شريعة وقانون

لمن تذعن عقود الإذعان؟!

contract

لمن تذعن عقود الإذعان؟!

نشأت عقود الإذعان من وجود طرفين أحدهما في غاية القوة، والآخر في مستوى من الضعف لا يحسد عليه، فالقوي يمتلك تقديم خدمة -في مجالات متنوعة- وربما يحتكرها، والضعيف يحتاج إلى هذه الخدمة بل قد يصل إلى مرحلة الاضطرار التي لا مناص له معها من تحصيل تلك الخدمة بأي ثمن ووسيلة، وبأي شروط. ومن هذا الباب الضيق نفذت عقود الإذعان إلى عالم التعاملات مع أنها تفقد التراضي أحد أهم أركان التعاقد، أو تفتقد التراضي الحر والكامل على أقل تقدير.

لهذا السبب أصبحت عقود الإذعان مثل القضاء الذي لا يرد، ومن ثقلها على النفوس وإلزاميتها الجبرية أن تعارف أكثر الناس على التوقيع أسفل كل ورقة من أوراق العقود دون قراءة المكتوب في الغالب؛ لأن مضمونه ثابت لا يتطرق إليه احتمال التغيير فضلًا عن التغيير ذاته، ومن جراء هذا الاحتمال المرير خسر المتعاقد الأضعف أكثر حقوقه، وغفل عن مواطن تشبه التحايل أو الالتفاف على تلك الحقوق، مع لفِّ حبل غليظ حول رقبته ويديه وأحيانًا قدميه؛ فيغلّ المسكين ويقيد، حتى يغدو بلا حراك ولا مقاومة، فيصدق عليه وصف أضعف خلق الله إنسانًا وإن كانت عيونه بلا حور ولادعج!

وعليه فإنه لا مناص من حماية هذا المستهلك المسكين فردًا كان أم كيانًا من تغول شركات ومؤسسات تتعلق بهم مصالح الناس اليومية أو الحالية، وهذا واجب على المنظم، وعلى المراقب، وعلى مؤسسات حماية المستهلك، وعلى المستفيد نفسه ولو كان ضعيفًا أو مستضعفًا؛ كي لا تنفرد الأطراف القوية بالفئات المحتاجة انفراد وحش ضار كاسر بفريسة لا حول لها ولا قوة ولا نصير ولا معين، علمًا أن هذه المعضلة عالمية، وهي حاضرة في الحراك القضائي والقانوني في بلاد عدة، والحوار حولها لا يكاد أن ينقطع حتى يعود بنشاط من جديد.

فمن الأفكار العملية المعينة على الحماية، وإيجاد قدر معقول من التوازن العقدي بين الطرفين:

  1. إصدار نظام أو إطار نظامي لحماية المستهلك أيًا كانت الخدمة التي يستهلكها، وأيًا كان الطرف الآخر، على أن تلتزم بتنفيذ هذا النظام أجهزة الرقابة ومقدمو الخدمات التي يُذعِن لها المجتمع وأفراده وكياناته المستهلكة، وأن يتابع النظام وتطبيقاته من قبل جهاز مختص فاعل يقظ.
  2. إضافة مواد في القوانين والأنظمة المدنية لكف غلواء عقود الإذعان، ورفع كفة الطرف المذعن.
  3. مراجعة عقود الإذعان من قبل أجهزة قانونية وفنية للتأكد من سلامتها وعدالتها، وتطهيرها من الجناية على المستهلك أو الإزراء بما يستحقه فنيًا وقانونيًا، ولا يمضي عقد إذعان أو يحتج به لدى القضاء مالم يكن معتمدًا من قبل.
  4. معاملة الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم ضد الطرف المذعن له بما يجعلها حكمًا نافذًا على أي واقعة شبيهة، حتى يصبح هذا الحكم حجة للمذعن مقابل المذعن له في أي محكمة، ومثله تعديل القضاء لأي شرط تعسفي في عقد من عقود الإذعان.
  5. تحديد جدول لمخالفات الطرف المذعن له، وما يقابلها من لوازم حكمية وقضائية تصل لدرجة العقوبة التعويضية بحسب الخطأ والضرر، مع تنفيذ مقتضياته بعد الحكم بها. ومن أبرز مخالفات الطرف القوي المذعن له تأخير الرد على الطرف الآخر، وتعسير سبل الاتصال بممثل المذعن له، والتنصل من حقوق المذعن، وإنقاصها، وأمثالها، علمًا أن المخالفات يجب أن تقابل بحزم بما يمنع حدوثها من الأصل، وبما يردع عن تكرارها إن حدثت، فالتهاون والتهادن يزيدان الجرأة من طرف هو الأقوى.
  6. إلزام الأطراف المذعن لها بتقصير سلسلة الإجراءات وتقليلها، وتوضيح مدة كل خطوة والمسؤول عنها والمطلوب فيها، ففي هذه السياسة تقليص للنفقات، وتعجيل للإنهاء وأداء الحقوق، ومحاصرة للفساد، وإشاعة للرضا العام، وضمان الوضوح والشفافية.
  7. إجبار الطرف المذعن له على تأمين قنوات اتصال متعددة فاعلة وعاملة طوال اليوم، ولديها المعرفة والخبرة الكافية والكفيلة بمعالجة أي إشكال من فور وقوعه قدر المستطاع، مع المهارات الفائقة في التواصل والتعامل.
  8. تقييم الأطراف المذعن لها دوريًا، ومع نهاية سنوات مجالس إدارتها، ونشر النتيجة علانية، ومن أبجديات نجاح هذا التقييم، وتحصيل تأثيره الحسن وثمرته المرجوة، العلم المسبق بأجزائه، ومحتوياته، وتوقيته، وكيفية تنفيذه، وما سيترتب عليه، وهو قسم من الحوكمة الضرورية.
  9. التفاعل العاجل مع شكاوى المستفيدين والأطراف المستهلكة المذعنة؛ فهذا التفاعل من لدن الأجهزة الحكومية، ومن مؤسسات حماية المستهلك، سيجعل الأطراف المذعن لها تحتاط وتنأى عن الاستكبار وخنق المستهلكين، وتحرص على إنجاز المطلوب حتى لا يلجأ المتضرر إلى نصير لا يخذله ولا يسلمه.
  10. من الأهمية بمكان ألّا يقود شيء مما مضى إلى هروب المستثمرين، ومحاصرة فرص التجارة والاستثمار، وعرقلة تقديم الخدمات والتنافس فيها، فغاية ما هنالك رفع مستوى المسؤولية والأمانة، والسعي للتوازن والانضباط.
  11. زيادة الوعي الحقوقي عند المجتمع، والمستهلكين على وجه الخصوص، وهو وعي بمال لهم وما عليهم، وهذه المهمة الجليلة لها سبل كثيرة، وهي مسؤولية العارفين بالأنظمة والقوانين، والخبراء بتطبيقها أو بالتحايل عليها من الآخرين.

أخيرًا؛ فإن قياس عراقة أي مجتمع، وعدالته، ورقيه، وسعادته، لا يكون بالنظر فقط للتعامل مع الأقوياء وذوي الوجاهة والثراء، ولا بالتصرف في الأحوال العادية والطبيعية، وإنما يكون أوضح ما يكون وأصدقه، حين تراعى مصالح الضعفة وحقوقهم، وحين يجد الطرف الأقل قوة كثرة كاثرة ممن يعينه على أخذ حقوقه وأداء واجباته، وهذا العون نظامي من الأساس، وعملي على الأرض، وقبل ذلك ومعه وبعده شيء يلقى في الروع والوجدان، حتى يجد المرء النبيل القادر نفسه به ملزمة بالدفاع عن الحق، والمدافعة الناضجة لصالح أهله، وهو الشأن الذي يستجلب الطمأنينة والاستقرار والرضا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 28 من شهرِ محرم عام 1446

03 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    حياكم الله الغالي وأسعد مساءكم وجميع أوقاتكم بكلّ خير ،
    قرأت مقالكم المبارك عن عقود الأذعان نفع الله بعلمكم وأعلى شأنكم ؛ ولا يخفى على شريف علمكم صدور نظام المعاملات المدنية وسريان العمل به ومما نص عليه بما يخص الحد من التعسّف في عقود الإذعان المادة السادسة والتسعون “إذا تمَّ العقد بطريق الإذعان وتضمن شروطاً تعسفيةً؛ فللمحكمة أن تعدلها أو تعفي الطرف المـُذْعِن منها وفقاً لما تقتضيه العدالة. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.”
    محبكم / قاضي…

  2. نظام المعاملات المدنية جعل للمحكمة سلطة على عقود الاذعان في حال تعسف الطرف القوي في احد شروط العقد
    المادة السادسة والتسعون:
    إذا تمَّ العقد بطريق الإذعان وتضمن شروطاً تعسفيةً؛ فللمحكمة أن تعدلها أو تعفي الطرف المـُذْعِن منها وفقاً لما تقتضيه العدالة. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك.
    ولعل الاشكال يقع في معيار عقد الاذعان الذي يصير به عقد اذعان .. فقد تشققت الأقول فيه كثيراً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)