شائبة القصور في تسبيب الأحكام الجزائية
الحكم القضائي يستلزم وجود التسبيب الذي بني الحكم عليه، فغياب التسبيب أو قصوره، سبب من أسباب الطعن الشكلي أو الموضوعي على الحكم ونقضه بعد ذلك. بين عيني -هذا وصف يصلح للقراءة الإلكترونية ويقابله ورقيًا: بين يدي- دراسة بحثت هذا الموضوع وطبقته على الأحكام الجزائية. عنوانها: شائبة القصور في تسبيب الأحكام الجزائية، كتبها: د.مزعاد إبراهيم، أستاذ محاضر في جامعة المدية. نشر الكاتب دراسته في المجلد (09) العدد (01) من مجلة الدراسات القانونية الصادرة عن مخبر السيادة والعولمة في جامعة يحيى فارس بالمدية بالجزائر، في شهر رجب عام 1444= شهر يناير عام 2023م، ويقع بين صفحتي (1129-1145).
إن الالتزام بالتسبيب أحد الركائز التي تحكم العملية القضائية، وإعمال هذا الالتزام يوجب على القاضي بيان أسباب الحكم الذي يصدره وفق قواعد يحول إتباعها عن أن يطال الحكم شائبة القصور في التسبيب، بما يحقق العدل الذي يرضي الخصوم، وينشده المجتمع، ويجعل الحكم القضائي بمنأى عن الطعن. هذا المقصد غاية سامية مشتركة بين المجتمع، والسلطة القضائية، والخصوم، والحكومة بأسرها. إن هذا المقصد يبسط الشعور بالعدل والوضوح، وهما من عوامل غرس الطمأنينة والاستقرار.
وللأحكام الجزائية على وجه الخصوص خطر على حياة الإنسان وحريته، مما يوجب على القاضي بيان أسباب الحكم سواء كانت من الأسباب الواقعية أو القانونية، مع توضيح أسباب الرد على الطلبات المهمة، والدفوع الجوهرية، التي أفضت إلى المنطوق الذي انتهى إليه القاضي في حكمه. هذا واجب على القاضي في أحكامه عامة، وفي القضايا الجزائية يكون الوجوب آكد، إذ يقيم به جسرًا متينًا بين مقدمات حكمه التي انطلق منها، وبين منطوقه المنتهى إليه، سواء أكان بالبراءة أم بالإدانة.
القصور في التسبيب هو القصور في البيان والتوضيح، ويشوب القصور أسباب الحكم إذا انطوى على عيب يمس سلامة استقراء الأدلة والعناصر الواقعية للجريمة، فلا تذكر الأدلة التي استند عليها الحكم، أو لا تناقش موضوعيًا، أو لا يتضمن الحكم الرد على أوجه الدفاع الجوهري. يرى جانب من الفقه أن القصور في أسباب الحكم يعني العرض غير الكامل لوقائع الدعوى على نحو يجعل الحكم غير متضمن للعناصر الضرورية لتفسير النص الذي طبقه القاضي عليها، وهو ما يعبر عنه فقهيًا باصطلاح عدم كفاية الأسباب الواقعية.
تدور فكرة تعريفات القصور السالفة حول عجز الأسباب عن كشف مضمون الاقتناع الموضوعي للقاضي. إن التسبيب لا يحقق أثره إلّا إذا كان كافيًا وكفيلًا بتحقيق المقصود منه، وليس تسبيبًا مجملًا أو غامضًا أو ناقصًا. لذلك لم تكتف محاكم النقض في أحكامها واجتهاداتها بمجرد الرقابة الشكلية للتسبيب، لأن وجود الأسباب لا يحقق الغرض الذي من أجله ألزم القاضي بالتسبيب في أحكامه، وعليه تمتد رقابة محاكم النقض إلى مضمون الأسباب، وما إذا كانت تصلح أساسًا قانونيًا كافيًا للرقابة على التطبيق الصحيح للقانون. إذا لم يبين قاضي الموضوع مضمون اقتناعه الذي كان أساس رأيه؛ فهذا في نظر قضاء النقض قصور في التسبيب يقود إلى نقض الحكم.
لقد أوجب المشرع تسبيب الأحكام لحمل القضاة على بذل الجهد في تمحيص القضايا المعروضة عليهم؛ حتى تأتي أحكامهم ناطقة بعدالتها نطقًا جليًا ومقنعًا، وكي لا تنقلب حرية القاضي أو المحكمة في استعمال السلطة الواسعة إلى نوع من الحيف والاعتساف. كما أنه يوجد فرق بين شائبة القصور في التسبيب، وانعدام التسبيب؛ فالعدم يعني غياب الأسباب وبالتالي ينقض الحكم لخلوه من الأسباب دون التعرض لعيوبه الأخرى، وهذا العيب شكلي، أما القصور في التسبيب فهو عيب موضوعي يلحق أسبابًا موجودة، بيد أنها غير مقنعة أو غامضة أو لا تؤدي إلى النتيجة.
وينبغي على الطاعن إن لم يجد للحكم أسبابًا، أو وجد أن الحكم الموجود والعدم سواء، أن يبني طعنه على شائبة انعدام الأسباب. أما إذا استند الطاعن على شائبة القصور في الأسباب، فيجب عليه تحديد أوجه القصور بدقة، سواء كان متعلق القصور هو بيان الواقعة ذاتها، أو بيان الأدلة ومضمونها، أو القصور في الرد على الطلبات المهمة، أو القصور في الرد على الدفوع الجوهرية.
يشتمل القصور في التسبيب على صورتين هما: القصور في تسبيب الحكم الصادر بالإدانة، والقصور في تسبيب الحكم الصادر بالبراءة. لكل صورة أحوال وتفريعات، مع أن المفهوم العام لشائبة القصور يحوم على النقص في استكمال جوانب ضرورية، وعلى وجودها أو عدمها أو نقضها يقوم عماد الحكم. فهم هذا الأمر يجعلنا نحسن تصور هذه الشائبة التي تنسف حكم القاضي، وتعود به من حيث بدأ.
يكون القصور في تسبيب الحكم بالإدانة في أحوال هي: القصور في بيان الواقعة والأحوال المحيطة بها، والقصور في التدليل على نسبة الواقعة إلى المتهم، والقصور في الرد على الطلبات المهمة والدفوع الجوهرية. فالقصور في بيان الواقعة هي أداة تراقب المحكمة عن طريقها مدى صحة التكييف القانوني للفعل المسند إلى المتهم، وتتأكد من أن الجريمة قد استوفت أركانها، وأنها تخضع للنص الذي انتهى إليه القاضي وحكم بموجبه. من تطبيقاتها: القصور في بيان الركن المادي؛ لأن الجريمة تلتزم بيان السلوك المحظور، أو إثبات السلوك والنتيجة والعلاقة السببية.
ومنها القصور في بيان الركن المعنوي للجريمة الذي يتطلب من القاضي إثبات عنصرين أساسين أثناء تسبيب الحكم هما: علم المتهم بالعناصر الأساسية للجريمة، واتجاه إرادته لتحقيق نتيجة إجرامية معينة، وفي بعض الجرائم لابد من إثبات القصد الخاص. أحيانًا يكون القصور في بيان العناصر المفترضة اللازمة لقيام بعض الجرائم: مثل كون المذنب موظفًا عامًا، أو يكون القصور في بيان الأحوال المحيطة بالواقعة، وهي الأحوال التي يترتب على توافرها تشديد العقوبة، أو تخفيفها، أو الإعفاء منها.
فيما يخص القصور في بيان الأدلة، يتعين على القاضي إثبات الأدلة التي أسند بموجبها هذه الواقعة إلى المتهم، ذلك أن عدم بيان مضمون هذه الأدلة مثل الإحالة على أوراق ملف محفوظ، أو الاستناد إلى أدلة ليس لها مصدر في الأوراق يعد قصورًا. المبدأ أن يبني القاضي قراره على الأدلة المقدمة أثناء المرافعات، ونوقشت حضوريًا، ولو استند القاضي في حكمه إلى دليل لم يطرح في الجلسة، أو لم يناقش، فإنه يعد من قبيل القصور في التسبيب.
من القصور في التسبيب القصور في الرد على الطلبات المهمة والدفوع الجوهرية. إن حق الدفاع والدفع حق لا يدانيه للمتهم حق آخر؛ لأن المتهم يعتصم به للوصول إلى البرءاة. قد يكون القصور في الرد على الطلبات المهمة مثل طلب ندب خبير أو استدعاء شاهد، أو القصور في الرد على الدفوع الجوهرية مثل قيام سبب الإباحة أو بطلان إجراء التفتيش، وترك الرد على هذين الأمرين يحعل التسبيب موصوفًا بالقصور.
كما يلحق القصور كذلك القصور في تسبيب الحكم بالبراءة، حتى لو كان هذا الحكم تقريرًا للأصل نظرًا لوجود اتهام من النيابة التي تمثل المجتمع. يجب أن يكون الحكم بالبراءة مسببًا التسبيب الكافي الذي يقنع بقضاء المحكمة. من مظاهر القصور في تسبيب أحكام البراءة القصور في الإحاطة بالواقعة، أو القصور في التسبيب لعدم التمحيص أو التدقيق في أدلة الإثبات، أو القصور في بيان أسباب البراءة القانونية مثل كون الواقعة غير معاقب عليها من الأساس.
هذا ما بدا لي تلخيصه من هذه الرسالة المختصرة في أصلها، وهل لباب نافع من اجتهاد كاتبها من الجزائر العزيزة. يحسن بي الإشارة إلى أن كثيرًا من هذه الدراسات والأوراق البحثية في علم القانون التي سبق لي الكتابة عنها، قد وقعت عليها بطرق عدة، من أكثرها متابعة حسابات قانونية مهمة على منصة إكس، أذكر منها حساب د.فهد السيسي، وحساب أ. محمد السلمي، وغيرهما ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، وهي حسابات عديدة نافعة مثرية، لا يضيع الوقت بالنظر فيها. عسى الله أن يكتب لي ولهم أجر الدلالة والنقل، ولمن كتب هاتيك الأوراق الأجر وزيادة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 13 من شهر ربيع الأول عام 1446
16 من شهر سبتمبر عام 2024م