إدارة وتربية قراءة وكتابة

كيف تضع سعرًا لخدماتك ومواهبك؟

كيف تضع سعرًا لخدماتك ومواهبك؟

من المروءة أن يخدم المرء أحيانًا غيره من أفراد وكيانات ومجتمعات بما وهبه الله من ملكات ومقدرة مجانًا. ليس من المروءة أن يسعى الأفراد والمؤسسات من ذوي الملاءة المالية إلى استخدام الآخرين كل مرة دون مقابل مادي ومعنوي يوازي الجهد أو شيئًا منه. تقدير هذا الأمر يرجع لصاحب الموهبة قبل غيره؛ فلو فتح الباب على مصراعيه للتطوع الدائم فلن يزهد فيه أحد غالبًا! ربما تسامح الموهوب أول مرة وأختها، أو اعتبر أن الخدمة التي يقدمها من زكاة العلم، أو تشبه الإعلان المجاني، أو تصلح لتكون درجة في سلم تعاون طويل منتظر، أو تكافئ معروفًا، بيد أن القاعدة العامة المنطقية تقتضي أن يصبح للتعب الذهني والجسدي، ولفقدان الوقت وبعض المزايا، من الأجر ما يعوض النقص والفقد، ويرضي طرفه الذي تحمل التعب والعنت.

يأتي تبعًا لذلك سؤال مفاده: كيف يقدّر الإنسان قيمة العمل الذي يؤديه، وكيف يضع سعرًا منافسًا لا يزري بمكانته، ويوازي نصبه واجتهاده، ويعوضه عن بعض ما افتقد، ولا يثقل على طالب الخدمة؟ من المهم الإشارة هنا إلى أن المقصود هو الأعمال الحرة غير الدائمة، التي تُطلب من الواحد بناء على خبرته أو تميزه في شأن وباب فتحه الله له، وهي أعمال لا ترتبط بالوظيفة الدائمة، أو بالعمل اليومي في هيئة حكومية أو خاصة. هذا التوضيح لايمنع وجود تقاطعات ومشتركات بين الصورتين، بيد أن المراد من الأساس هو العمل الفردي الحر، وكيفية تقدير الثمن العادل لأدائه.

أول طريقة وأيسرها هي أن يحسب مقدم الخدمة قيمة ساعته في وظيفته الحالية، أو راتبه الشهري إن كانت الخدمة المطلوبة سوف تستمر لشهور، ويضيف لهذه القيمة المبالغ الخاصة بالتأمين الاجتماعي، والطبي، والنقل، والبدلات الأخرى. ثمّ يحسب القيمة المقابلة لاستخدام الأجهزة الخاصة به، وما يترتب على هذا الاستخدام من إهلاك وفواتير. يراعي مقدم الخدمة أيضًا أنه سينجز المراد منه في غير أوقات العمل المعتادة، وربما في أيام الإجازة، وبناء عليه سيقتطع من أوقات العائلة والأسرة والأصدقاء، ومن وقت المتعة والمرح والراحة، ومن الزمن المخصص لتحقيق أهدافه الشخصية.

من الوسائل المناسبة لتحديد الأجر الملائم للأعمال الحرة، معرفة الأسعار السائدة في السوق المحلي، وفي أي سوق يمكن الوصول إليه من قبل طالب الخدمة. هذه الأسعار ليست مقياسًا صلبًا لا يمكن تجاوزه، بل إن تجاوزه هو الأصل لوجود اختلاف بين مقدمي الخدمة حسب الجودة، والسرعة، والموثوقية، والالتزام، وعدد الأعمال المُرتبط بها. كما أن الخدمة المقدمة من خارج الحدود وإن امتازت بانخفاض سعرها؛ إلّا أنها تفتقد مزية معرفة البيئة المحلية، والإحاطة بتفاصيلها، ويعيبها البعد، وصعوبة المتابعة بناء على اتفاق أو حتى عبر القضاء.

أحيانًا يغدو من الحكمة المغفول عنها التنبه إلى مقدار الفائدة التي سيجنيها طالب الخدمة من إنجازها، أو من مشاركتك أنت بالذات فيها، فربما تمثل الخدمة له سبب بروز وظهور، أو تجلب إليه العقود والأرباح، أو تنفي عنه التهمة والسوء، أو تريحه من هم لازب، وواجب مستحق، أو غير ذلك مما ينبغي أخذه بالحسبان ممن دخل في مسابقة لتقديم عرض يبذل فيه خدماته بمقابل مادي، ومن الحنكة أن يضعها ممثلو طالب الخدمة في الاعتبار عندما يوازنون بين العروض الواردة إليهم. إغفال هذه الجوانب ربما يقود لرأي نشاز أو مجانب للصواب والحصافة وواجب الوقت والحال.

كما يمكن التيقظ لبعض السياقات المهمة المؤثرة في تحديد السعر، منها السياق الزمني فبعض طالبي الخدمة يستعجل عليها كأن الريح تحته تحركه يمينًا أو شمالًا، أو كأنه نذير من جيش عرمرم سيصبح قومه أو يمسيهم. السياق المكاني له خطره أيضًا؛ فندرة مقدمي الخدمة في المكان، أو قلة عدد المبدع منهم، والقوة الاقتصادية للبلد، والحرج أو العوائق المتوقعة، كلها عوامل لها ظلالها الأكيدة على تحديد السعر ومقترحات التسعير. كذلك سياق الحال لا مناص من النظر إليه وفحصه، وجعله أحد المدخلات المؤثرة في القيمة المقدمة، فهل هذا العمل من المطلوب بكثرة، أم أنه نادر، وهل هو مجال محبب مرغوب، أم تجفل عنه الخلائق؟

يضاف لذلك تحديد القيمة المضافة منك شخصيًا على هذا العمل، وبصماتك التي لا يحسنها سواك، وآثار اسمك إن كنت من المشاهير البارزين في تلك الخدمة، وأهمية وقتك لديك، والأثر الصحي الذي قد ينجم من العمل على العيون والظهر والأكتاف وغيرها، وهو بُعد صحي بعيد عن أذهان بعض مقدمي الخدمة وعن كثير كثير من طالبيها! من هذا الجنس أيضًا قياس طبيعة الأعمال الواجب عليك تنفيذها، وعدد المقابلات والزيارات وما يكتنفها من صعوبة تحصيل المواعيد، ومشقة معالجة الناس، وعسر بعض البشر في التفاعل وإعطاء المعلومة، هذا غير الاضطرار للسفر، أو إجراء اتصالات طويلة مرئية ومسموعة، مع الانقطاع الاجتماعي والأسري.

يتبقى الإشارة إلى أهمية احتساب جزء من القيمة فيما يعود عليك معنويًا بعد أداء هذا العمل، فقد تخفض السعر لغايات معنوية أو تسويقية، أو لضمان الاحتكاك عن قرب بخبراء وذوي معرفة، أو لاكتساب المحاسن من تجربة جديدة، أو رجاء استمرار العلاقة التعاقدية، أو يكون التخفيض لأسباب تعبدية رجاء ما عند الله. عقب مراعاة هذه المفردات في كتابة العرض وتقديمه، لا مناص من الوضوح في تحديد مدة صلاحية العرض، ومدة تنفيذه، والمطلوب منك ومن الأطراف الأخرى، وقيمته، وكيفية دفع المبالغ المستحقة لك، والصورة النهائية المتوقعة للعمل، وهذه مبادئ أساسية ربما أتعرض لها يومًا فيما يخص تقديم العرض، وصياغة العقد.

أخيرًا؛ يجدر بك أيها الموهوب الموفق البقاء على صلة بما يحيط بفنونك ومهاراتك من تغييرات وتطورات على كل صعيد، وأن تتفاعل معها بما يفيدك وينفعك، وبما يبقي على الحاجة إليك بل ويزيدها. يعينك هذا كذلك على ضمان معقولية الأسعار التي تقدمها؛ فلا تجنح أسعارك مبالغة، ولا تهبط تقديراتك تزهدًا. من هذا الباب يمكن الإرشاد إلى مركزية التجديد ليس في العمل وأدواته فقط، وإنما في صياغة العرض شكلًا، ومضمونًا من خلال اقتراح خدمات جانبية ترفد الخدمة الأساسية، وتقديم استشارات مصاحبة، وربما الارتباط بعقد شهري مع طالب الخدمة يحتسب ضمن الحقوق المادية لك، وغير هذا مما يمنح عروضك وأعمالك رونقًا من التميز، ولمسات لافتة من التفرد، فلا يملك المطلع عليها إلّا الإعجاب بها، والتسليم بأهليتك واستحقاقك، ولو لم تنل من العمل معه نصيبًا لسبب أو آخر!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء الثاني من شهر صفر عام 1446

06 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. ابدعت كاتبنا المتميز، اسلوب المقالة يشير إلى إحكام ودقة فصلت وأوجزت وأشرت وأنرت وليس بمستغرب عليك بل لامست جميع اشكالات الموضوع من عدة أوجه استهلالا بدأت به عن أهمية التطوع طالما أنه يقع ضمن ضوابط وشروط بأن لا يطغى على حياتنا الشخصية والأسرية مرورًا بالنصائح القيّمة التي تغير نظرتنا لفكرة التعامل مع مواهبنا باستثمارها بشكل صحيح يحقق التنمية المستدامة لذواتنا؛ (استخدام الآخرين كل مرة دون مقابل مادي ومعنوي يوازي الجهد أو شيئًا منه.)؛ لو ظلت الأشياء قائمة على العطاء الغير مقنن لذهبت جهودنا وأوقاتنا سدى دون حتى كلمة شكر،بل ربما على حساب صحتنا وعلاقتنا الأسرية مع أهلينا، لا أخفيك موضوعك جاء بوقته بل ربما رسالة خالصة أن تكون توجيها حقيقي لي، عرض علي إقامة برنامجين والانضمام لإحدى المبادرات وكذلك التسويق لبرنامج آخر، كلها دون مقابل او حتى أن يتم انضمامي بعضوية فعلية لديهم، بعد المقالة اعتذرت من الجميع الا أن يكون هناك شواهد توثق تعاوني معهم او مقابل للبرامج الأكثر صعوبة، وليست المرة الأولى التي استفيد مما توجه او تنصح به كاتبنا العزيز، بل سبق وأن لجأت إليك باستشارة شخصية وكنت نعم المجيب والناصح الأمين، مقالة تدعو للتحرر من عبء المجاملات على جناح الخفّه والمهنية والانضباط للنفس دون ارهاقها بما يفوق تحملها،
    مقالة رائعه و تلامس عواصف الظروف المتقلبة بين اهدار الطاقات واستثمارها بشكل صحيح ومناسب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)