مئة عام من العراقة في تقويم أم القرى

مئة عام من العراقة في تقويم أم القرى

تقويم أم القرى جزء من العراقة السعودية السباقة والراسخة. هذه العراقة حقيقة غير مصطنعة، وبالتالي يشاهدها المنصف، ويكتشفها الباحث عن الحقائق. هذه العراقة لا يستطيع إنس ولا جان محوها ولا تشويه جمالها ولو تظافروا على الإفك والبهتان، ولو ساندتهم في ذلك سباع لا تعدو كونها مثل الماعز لاحياة لها وإن إن! مع ذلك فلا بأس من التعريف العاجل بهذا التقويم، وبيان مكامن العراقة فيه؛ كي نحمد الله المولى سبحانه على نعمائه، ومنه نستزيد العون والتوفيق. لا بأس أن نفرح ويزداد غيرنا غيظًا وكمدًا.

ابتدأ هذا التقويم بأمر من الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- عام (1346)، وظل مقر التقويم وإدارته في مطبعة الحكومة بمكة إلى أن نقل عام (1399) إلى مطبعة الحكومة بالعاصمة الرياض، وكونت له ابتداء من عام (1400) لجان عالية عليمة متنوعة فيها علماء الشريعة والبلدان والفلك والحساب. وظلّت هذه اللجان المباركة تعمل على المنوال الرشيد ذاته حتى مع إعادة تكوينها عدة مرات. ارتبط التقويم ورئاسة لجنته منذ عام (1400) بمؤسسة علمية متميزة هي مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وأفاد التقويم من علم وخبرة الأساتذة والباحثين والفلكيين في المدينة، ولا يزال.

من العراقة الشامخة في تقويم أم القرى أنه فكرة محلية صرفة مرتبطة بالبلاد السعودية في كل شيء. من العراقة الشامخة فيه أنه يحقق مطالب شرعية أساسية لها صلة بأركان الإسلام العملية الأربعة. من العراقة الباسقة فيه أن انطلق من مكة، وارتبط باسمها القرآني. من العراقة الباسقة أن يستمد من التأريخ الهجري القمري الإسلامي  تحديد بدايات الأشهر بناء على سنّة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين وفق لهذا التأريح وجعل بدايته في أول يوم من شهر المحرم من السنة التي هاجر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وهذا التاريخ الباسق اللافت (01-01-01) يوافقه يوم الخامس عشر من شهر يوليو من عام (622م).

من العراقة العلمية في تقويم أم القرى أنه جمع أسفل لوائه، وضم تحت جناحه، تقويمات أخرى شمسية وميلادية، بها يمكن معرفة تواريخ وأيام أكثر أهل الدنيا. كما حفظ مواعيد النجوم والأنواء والمواسم في البدء والمنتهى، كي يعلم الناس عن الأجواء والزراعة وغيرها من شؤونهم، وزاد على ذلك بإضافة جكم وفوائد، ومواعيد الآذان والإقامة والشروق والغروب.

من عراقته السامية طول العمر إذ أكمل مئة عام هي أزيد من عمر دول ومشروعات أخرى، وفوق ذلك فطول العمر مكتوب له إلى أمد بعيد؛ فحاجة المسلمين إلى تقويم قمري هجري يرتبط بمكة لن تنقطع، وهذه “اللن” زمخشرية صائبة في هذا السياق. من عراقته السامية اعتماده على الكعبة المشرفة، والتزام القائمين عليه بضوابط ثابتة وشرعية فيما يخص وقت غياب القمر، وطريقة احتساب دخول الشهر، وهذا لا يناقض خيار الرؤية الشرعية للأهلة بأي وسيلة نظر وتراءٍ ممكنة.

من عراقته القوية تداخله الوثيق مع هوية الدولة السعودية، تلك الهوية المتجذرة من ثلاثة قرون. من عراقته القوية أنه استكمال لمشروع حضاري إسلامي قديم عتيق، وما أشد اربتاط العراقة بالناريخ، والعمر المديد، والزمن القديم، وما أعظم حسرة من يفتقدون هذا العمق في دولهم وأعمالهم، حتى اضطروا للاختلاق، ومحتولة سرقة إرث الآخرين ونسبته إليهم. يأبى الله والعقلاء من خلقه إلّا الشيء الصحيح الثابت بعلم أو برهان أو تجربة أو شهادة حق.

من عراقة هذا التقويم الفذة أن حسابات تقويم أم القرى تجري وفق الشروط التي اعتمدها مجلس الوزراء الموقر، وهو أعلى مجلس تنفيذي في البلاد، وأحد أهم مؤسسات التشريع والتنظيم فيها. هذه الشروط المعتمدة هي اعتماد موقع الكعبة المشرفة مرجعًا في الحسابات، وأن يكون الاقتران قبل مغيب الشمس؛ بحيث يغرب القمر بعد غروب الشمس، ليصبح شرطًا لبداية الشهر القمري الجديد، وفي عام 1420هـ اعتمدت إحداثيات خط الطول وخط العرض للكعبة المشرفة بمكة المكرمة لتصير أساسًا لتقويم أم القرى، كما اعتمدت ولادة الهلال فلكيًا حال غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة. من عراقة هذا التقويم الفذة أنه يصف نفسه بأنه تقويم اصطلاحي مدني، وللرؤية الشرعية أحوالها وأحكامها.

من العراقة البارزة في هذا التقويم أنه لجانه مستمرة بما فيها من تكامل وتنوع، والأبحاث عنه وحوله قائمة متوالية وتنشر في مجلات محكمة، ومصادر معتبرة مهمة. من العراقة البارزة ان المراصد تعمل وفق هذا التقويم، وتنطلق منه وبتعاون جميل مع القائمين عليه. من العراقة البارزة أن التقويم لم يكتف بالورق زالطباعة الفخمة الفاخرة، بل له موقع متجدد، وحسابات متفاعلة على المنصات الحديثة، وتطبيقات له خاصة أو تتكئ عليه. من العراقة البارزة أن القائمين على التقويم لم يرد على ذهن أحد منهم أن الإبداع في خدمة التقويم وفكرته محدود المدى، ولذا فبين ىونة واخرى لهم تجديد عملي، وفتح علمي.

وبعد يأيها العريق وأيتها االعريقة: احمدوا ربكم على هذه النعم، وعلموا أولادكم العراقة المتحدة مع تقويمكم تقويم أم القرى، فهو تقويم شرعي ديني، أمر به ملك مؤسس عظيم، ورعته دولة قوية أصيلة، واتخذ من أم القرى اسمًا، ومن مكة منطلقًا، ومن الكعبة أساسًا، ومن العربية لغة، ومن خدمة الإسلام وأركانه وأهله وحضارته هدفًا، وهو مؤسسة سعودية خالصة، وله بعد ذلك عمل طويل ممتد، وعمر طويل منتظر. الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات، فتقويمنا له بركات وخيرات وهي ظاهرة لا تخفى مثل ظهور نجم “سهيل” الذي يبدأ يومنا هذا، ومع دخوله تتحسن الأجواء وتزداد البركات.

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 20 من شهرِ صفر عام 1446

24 من شهر أغسطس عام 2024م