أم علي…!
الحلوى تجلب البهجة للنفس والمسرة للخاطر؛ وقد ثبت في صحيح البخاري -رضي الله عنه- قول عائشة -رضوان الله عليها-: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالعَسَلَ”، وهذا فعل جبلّي في الغالب. مع ذلك ما أجمل أن توافق محبوبات المرء الحياتية ما كان يحبه الجناب الكريم -عليه الصلاة والسلام- مثل الحلوى، أوما كان يحرص عليه ويتتبعه مثل الدباء الذي هو القرع. بالمناسبة للحلوى فيما سمعت أثر على تحريك الذهن وتنشيطه، وللقرع وما يتفرع عنه فوائد لمقاومة بعض السرطانات الرجالية كما حكى لي من ابتلي بها نقلًا عن أطبائه. عافانا الله وإياه وإياكم.
والحمدلله أني أحب القرع ومرقته وبذوره، وأحب الحلا، وكم يكتفى بحلى واحد عن غيره من الأطعمة. لم يردني عن حب الحلوى اتهام ابن الرومي لها بأن مصدر أكثر الداء من الأشياء تحلو في الحلوق طبقًا لرؤيته، والله يتم على الجميع عافيته وستره. قول بن الرومي هذا لا يحبه تجار الحلوى سواء في المصانع أو المعامل أو المحلات، ولا خوف عليهم، فلزبائنهم سطوة مجتمعية حتى وإن طال صراخ بعضهم بالمظلومية، فالحلوى محببة لدى الأطفال، وصنف رئيس في أي اجتماع نسائي، ولا يحضر معهن نوع واحد فقط، بل تكاد كل واحدة تدخل إلى المجلس أن تصطحب معها طبقًا من الحلوى، والله يزيدهن جمال روح ومظهر، ويبارك في الحلواء حتى تصرف عنهن الأحزان، فما أبرع بعضهن بالتحزن واستجلاب النكد، وهن أهل للإسعاد المشروع المعقول المقدور عليه؛ ذلك أن المرأة إذا سعدت أسعدت، وتضحك الدنيا كلها إذا تبسمت!
المهم أن من الحلوى الشعبية المشهورة جدًا، واللذيذة جدًا، حلوى اسمها “أم علي”، والأقاويل حول أم علي كثيرة، وليس الباب هنا للخوض فيها، لأن هذه المرويات ليست مهمة عندي على الأقل، ولأني أكتب باحثًا عن الطرفة تنفيسًا وترويحًا فقط، وهروبًا من التنغيص وأهله لا كثرهم الله. إن البحث في الأطعمة وتاريخها وتسمياتها وتطورها جزء من البحث الاجتماعي، وله أهميته، والمادة فيه نافعة ماتعة.
كذلك فإن ارتباط “أم علي” بمصر يزيدها حلاوة، وطرافة، ذلك أن شعب مصر العزيز مشهور بالبداهة والمُلح الضاحكة بعيدًا عن هموم الحياة حتى في حالك الأحوال؛ فلا غرو أن قال عنهم المؤرخ المقريزي نقلًا عن شيخه ابن خلدون -رحمهما الله- كلمة معناها: من شاهد أهل مصر وما هم فيه من شيوع الفكاهة يظن أنهم قد فرغوا من الحساب! ومثله لا يخفى على القارئ أيضًا ارتباط حلوى “أم علي” بالنساء وما يميزهن من مهارة التدبير والحياكة. حياكة سبل المكر والدهاء، لاحياكة الملابس، والله يوفقهن للصالح في العاجل والآجل.
فمما سمعته عن هذه الحلوى أن معالي الشيخ القاضي عبدالله بن خنين دعى الشيخ علي بن عبدالله جابر -رحمه الله- إلى مناسبة عشاء في منزله بحي الشاطئ بجدة، وبعد الفراغ من الطعام اقترح الشيخ المضيف على الشيخ المستضاف من باب الاحتفاء والإكرام أن يأكل من حلوى “أم علي”، فقال الشيخ علي جابر لمضيفه الشيخ عبدالله بن خنين بجدية: علي لا يأكل أمه! وللتذكير فالشيخ علي جابر -رحمه الله- أحد أشهر الأئمة الذين صلوا بالناس في الحرم المكي الشريف، وله تلاوات تأخذ بمجامع النفوس والقلوب، وسمعت ممن كان يطوف في رمضان عام (1407)، والشيخ حينها يصلي بالناس التراويح، أن المطاف قد توقف تلك الليلة، والتفت الطائفون صوب الشيخ علي ينظرون إليه ويستمعون لأدائه الذي حبره تحبيرًا بهر به جموع الطائفين. لا تزال تلاوات الشيخ مسموعة منتشرة، والقبول من الله.
وأخبرني أحد الأصدقاء العرب عن رجل من الوجهاء والأثرياء في مدينته الكبيرة، وخلاصة القصة أنه أسندت إلى ذلكم الوجيه رئاسة مؤسسة مجتمعية مهمة للغاية، ولها تداخل كبير مع شؤون التجارة والصناعة؛ فأصدر هذا الرجل وكنيته أبو علي -هو كريم منفق في وجوه الخير بالمناسبة- قراره بمنع دخول “أم علي” ضمن قوائم الطعام في الحفلات المتوالية التي تقيمها المؤسسة التي يقف على رأسها! وأصر على بقاء توجيهه هذا ساريًا طيلة المدة الطويلة التي قضاها في الرئاسة. لست أدري أفعل ذلك غيرة على أم علي أم هروبًا من أم علي!
هذا الهروب هو الذي جعل بعض من كنيته “أبو علي” يرفض أكل حلوى “أم علي” بحجة رغبته في تجريب نوع آخر، ولا يستطيع التجريب إلّا في الحلوى فقط! بل إن أحد المسؤولين الكبار في بلدة عربية حضر حفلة عشاء، وقيل له في ختامها: هل نحضر لك حلوى “أم علي” مادامت ساخنة هذه الليلة قبل أن تبرد! ربما أن هذا السؤال سيق ببراءة أو بخبث لشهرة كنية هذا المسؤول المعروف بالبداهة والظرافة والصراحة، لذلك أجاب “أبو علي” على صاحب المقترح بقوله: أم علي في بيتها وقد بردت منذ عشرين عامًا!
أحاديث حلوى “أم علي” تقودني للدعاء بالرحمة والغفران لوالدينا ووالديكم ووالديهم وصولًا إلى آدم وحواء -المسلم منهم بالطبع-، ومناسبة الدعاء أن جدتي لأمي -رحمهما الله- كنيتها أم علي، وكنا نعبر عنها بهذه الكنية أحيانًا، إذا لم نقل: أمي لولوة. كذلك ظللنا إلى يومنا هذا نسمي أخت الجدة لولوة لأمها “خالتي أم العلي”؛ لأن الوالدة كانت تنادي خالتها لطيفة بهذه الطريقة وعنها تلقينا تلك التسمية المحببة -غفر الله لهما-. والشيء بالشيء يذكر، ذلك أن اسم “علي” أوقع ما يكون حينما ينطق بطريقته العربية الفخمة، لا كما نسوقه بطريقة عامية رخوة تفرغه من معاني العلو والشجاعة. الله المرجو بأن يعيد لنا هذه الصفات المجيدة، كي تزداد المتعة ونحن نلتهم النصيب الذي كتبه الله لنا من “أم علي”!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 08 من شهر ربيع الأول عام 1446
11 من شهر سبتمبر عام 2024م
6 Comments
مقال جميل ممتع
فكرته جديدة وان كانت تصاحبه روح مقالاتك
ولكن العنوان وسرد القصص جعله مختلفا وفيه دمج بين سيرة الأحياء والأموات تبقي السيرة محببة لك وان كانت في طبق حلوى
لعل مقالك هذا بالنسبة لمقالاتك الأخرى بمثابة الحلى بعد الوليمة .
أهلا بالعزيز. فعلا أنا أحب الحلا في كل وقت.
زادك الله من حلاوه الإيمان وحلاوه البيان ما تبلغ به أعالي الجنان
آمين وإياكم
هذه المقالة تحمل الكثير من السعرات الحرارية التي تحث على فك قيود الشراهة في الفتك بالحلوى، وتدعو إلى الاستطعام بالحسّ الظريف للسرد بل إني اضطررت بعدها لأكل قطعة شوكلاتة التهمها بنهم ؛فقد فُتحت شهيتي!
التورط بحب الحلوى على بصيرة وعن سابق عزم وعدم القدرة عن الرجوع عنها هو أجمل تورط يمكن للإنسان أن يتذوقه، على أي صورة وشكل كان فإن له لذاذة تسري بعروقك دون القدرة على الانفكاك من قوة الإذابة التي تحصل عند التهام الحلا، مقالة تخضع للتخلص من كل اكتئابات الحياة وتدعوك لإن تصنع لحظات سعيدة ولو بقطعة من السكر الصغيرة، طعمها يبقى مخزونًا للأبد يحركك نحوة رغبة جارفة للإدمان على طعمه، لم تفارقني الابتسامة لهذه المقالة الظريفة بطعم الحلوى العربية الفاخرة التي لا تتكرر، كاتبنا العزيز لقد نهبت الدهشة في هذه القطعة الإبداعية التي تقطر عسلاً وحلاوة وجمالا لا يوصف؛ سلمت دوماً وابدا..
شكرا على التعليق الحلو