إدارة وتربية مواسم ومجتمع

شهوة التنظير وعجز التطبيق!

شهوة التنظير وعجز التطبيق!

جاء في ترجمة الحسن بن الهيثم، أنه وعد بعملٍ في نهر النيل لم يُسبق إليه، وسينتفعُ منه الناسُ ومصر؛ فاستقدمه الأميرُ العبيدي الحاكم بأمره، فلما وقفَ ابنُ الهيثم على النيل، ورأى آثارَ مَنْ سبقَه مِن المهندسين، تأكد من استحالة تحقيق وعده، وندم على استعجاله بإطلاق الوعد دون يقين، فأعتذر من الحاكم الذي أظهر قبول العذر، وأضمر الشرَ لابن الهيثم؛ عقوبة له على العجز والإخلاف.

لكن الحاكم أوكلَ إلى المهندس شؤون بعض الدواوين حتى يطمأن قبل أن يأخذه من مأمنه ببطش وفتك، فقبلها ابن الهيثم مضطراً، ثم أظهر الجنونَ والخبل، ولزمَ بيته حتى تيقن من وفاة الحاكم، فخرج من داره وأظهر العقلَ واشتغل بالتصنيف فيما يحسن تصوره وعمله والخوض فيه، وقد قررت جامعة فؤاد الأول عام 1939م -جامعة القاهرة الآن- تخليد اسمه؛ بإنشاء محاضرات ابن الهيثم التذكارية، لتُلقى بكلية الهندسة فيها، تكريمًا له على ما يستحقه مما أجاد فيه وأفاد.

هذه الرواية تختصر كثيرًا من المظاهر الشائعة المرتبطة بالسجايا البشرية، وخلاصتها أن المرء يستسهل أداء عمل غيره، ولو أحيل إليه العمل نفسه، لوجد من العنت ما يقلب سواد الشعر إلى بياض حتى يخاطبه بقول المتنبي: ابعد بعدت بياضًا لا بياض له! ومن تطبيقات هذه الجبلّة البشرية تعليقات حماسية من بعض متابعي المباريات على أخطاء اللاعبين والمدربين والحكام أو ما يتوهمونه كذلك بينما هو عين الصواب، ومنها لوم الرجال للنساء والأزواج للزوجات والعكس، ولو ابتلي الواحد من الجنسين بمهمة الآخر لاكتشف مدى عجزه وظلمه، ومن أكثرها شيوعًا تقييم أعمال الأجهزة الحكومية، وسلقها بألسنة حداد أحيانًا، والسخط عليها مع الدعوى المرسلة بسهولة الإصلاح والتحسين.

ومما سمعته من برلماني عربي سابق، أنه ومجموعة من ذوي الاختصاص، اختيروا أعضاء في لجنة تُعنى بشؤون النقل بأنواعه كافة؛ فصبوا جام الغضب والانتقاد الحار على جهاز حكومي معني بالنقد، وبعد مدة أصبح أحد أعضاء هذه اللجنة على رأس ذلكم الجهاز بعد شغور المنصب وإعفاء شاغله، وعندما عايش الرجل وعاين المشكلات والعوائق التي تصبّح عليه وتمسيه غدوة وعشيًا، وربما تطير النوم من أجفانه، دعى بعد شهور يسيرة زملاء لجنته البرلمانية لزيارته في مكتبه الفخم، وصارحهم بأنه حينما أوسع الجهاز والعاملين فيه نقدًا، واقتراحًا، كان غارقًا في مثالية ورقية ينكث الواقع الصعب غزلها الهش أنقاضًا! وكم مرة ومرة أسند منصب لمن حاضر أو كتب فيه فلم ينجز شيئًا، وبالمقابل فربما نجح الإسناد في حوادث أخرى كما حدث مع كاتب صار رئيس بلدة فأحسن وأبدع.

طبعًا هذا كله لا يعني الامتناع عن إبداء الرأي والمقترحات، وتقديم الملحوظات، والانتقاد الموضوعي المنصف المؤدب، وإنما غاية ما هنالك أن يستفيد صاحب المقترح والانتقاد، من حكمة الإمام المطلبي الجليل محمد بن إدريس الشافعي -رضوان الله ورحمته عليه-، ويخلع الكاتب أو المتحدث على آرائه وأقواله وأعماله سمة الصواب القابل للخطأ، وعلى ما يقابلها عند الآخرين مما ينتقده صفة الخطأ المحتمل للصواب ،فمن غير اللائق أن يتكئ الواحد على أريكته، ثمّ يوزع الأحكام والحكم، أو يبث التهم والوهم، دون بينات أو علوم محكمة.

ومما وقع لي من هذا الباب، أني أنجزت بعض الأعمال خلال سنوات فائتة، وطلب إلى أساتذة جامعيين تحكيمها -وهو مطلب رشيد معتاد-، فكتبوا التحكيم وفيه المحاسن والمآخذ -بحسب اجتهادهم-، لكن المذهل أني وقعت على أعمال لهم بعد أعوام من ذلكم التحكيم، فوجدت فيها كمًا غير قليل من “الأخطاء” التي وصموا بها عملي -وبعضها خطأ مني وفيها خطأ منهم-! هذا مع التحية والمحبة للأصدقاء الأكاديميين؛ لكنها هي طبيعة البشر، والكمال عزيز، تمامًا مثل الإنصاف، والخطأ والوهم لوازم بشرية؛ ولذلك أفتى أئمة بالسعي بين الصفا والمروة أربع عشرة مرة لأنهم منعوا من تأدية النسك ولم يشاهدوا الصفا والمروة، بل أشدّ من ذلك فبعض المسؤولين لا يمتلك الشجاعة والجرأة وبعد النظر إلّا بعد مغادرة المنصب الذي كان يشفق عليه شفقة أم منقطعة على وحيدها، والأمثلة وافرة.

كما سمعت مرة أن إحدى المدارس طلبت زيادة في عدد المعلمين من أجل ترتيب الأنصبة وفق النظام، لكن صاحب القرار رفض، وأصدر أمرًا فيه تكليف أحد الأساتذة بتدريس مادة التربية الرياضية حتى يمكن تعديل الأنصبة دون حاجة إلى زيادة عدد المعلمين، وعندما أرسل التوجيه للأستاذ المكلّف، وهو ممن فقدوا نعمة البصر -عوضهم الله بالجنة- كتب لصاحب الأمر: آمل صرف كورة ذات أجراس حتى أتابع حركتها بسمعي! وفي هذه الحكاية إشارة لأهمية أن يبخص المرء الواقع ويفحصه، ويستجلي دقائقه قبل أن يغرق في شهوة التنظير التي ربما يقابلها عجز مشين في التطبيق.

خلاصة الأمر، إذا بدا لك أن تنتقد عملًا عامًا أو خاصًا، فبعد إحسان الظن وسلامة النية، وتحقيق وجود شرط العلم أو الخبرة أو البرهان، حاول أن تطل على الواقع الفعلي مباشرة بعيدًا عن التقارير والروايات والأخبار، وأن تحيط علمًا بما يحتف بالمسألة قدر المستطاع، حتى يكون رأيك حسنًا وليس عجيبًا أو أضحوكة تروى، وإن أصررت على سوق الرأي والانتقاد دون ما سبق من ضوابط ربما تكون عسيرة، فلا أقل من ألّا تعمِّم، ولا تحكم بجزم، وأن تدع فرصة للتراجع، وأخرى للحقيقة حينما تسفر عن نفسها تاركة الظنون والأوهام مثل السراب الذي يُرى عن بعد، ومع القرب تتضح الحقيقة، والحقيقة دائمًا ستعلو.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 08 من شهرِ محرم عام 1446

14 من شهر يوليو عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. كاتبنا القدير… ارتشف كوب من الشاي .. لدي تعليق يطول!
    في البداية، يارب باعد بيننا وبين الجهلة وقطاع الدروب والأحلام والأفكار ممن يحاول أن يلبسنا قناعاته وفكره وهو ممتلئ بالنواقص!
    لا أعلم بينما أنا اقرأ هذه المقالة شعرت بوخزة وجع؛ استحضرت اشياء كثيرة لا يسعني حصرها او حتى تسمح الصفحة البيضاء لاستيعابها؛ السحر كل السحر في تفهم الآخر، أن تضع نفسك مكان هذا الشخص ثم تتفهم خطأه حينها سوف تفهم معنى التقدير، التقدير الذي يعني وضع كل شيء بموضعه الصحيح دون تقديس او نزعة نحو المثالية بل بإطار بشريتنا الإنسانية !
    استوقفني ماذكرت عما وقع لك في هذا الباب”أني أنجزت بعض الأعمال خلال سنوات فائتة، وطلب إلى أساتذة جامعيين تحكيمها -، لكن المذهل أني وقعت على أعمال لهم بعد أعوام من ذلكم التحكيم، فوجدت فيها كمًا غير قليل من “الأخطاء” التي وصموا بها عملي”!
    تذكرت موقفك معي بل أجزم مع الجميع!
    كاتب مثقف، ومبحر في عالم الكتابة والقراءة ..
    بعثت لك خاطرة عابرة ممتلئة بالسذاجة لاجدوى حتى من قرأتها ممتلئة بالأخطاء والحشو لغويًا وكتابيًا .. إلا أنك لم تغلق الباب في وجهي، ولم تتصيد الأخطاء، وتحاول أن تنزع مني قيمة ما كتبت، لم تنتصر لنفسك وتفرد جناحيك بالعلم والمعرفة، بل أحطتني بالدهشة! اختنقت حروفي حين أخذت بيدي، وكنت اسأل ما الذي رأيته مني حتى تمنحني تشجيعك ودعمك وأصدق توجيهاتك، لا أعرف عن الكتابة إلا اسمها، ولا عن القراءة إلا سرقة الأوقات حتى أختلي بنفسي للهروب فقط من الألم، أقراء بمستودعٍ قصّي حتى لا أكون محل سخرية من حولي، كنت بجبّ البئر التمس النجاة، وابحث عن بصيص أمل يأخذني نحو الحياة، حتى الأحلام حُرمت منها تماماً، تغيرت حياتي حين التحقت ببرنامجك التدريبي عن الكتابة، لم يكن بمقدور اي شخص أن يدرك أن من بين الحضور شخص بائس،ممزق، تائه!
    هدِل سحاب كلماتك في قلوبنا ثم تدلَّى، و دنا من أرواحنا العطشى، لم تكن كلماتك باعثه على الطمأنينة فحسب، بل علمتنا بأنه ليس هناك مستحيل او أحد أفضل من الآخر الا بقدر ما يطوره بنفسه!
    كنت أقرأ و أعاند وقتي لأستمر، استوقفتني عباراتك التي تحثنا على القراءة والكتابة ولامست شغاف القلب،لم تكن إلا عميقة، تجوب بنا نحو حرية الفكر وتمزيق ثياب اعتقادات الآخرين بأن قناعاتهم وانتقاداتهم هي الأصح دومًا ، كنت مُلهمي ومعلمي رغم اقترافي الخطأ تلو الآخر لكنك كنت صبورًا متعاطفا معي ومع الجميع،
    لطف الله بأن يهبنا شخص قريب، من عالم غريب يشاركنا تفاصيل الجمال، يحرّضنا على تغيير البؤس فينا، ويسقي فينا أحلامنا النائمة، ويذيب جليد المشاعر!
    كاتبنا المتفرد!
    لقد سافرت بروحنا نحو صباحات تمتزج بروائح عتيقه،
    إنك تدفع الرغبات بانسيابية، تتسرب قناعاتك الإنسانية بكل أدب لنفوسنا دون أن تحدث صخب،حفرت بالعقل جملتين تفسران بعضهما بجمالية تتجاوز حدود المدى،” لا تستند على أحد في خطواتك القليلة….كن قوياً..لا تنهزم! لا منطق من البقاء في حياة مظلمة”!
    مهما حاولوا أن يسلبوك الحق باختلافك!انفصل عن انتقاداتهم وغب في آفاق حلمك!
    واعطيتنا خيارين، لا ثالث لهما اما عُد مثل شمس، أو لا تعد أبدا.
    كاتب استثنائي لم يقبل إلا إن يكون متدربيه مشرقين دائما دون ان ينافسهم او يثبط عزيمتهم بالتقليل من شأن ما يكتبون!
    ثم تستوقفنا شجاعتك في البقاء جانبنا لتعلمنا درسا في العلاقات والوفاء، وتخبرنا أن الانسان لا يجب أن يهدر قيمة نفسه، ولا أن يكون غرضا تكمل به النواقص، إنها الغاية الأولى وتمام النشوة لإنه لا أحد يعرف ألوانك الزاهية سواك.
    الرحلة “الأحمدية ” للانطلاق بالكتاب الشباب لم تتوقف بل استمرت بصوته الداعم الذي يتسرب للأناء، منحتنا فيها كاتبنا فرصة السفر الذهني إلى وجهاتٍ عديدة من خلال توجيهاتك، والتلاقي مع عقول عدة، داعمًا لنا من خلال ملاحظاتك البناءة، لم تكن غايتك في ذلك كله الا أن تهب أقلامنا الحديث والحرية عن الذين عجزوا عن الكلام!

    1. أهلا بكم الكاتب العزيز، وإنه لمن فضل الله على المرء أن ينتفع وينفع قدر المستطاع، وقد كان الشاي المرتشف مع هذا التعليق لذيذأ للغاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)