قراءة وكتابة

حقل الكاتب!

حقل الكاتب!

للكتابة أكثر من سؤال، وتكاثر الأسئلة في شأن من سمات عظمته. في مقدمة تلك الأسئلة: ماذا أكتب، ومنها: لمن أكتب، وكيف أكتب؟ وماذا بعد الكتابة؟ هذه الأسئلة تختلف أهمية وصعوبة حسب الكاتب وتجربته والأحوال المحيطة به. أذكر أني قرأت نقلًا عن الكاتب العقاد مختصره أنه يتمنى تحديد الموضوع الذي يطلب منه الكتابة عنه، ولا يترك لاختياره. ربما أن دافع هذه الأمنية هو شح الأفكار، أو صعوبة صنعها، أو تزاحمها، وتعذر معايير التقديم والتأخير بينها. مثل هذا الهاجس ذكره الشيخ الأديب علي الطنطاوي حين طلب منه الكتابة عن العيد فلم يفتح عليه إلّا وهو في الشارع بين الناس ليلة العيد. سوف تظلّ هذه الأسئلة قائمة شائكة، وباب المشاركة فيها مفتوح إلى نهاية العالم.

من تقنيات الكتابة التي تمنح للكاتب موردًا لا ينضب، وتعينه في المضائق، أن يكون له اختصاص بموضوع أو أكثر، ويصنع لهذا الموضوع شجرة أسرة كتابية ضمن حقله الذي اختاره، ومزية الشجرة طول العمر، وكثرة الأوراق والثمار، والتجدد، والقابلية للنمو، والتداخل مع غيرها، والتفاعل مع الأحوال الخارجية. سوف يجد الكاتب في هذه الشجرة الملاذ الملائم ليكتب عنها متى شاء. هذا هو حقل الكاتب، وأكثر الكتّاب تأثيرًا من اتخذ حقلًا وتعاهده، وأسعد الكتّاب من ملك حقلًا يحول دون حبسة الكتابة، والاختناق بالانقطاع.

لكن يجب التنبيه إلى أن هذا الموضوع وتلك الشجرة وذلكم الحقل ليست مقصورة على كاتب واحد فقط؛ فهي حقُّ مشاع لكل من حمل القلم بباطل أو بحق! ما أشنع أن يعترض كاتب على ذي قلم آخر حينما يكتب الأخير في مجال يظن الكاتب الأول أنه حكر عليه وحده، ووحده فقط بدون لام؛ لأن كلمة “وحده” لا يدخل عليها حرف خافض أبدًا -اللام غالبًا-، حيث تنصب كلمة “وحده” كيفما وأينما جاءت في الجملة على الحالية بمعنى “منفردًا”، والخطأ فيها بإضافة اللام الخاطئة لحن متكرر كتابة وتحدثًا.

هذا لا يعني المنع من الاعتراض بكل حال؛ فالاعتراض حق متاح على كل ما يعتقده المرء غير صواب، وإنما التحفظ على إيراد الاعتراض من الأصل بحجة تملّك الموضوع أو احتكاره. هذا أيضًا لا يعني أن الكاتب يمتلك موضوعه بمجرد الشهوة أو الهوى، فلا بد لهذا الامتلاك من عدة علمية وعملية، فبغيرهما يكون الجهد كالخط على الماء، أو النقش فوق رمال متحركة. هذا لايعني إلزام الكاتب بتسمية موضوع أو حقل عناية لقلمه، بيد أنه الأفضل له، وغالب المكثرين من الكتابة تحوم أقلامهم على حقل أو أكثر حتى لو يشعروا بذلك أو يتعمدوه في البداية.

من المهم الإشارة إلى أن الكاتب الموفق المبجل لقلمه، الكاتب الموقر لقرائه، الكاتب المتيقظ للمستقبل، الكاتب الآخذ للأمر بقوة، يعتني بموضوعه وحقله؛ فيقرأ عنه كثيرًا، ويبحث، ويفاتش ويناقش، ويدون الأفكار والمقولات، ويحلل ويقلّب أوجه الرأي، ويهبه من الاهتمام الأكيد الصادق بما يفتح عليه من الفتوح الملهمة التي يتعجب منها الكاتب قبل غيره، ويسبح بحمد ربه ومولاه قبل أن يعلن إيمانه بمقولة أسلافه المحفزة: كم ترك الأول للآخر!

هذا الصنيع الكتابي الرشيد يشبه فعل المزارع الذي يبكر غاديًا إلى حقله، ومعه العدد اليدوية والإلكترونية، وأحسن البذور، ثم يختار لها أجود تربة وأسمدة، ويديم سقيها، ويعرضها للضوء كي تقوى وتقاوم، ويتابع نموها وقطف ثمرتها وتشذيب الزوائد منها. لا يكتفِ صاحب الحقل بذلك، فهو يزرع في جهة، ويحصد في أخرى، ويحرث ثالثة تهيئة لها للجديد، وقد يستوعب حقله أشجارًا من مناطق مناخية وزراعية مختلفة. إن صاحب الحقل الذكي لا يرمي الزوائد، بل يجمعها وينتفع بها، فما يدري أيهما أعظم بركة الثمرة التي جناها، أم ما جمعه مما تساقط لسبب أو آخر. إن الكاتب وثيق الصلة بحقله؛ فعليه يغدو ويروح، وإليه الملجأ في التدوين والكتابة.

وفيما بعد، سوف يستفيد الكاتب من موضوعه وحقله الكتابي عدة فوائد، منها أنه قد يصبح مرجعًا فيه أو أحد المراجع المعتمد عليه بشأنه. من الفوائد كذلك أن الكاتب يستطيع جمع ما سطره عن هذا المجال في مؤلف أو أزيد. وربما نجح الكاتب في استخلاص قواعد أو معالم في موضوعه ترشد كل من يأتي بعده حتى يقول القائل: كلهم عالة على فلان. من الفوائد أن الكاتب يغدو من أعلى أصحاب القلم قدرة على ربط هذا الموضوع مع غيره، وأجدرهم بهذه المبتكرات بلا غرائب أو عجائب، وأصوبهم في توقع المستقبل، وإبداء وجهات النظر.

من أمثلة الموضوعات والحقول التي يمكن شرح هذه الفكرة عليها: الوطن، الأسرة، التعليم، العراقة. فهذه الموضوعات، وهي مثال للتوضيح فقط، وغيرها عدد لا محدود من الحقول والموضوعات، تصلح أن تكون الأسرة الكتابية التي لها فروع وأغصان وثمار وأوراق. بل ربما استطاع الكاتب الدمج بينها بلا نتوء أو عسر. مثلًا: العراقة في المجتمع تقتضي العناية بحاضره ومستقبله، هذه العناية سبيلها جودة التعليم. جودة التعليم تتحقق عن طريق مؤسسات المجتمع ومنها الأسرة المتماسكة المتعاونة. ترابط الأسر مبدأ مجتمعي مهم ينبني على العراقة والتعليم ووجود أنظمة مرعية في وطن يولي هذه اللبنة المكانة العالية التي تسحقها. إن الوطن القوي يتكون من أسر متآلفة، وتعليم راق، وعراقة ثابتة.

فيا أيها الكاتب، ويا أيتها الكاتبة: اذهب إلى مستودع أفكارك، الإلكتروني أو الورقي، وسجل فيه قائمة بموضوعاتك وحقولك المعرفية، وراجعها فربما أن بعضها ينتسب إلى بعض. ضعها بعد ذلك في تدرج حسب الأولوية وميولك وقدراتك. حاول أن تربط بينها دون تمحل أو اعتساف. اجعل لها نصيبًا مفروضًا من قراءتك وكتابتك وتفكيرك المتأمل، وحتى الكتابة البعيدة عنها حاول أن توجهها لصالح موضوعاتك وحقولك بدون تكلّف. مثلًا: كيف نخدم بالذكاء الاصطناعي الوطن والأسرة والتعليم والعراقة؟ إن هذا الروض يا مجتمع الكتابة لخصيب مثمر، بل أُنف لم يُرع كله ولن يرع كله، وقلمك أولى من تجوّل في ربوعه باسم الله، وعلى بركته، وبعون منه وتوفيق. لا تتردد فأنت كاتب وأنت كاتبة، والحقول مشرعة أمامكم…!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 02 من شهر ربيع الأول عام 1446

05 من شهر سبتمبر عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. وما أكثر حقولنا وأثمرها وأنفعها..مشهد تصويري بديع للكتابة وما تجنيه، وليس جديدا عليك مثل هذا التنوع!

    يقول بول أوستر:”بالنسبة لي، ليست الكتابة مسألة إرادة حرة، بل هي فعلٌ من أجل البقاء”.

    و قال أحد الكتاب (أنا ممتنٌّ جداً لكل كاتب بليغ متأنِّق حبَّبَ إليَّ الكتابة، لكل كاتب جعلني أقترب منه حتى أُصابَ بعدوى الكتابة.. هذا الداء المُضني اللذيذ!)
    وأنا كلي امتنان لك كاتبنا القدير حين جعلتني أخوض غمار الكتابة بكل حب، وأحوس أرضها واحصد من حقولها و أجني ثمارها!
    ومن أجمل ما أقيل (عندما يمر بك أي شعور سلبي دعه يمر دعه يعبر، فإن كنت كاتبا فلا بأس أن تعيد تدويره في كتابة ليخرج من أعماق النفس إلى آفاق الكتابة؛ لكن دون أن تستسلم أو تسلّم له؛ فكل شعور هو بطبيعته عابر لا يرتهن لغير اللحظة الحاضرة.) د. سعود الصاعدي

    وعن عظمة الكتابة الوجه الآخر لعدم الكتابة هو: الجنون! هكذا يرى نجيب محفوظ

    “كنت أجلس قبالة نجيب محفوظ في نهاية الثمانينات في أحد المشارب المشهورة في ميدان التحرير، وفي الدور الثاني من هذا المشرب سألت نجيب محفوظ فجأة: إنني أهتم الآن بقيمة معينة وجدتها في بعض أعمالك، أجابني بسرعة وهو ينظر إلي بترقب من خلف نظارته السوداء : ما هي؟ إنها (حالة) الجنون! نعم هذه حالة متغلغلة في كياني ولعل الكثيرين لا يعرفون أنني في سنوات عمري الأولى أصبت بمرض الصرع وشفيت منه، أو قيل إنني شفيت منه، وكنت محاطاً في سنوات عمري الأولى بهذه الحالة التي تشبه الجنون، لكنني .. وبعد صمت طال أضاف: لكنني تغلبت عليها بالعمل بالقراءة والكتابة، بالبعد عن حالةٍ تحمل بذور عدم العقلانية، حالة تحمل لي الصمت الذي يصل بي – لو استسلمت – إلى الجنون، الوجه الآخر للصمت.
    إذن، وجدتُ في الكتابة معادلاً موضوعيًّا للخلاص من هذه الحالة، الوجه الآخر لعدم الكتابة هو الجنون، وأضاف محفوظ بسرعة كأنه يحمل هما ثقيلا: أو الموت”.

    مصطفى عبدالغني | قبل الخروج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)