عرض كتاب قراءة وكتابة

البيان الغائب!

البيان الغائب!

للأمم العريقة أدب مسموع يؤخذ مشافهة، وأدب مكتوب يقرأ. كلاهما يحفظان بالتلقي والتداول. كلاهما يحميان إرث الأمم من العبث والسطو. قد يقوى الأعادي على حرق المكتوب ومحو السطور، لكن لا سلطة لهم على إزالة ما حوته الصدور. الأمثال جزء نفيس من الأدب، فهي صورة صادقة عن التقاليد وطرائق التفكير. هي مستودع الذكريات والتجارب، وإحدى الروابط الوثيقة بين السلف والخلف. يضاف لذلك ما فيها من إمتاع، وإرشاد، وحكمة باقية، وقصة خالدة، وهي قاسم مشترك بين العامي الصرف، والمثقف العميق.

وصفها أبو عبيد القاسم بن سلام (224=838م) بقوله: ” حكمة العرب في الجاهلية والإسلام…، يجتمع لها ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه”. قال عنها ابن عبد ربه ( 328=940م) : “هي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عمّ عمومها، حتى قيل: أسير من مثل”. وبين الأمثال والحكم تشابه وفروق، حى قام بعضها مقام بعض. إن الأصل في المثل الإيجاز والتشبيه، والغاية منه الاحتجاج لا الإرشاد، وهو أكثر شيوعًا من الحكمة.

يمكن جمع الأمثال من مصادر كثيرة، مثل القرآن الكريم، والحديث الشريف، وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء، ومن الشعر والخطب والقصص وكتب الأدب والتاريخ. أقدم كتاب معروف جمع الأمثال لصحار بن عياش العبدي (40=660م). من الكتب الحديثة موسوعة بعنوان: “موسوعة أمثال العرب”، إعداد د.إميل بديع يعقوب، صدرت طبعته الأولى عن دار الجيل في بيروت عام (1415=1995م)، ويتكون من سبعة أجزاء أولها دراسة وبقيتها تحوى الأمثال على ترتيب الحروف والسادس مستدرك والسابع فهرس، وعن هذا الكتاب نقلت بعض ما ورد في هذا المقال.

حصر المؤلف في كتابه ستة وستين كتابًا جمعت الأمثال العربية، وفيها المطبوع والمخطوط والمفقود، ثم أشار لكتب الأمثال المتخصصة بأمثال القرآن أو السنة أو للصحابة أو للشعراء أو للفلاسفة. تحدث كذلك عن كتب الأمثال العامية في شتى أقطار العرب، ولفت نظري فيها كثرة الكتب العراقية، والشامية، وقد فصّل المؤلف فيما كتب عن الأمثال اللبنانية، وبعضها مرتبط بأساطير أو بالأشهر الشمسية وفصول السنة، وختم بالحديث عن الدراسات الأوروبية لأمثال العرب. غاب عن المؤلف كتب عربية حديثة مثل “معجم الأمثال العربية القديمة” للدكتور عفيف عبدالرحمن في جزءين، وهو صادر قبل كتاب يعقوب بعقد من الزمان. من المؤكد أن كتب الأمثال القديمة والحديثة أكثر مما حصر، بيد أن هذا الجهد مشكور، والباب مفتوح لمن رام الإضافة.

لم يذكر المؤلف الكتب التي جمعت الأمثال والحكم العالمية؛ لأن هدف هذه الموسوعة هو الأمثال العربية فقط. تلك الأمثال والحكم منشورة في أكثر من كتاب مختصر أو مطول. مما طالعته منها وأفادني كتاب عنوانه: ” قاموس الحكم والأمثال والأقوال المأثورة” لسمير شيخاني، ومن مزايا لكتاب غير عالميته أنه مصنف بما يخدم القارئ. ومن المؤكد أن المكتبة تحوي غيره، ولدي كتب أخرى لكني لم أجد وقتًا للنظر فيها مما يجعل الإشارة لها غير مناسبة.

إن الأمثال مادة مناسبة للاستشهاد واختصار الكلام. الأمثال مادة مناسبة لإيصال المعنى بوضوح وبما يزيل الحرج أحيانًا لكنها قد توقع في حرج ومصيدة كذلك. الأمثال مادة مناسبة لدراسة أنماط التفكير الفردية والمجتمعية حسب العصور والبلدان والحضارات، وربما يذهل الدارس من التوافق في الأفكار وإن اختلفت التعابير عنها. إن الأمثال مادة مناسبة للتداول من باب الارتقاء بالذوق، وما أحرى الألسن الفصيحة بها، وما أجدر الأقلام العالية باستعمالها.

أما السؤال العملي فهو: كيف يستفيد الكاتب والمتحدث من الأمثال كي لا تغدو بيانًا غائبًا عن الكتابة والحديث؟ الأمر يسير، وخلاصته تكمن في امتلاك كتاب واحد أو أكثر في الأمثال، والنظر فيه سواء بقارءة متصلة أو متقطعة، مع التكرار. ثمّ ملاحظة الأمثال الواردة في النصوص الأخرى. من مجموع الأمرين يستطيع الكاتب والمتحدث حفظ حصيلة طيبة من الأمثال، واستخدامها، مع التنبيه إلى ضرورة التوسط بين الهجر والإفراط، وإلى أن معنى المثل ولفظه ليس وحيًا مقدسًا؛ فربما كان خاطئًا، أو لايصدق في أحوال كثيرة.

يستطيع الكاتب استخدام الأمثال في عناوينه، أو يجعلها القفل الأخير الذي يختم بها كلامه، أو ينهي بها بعض الفقرات، وربما بثها داخل النص ليبعث فيه الحيوية، وينشر الحركة. المهم أن تكون الأمثال أداة في يد المثقف حين يكتب أو يتحدث. من الضروري أن يفقه الكاتب المعنى الخاص بالمثل وسياقه، وأن يتأكد من صحة إيراده فيما سيتحدث به أو يكتبه؛ كي لا يصبح مثل من عالج زكامًا وأحدث جذامًا، ولا يصير كبراقش التي جنت على أهلها، فالمثقف كاتبًا كان أم متحدثًا جدير بأن يتبوأ مكانة حذام التي إذا قالت صدقوها!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 04 من شهر ربيع الأول عام 1446

07 من شهر سبتمبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)