المرجفون بكلمة تخذيل من عالم نحو أخيه العالم، وربما خفي على من خاض في عرض زميله، وشارك في تضخيم خطئه الذي وقع فيه بعد أن اجتهد، أو زاد في الحط عليه ومنه، أن الدور قد يكون ولا محالة آتٍ عليه. هذا لا يعني بتاتًا السكوت عن الأغاليط والأخطاء صغيرها وكبيرها، وإنما تكون المعالجة وفق الصحيح من الاعتبارات والمصالح، بعد إمرارها على قانون الشريعة، ومقتضيات الأنظمة المرعية.

ومما حدثني به أحد الزملاء، أنهم استضافوا الشيخ د.عمر العيد في جامعهم مرتين لإلقاء محاضرات عامة، فكان مستجيبًا مقبلًا غير عسر في القبول ولا التنسيق. وبعد نهاية المحاضرة الأولى طلب المنظمون من الشيخ المشاركة في وجبة عشاء خاصة له ولبعض الحضور. رفض الشيخ هذا العرض، وغادر المسجد من فوره، ولم يكتف بذلك بل أرسل رسالة عتاب وتوجيه للمنظمين منكرًا عليهم الإسراف، مبينًا أن أصل الحضور والمشاركة كان للعلم وتزكية النفوس لا لأجل البطون والأطعمة. كان الشيخ زاهدًا في زوائد الحياة وهوامشها؛ هذه الهوامش التي غدت أساسًا لدى كثير ممن فرط في الأصول! رحمه الله؛ فعلى مثل أبي عبدالرحمن يُبكى، وعن مثله يُكتب.

غفر الله للشيخ عمر، الذي جمع العلم مع العمل، والتعليم مع الدعوة حضرًا وسفرًا، والتربية مع السلوك على هدي ورشاد. غفر الله للشيخ المهيب حتى وهو حاضر النكتة والطرفة. غفر الله للشيخ الذي فتح سبل الاتصال به للسائلين والمستفتين حتى وهو في سفر أو يقود سيارته يوم كانت هواتف السيارات غالية جدًا. غفر الله للشيخ الذي خلّف وراءه ذرية طيبة، ومؤلفات ودروسًا مسموعة، وأعدادًا من الزملاء على طريق العلم والعمل، وأعدادًا من الطلبة والمستفيدين. غفر الله للشيخ بما تركه من حميد الآثار وجميل الأحاديث والأخبار عنه، وبما بعثه رحيله فينا من معاني الصبر والثقة بالوعي العام. غفر الله للشيخ في أول ليلة يصبح فيها من عداد الأموات، وحين يقدم غدًا للصلاة عليه، وحين يدرج وحيدًا في قبره، وحين ينصرف عنه المشيعون وينفرد به الملكان السائلان. اللهم ألهمه الحجة المقبولة، والصواب الذي يرضيك، واكتب له الأنس والنور في مثواه، والأمن عندما يقوم مع الناس لربهم بعد نفخة الصور.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 15 من شهر ربيع الأول عام 1446

18 من شهر سبتمبر عام 2024م

Please follow and like us:

17 Comments

  1. ما شاء الله
    مقالة قيمة
    الشيخ من أحسن من استمعت له وكثيرا ينقل فوائد ابن باز
    أسأل الله-تعالى-أن يغفر للشيخ و يرحمه ويسكنه فسيح جناته

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واسعد الله أوقاتكم بكل خير فضيلة الشيخ
    رحم الله الشيخ المبارك عمر بن سعودالعيد وغفر له
    وجزاكم الله خيرا على هذه الدرر والكلمات النيرات

  3. غفر الله له ورحمه وأسكنه فسيح جناته ووالدينا والمسلمين اجمعين
    نعم الشيخ المربي الباذل لوقته وعلمه المسارع للخيرات نحسبه والله حسيبه

  4. كلماته تدخل القلب مباشره عرفناه رجل العلم الوافر وسعة الاطلاع وجمال اللقاء
    غفر الله له واسكنه الفردوس الاعلى من الجنة

  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    غفر الله للشيخ عمر بن سعود العيد وتجاوز عنا وعنه وجميع موتى المسلمين اللهمَ آمين كان خطيباً لأكثر من ثلاثين عاماً في جامع القوات بأم الحمام

  6. كما عرف عن الشيخ الوقور المهيب أنه لا يقع في عرض غيره ولو كانت لهم من الأخطاء ما كانت، فجهوده متوجهة صوب إشاعة الحق والصواب، وإنكار الأخطاء، والتحاشي عن الأسماء والرجال. كم رتع في أعراض الصالحين والمصلحين أقوام بشبه لا ترقى إلى الحجج، وبزغل ودواخل نفس الله العالم بما وراءها.

    هذا الذي حببنا في الشيخ رحمه الله..

    آهٍ على من ولغ في أعراض المصلحين.

  7. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه …لطالمنا استفدنا من دروسه …وشكر الله صنيعكم فضيلة الشيخ في التعريف بأحد علماء هذه الأمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)