خمسون عاماً في جنة الأرض!
التنوع في السير الذاتية يمنح هذا الفن حياة وتجدداً، ومن ذلك مثلاً أن البعض انصرف من الحديث عن حياته وتقلباتها، إلى التركيز على شأن معين، فظهرت كتب عن سيرة أمكنة وبلاد، وحقب وزارية، وتجارب برلمانية، وحيوات إدارية، وهكذا مما لا يخفى على القارئ المتابع غالباً.
ومن التصنيفات البهية، ما كتبه المبدعون عن سيرهم في الكتابة والإبداع، فماهي قصة المقالة الفلانية؟ وكيف ولدت تلك الرواية؟ وأين أتاه وحي تلك القصيدة؟ فضلاً عن سرد سجل التطور الإبداعي في الكتابة عبر الزمن. ومن هذا الباب ما كتبه القراء عن مكتباتهم، وعيشهم مع الكتاب، ومن أبرز ما يقفز إلى الذهن مؤلفات مانغويل، وقاسم الرجب، والأحمري، وسبق لي الكتابة عنها كلها، والحمد لله.
ومعي اليوم كتاب بعنوان: قصة مكتبة: خمسون عاماً في صحبة الكتب والمكتبات في الوطن العربي وخارجه، تأليف: أ.د.عبد الله عبد الرحيم عسيلان، صدرت طبعته الأولى عن دار الثلوثية عام (1438=2017م)، وعدد صفحاتها (574) صفحة من القطع الكبير.
يتكون الكتاب من مقدمة، يتبعها أربعة وخمسون عنواناً، فملحق بالصور يتجاوز مئة صفحة، ثم الفهارس. وعلى الغلاف الأمامي صورة للمؤلف في مكتبته يقلب كتاباً، وعلى الغلاف الخلفي تعريف بالبروفيسور، مع صور لأغلفة بعض كتبه السابقة. والورق المستخدم في النص والصور من نوعية فخمة مريحة للعين، وهو ما زاد من جمال إخراج الكتاب الذي تولته دار النوادر الدمشقية، وفي آخره عدة صفحات فارغة؛ وربما أنها أضيفت لتعين القارئ على التدوين والتعليق.
تحدث المؤلف عن قصته مع القراءة، وبدايات تكوين المكتبة، ثم طاف بنا مع المخطوطات وهو عالم فاتن لمن ولجه، ورحم الله الخبراء فيها، وحفظ من بقي منهم ونفع بهم، ويا ليت أن الجامعات تكمل المسيرة الجميلة التي بدأها المؤلف في جامعة الإمام، حتى ضمت مكتبتها أكبر عدد من المخطوطات ومصوراتها؛ فإرث أمتنا المتفرق في أصقاع الدنيا أمانة علمية وحضارية في أعناق القادرين.
وانتقل البروفيسور بعد ذلك لبيان مصادر مكتبته، وكيف كونها من مكتبات محلية وعربية وعالمية، وهو مشوار طويل ابتدأه منذ شبابه الغض، والفضل في ذلك لله ثم لوالده رحمه الله، وكم في ذمة الآباء من حق لأولادهم؛ ويتأكد هذا الحق مع أمواج السفاسف التي تجتاح الأجيال من الجنسين لتقتلعهم من ثقافتهم، وتصيرهم كالمنبّت المنقطع الخلي من أي تأثير أو فائدة.
وفي مسيرة الشراء وسنوات التكوين مواقف طريفة لا تستغرب من كتبي؛ فقد باع ساعته ليشتري كتباً، وكان يقضي الساعات في المكتبات ومخازنها، حتى غدا خبيراً بمحتوياتها أكثر من صاحبها أحياناً، وقادته الفتنة بالكتاب لزيارة المقابر! وبين المكتبة والمقبرة عوامل مشتركة! وأخيراً تعرف إلى باعة كتب نفيسة مع أنهم لا يحسنون القراءة أو الكتابة.
وتجول الكاتب بعد ذلك في أقسام مكتبته حسب تصانيف الفنون، وتغلب عليها علوم الشريعة، واللغة، والتاريخ، وهي أسس ثقافة أي أمة، وتمثل كتب اللغة 70% من الكتب بحكم التخصص. ومما تحويه مكتبته يستبين فائق العناية بالسيرة الشريفة، والمدينة النبوية من جميع شؤونها؛ حيث يوجد في مكتبته سبعمئة كتاب عنها؛ ومن لم يطب بطيبة فأين يطيب؟!
وفي جنته الأرضية كتب عن الخيل، وما أجمل الفروسية وركوب الخيل، وأخرى حول علم البلاغة، وفيها روايات عالمية أو عربية، ودراسات عن الرواية خاصة بعد الانفجار الكبير في كتابة الروايات؛ وجزء ليس بقليل منها غث غثيث كثيف الفساد والغثاء! وتضم مكتبته دراسات عن الأدب الأندلسي، وهو أدب آسر، وقبل ربع قرن زرت مكتبة اقتصادي من أصحاب المعالي، وكان جلها عن الأندلس وأدبه.
ثم توقف الباحث مع شخصيات وقامات كبرى، وتكلم عما تضمه خزائنه من كتب عنهم، ففيها مؤلفات عن ثلاثمائة ديوان شعر، لكبار الشعراء كامرئ القيس، وأبي تمام وله مزيد عناية به؛ لأنه موضوع إحدى رسائله العلمية، ثم المتنبي كبير شعراء العربية، وصاحب الديوان الذي حظي بأربعين شرحاً، وقرينه شاعر الحكمة المعري، فالشاعر البارع البحتري المظلوم بقلة ما كتب عنه كما يرى المؤلف.
وبعد ذلك توقف عند معاصرين كبار، ووصف حضورهم الجميل في مكتبته، واستهل السرد بأبي فهر محمود محمد شاكر، وللمؤلف مزية يتيه بها فخراً، وهي حضور مجالس أبي فهر، والنهل من علمه وخبرته، والإفادة من مكتبته. ثم تكلم عن أدباء وكتاب آخرين كالعقاد، والرافعي، وطه حسين، والمازني، وحمد الجاسر، ومحمد العبودي.
ومن اللطيف أن رفوف مكتبته جمعت بين فرقاء المعارك الأدبية الكبرى، وهي معارك شغلت الرأي العام الثقافي في مصر وغيرها، ومن حسناته عنايته بقامات محلية كعلامة الجزيرة الجاسر، والعبودي عميد الرحالين العرب كما وصفه الدكتور محمد المشوح في كتاب حافل ألفه عنه.
وفي حديث محزن؛ بيد أنه لا مناص منه، مال المؤلف للحديث عن مآل المكتبة، وهو هاجس يراود أصحاب المكتبات، وأشار إلى كتاب تتبع مصير مئتي مكتبة عنوانه: العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم، تأليف أحمد العلاونة، وصدر عن مركز فهد الدبوس للتراث الأدبي في الكويت عام (1432=2011م). ولم يشر المؤلف إلى ما اختاره لمآل مكتبته، أطال الله عمره على طاعة وصحة وبركة، وسبق لي الكتابة عن هذا الهم المؤرق قبل بضع سنوات في مقالة عنوانها: أبناء الأكابر والمسؤولية.
ثم عرج المؤلف على إهداءات المؤلفين له التي تجاوزت ثلاثمئة كتاب، وأذكر أن د. غازي القصيبي تحدث أو كتب عن استغرابه حين عرف أن لدى الكاتب السياسي محمد حسنين هيكل مكتبة أخرى من إهداءات المؤلفين فقط! ثم دار الزمان دورته فأصبح لدى الدكتور القصيبي مكتبة خاصة من إهداءات المؤلفين! ومن التحدث بنعمة الله أني محظوظ في هذا الجانب سواء من المؤلفين أو الناشرين.
ولأهمية الكتب النادرة؛ خصها البروفيسور عسيلان بتدوينة خاصة، حيث يصل عمر بعض مقتنيات مكتبته من النوادر المطبوعة إلى مئة وخمسين عاماً، ووجد على بعضها إهداء من مؤلفها! وما أصعب أن تهدي كتاباً لعزيز ثم تجده معروضاً في مكتبات المستعمل، وقد عثرت في إحداها ذات مرة على كتاب ألفه وزير عربي، وأهداه بخطه لأحد كبار الأثرياء!
ثم أتبع المؤلف ذلك بحديث ماتع عن نوادر مكتبته، فبعضها طبع على نفقة تجار يهود، أو بواسطة جمعيات تنصيرية، أو بطلب من ملوك بعض دول أوروبا، ومنها كتب ألفها قساوسة، وأخرى في مدح النعال! وعلى بعضها ختم يفيد بأن أي نسخة غير مختومة فهي مسروقة، وقفل الحديث بكتابين عن النساء.
وكتب شؤون المرأة-عدا الطبخ والتجميل- تجذب الرجال غالباً، وقد روى الدبلوماسي العراقي أمين المميز في يومياته عن مقامه القصير في السعودية، موقفاً طريفاً حدث في ركن الكتب النسائية في مكتبة الوجيه الشيخ نصيف بجدة، بين رجلين عريقين في السياسة، وملخصه أنهما تسابقا إلى هذا الركن، واستل أحدهما الكتب قبل صاحبه، واستعارها، ولم يرجعها إلى الشيخ نصيف بعد ذلك، وقد مات أبطال هذه القصة وهي لازالت تروى.
ومع أن الكتاب سلس جداً، إلا أنه طويل وكان يمكن اختصار النص، وحذف التكرار، وتدقيق المعلومات العددية عن مكونات المكتبة حيث اختلفت بين موضع وآخر، وقد يكون السياق الزمني هو السبب في هذا الاختلاف. والشيء بالشيء يذكر؛ ففي الكتاب أخطاء طباعية تسيء لجمال إخراجه، ونفاسة مضمونه.
وبما أن المؤلف خبير بالمكتبات، ومعارض الكتب، والمخطوطات، والتجارة فيهما، فليته صب خبرته فيهما تحت عنوان واحد ليستفيد القارئ، ويكون التركيز فيها لأن بثها في مواضع متفرقة قد يقلل تأثيرها. ومن هذا الباب حصر فوائده وتجاربه في القراءة، والخلوة في المكتبة، والتأليف، في موضع واحد، وهي من أجلّ ما ينفع الناس؛ ويمكث في الأرض، فضلاً عن إضافتها سمات ونكهات خاصة بصانع هذا الفردوس الأرضي وساكنه لمدة نصف قرن.
ومع كثرة اطلاعي على السير الذاتية، أجد في نفسي احتفاءً كبيراً بالسير المتخصصة، وبتلك التي تحاول ربط الفائدة مع المعلومة، بالتصريح أو التلميح، وهذا واجب لأمتنا، وبلادنا، وأجيالنا، على القادرين من القدوات، وأصحاب التجارب، والمعارف، والخبرات، ولعل صنيع المؤلف أ.د. عبد الله عسيلان أن يكون حافزاً لهم؛ كي يكتبوا ما يرتقي بالذوق والوعي؛ ويصنع المستقبل لأمة يراد لها أن تغفو ولا تصحو!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 06 من شهرِ صفر عام 1439
26 من شهر أكتوبر عام 2017م
One Comment
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه
الجميل في مقالاتك. هي الصلاحية والمناسبة والمخاطبة للغالبية من القراء من الجنسين .والاستفادة منها . سوف اخذ دعاؤك الجامع . اطال الله في عمركم على طاعة وصحة وبركة . لااكتبها لااولادي . ولصديقاتي .. سائلة الله العلي القدير ان يطيل في عمركم على طاعة وصحة وبركة ويجعلها في ميزان حسناتك