1446!
للأرقام دلالة وذكريات وطرائف، ولي -مثل غيري- حكايات مع الأرقام ربما أسردها يومًا، مع التنبيه إلى وجود بعض الخطل فيما يخص التنبؤ بالأرقام خاصة ما ربط منها بالقرآن الكريم دون دليل أو برهان، وهو باب مشرع تهفو إليه فئام من الناس؛ لوله الطبيعة البشرية بمعرفة الغيب والمستقبل، أو للبحث عما يسري من الأحزان، ويفتح كوة من الأمل تجلو كدر الأيام، ولو كانت محض وهم، أو مجرد احتمال قابل للإبطال.
والرقم الذي يعلو هذا المقال، وأصبح عنوانًا له، ليس من هذا في قبيل ولا دبير بحول الله، بل وأبعد من ذلك؛ فهو رقم لا يمت بصلة للسنة الهجرية الجدية بطريقة مباشرة، وإن افتتحتُ مشوار الكتابة خلال هذه السنة به، علمًا أن التاريخ الهجري هو الأصل المستخدم في حياة المسلمين اليومية؛ فبه تنضبط جميع الأحكام الشرعية الفردية والجماعية، والكفارات، والعدد، والأيام الفاضلة، وشهر رمضان، وموسم الحج، ويجب ألّا يغيب هذا التقويم عن البيوت، وعن البرامج التربوية والإعلامية والثقافية، حتى لو أصبح التأريخ بالميلادي هو السائد في جلّ المعاملات، والجمع بينهما أمر ممكن وميسور.
أما قصة هذا الرقم الجميل، فهي أنه رقم أول هاتف دخل في منزل والديّ -رحمهما الله-، وقد عاش معهما، وانتقل وإياهما لأكثر من منزل، ووفقهما الله من خلاله لأداء واجبات صلة الرحم، وصنائع المعروف، ومتابعة الذرية، والتفاعل مع المناسبات الشرعية، والتعاطي الملائم مع مناسبات الآخرين السعيدة أو الحزينة. كما جعلاه سببًا لتيسير السلام على الباقي من الأجداد -جدي لأبي وجدتي لأمي-، خاصة ممن يروم إلقاء التحية عليهما بمناسبة أو بدون من الكرام البررة -رحم الله الجميع وغفر لهم-.
ومما أذكره حرص الوالد على سرعة تركيب الهاتف في المنزل بعد إتاحة الخدمة؛ لأن الهاتف ليس بغريب عليه، ومن المؤكد أنه رآه في أسفاره المبكرة مع والده ورجال أسرته في قوافل العقيلات. وقد سمعت أبي بعد الانصراف من صلاة الجمعة وهو يسأل أكبر مسؤول في إدارة الهاتف عن موعد التركيب، والرجل يعد بالتعجيل والمتابعة، وقد أوفى. وطبعًا كان السؤال والجواب خارج الجامع؛ لأن أبي يستعظم الخوض في شؤون الدنيا داخل المساجد، إلّا لسبب معتبر شرعًا.
ثمّ بعد أن اتخذ الوالد رقمًا في منزله وآخر في متجره، لم يكن له بهما شغف، إلّا في حدود ما يؤدي به الواجب الديني، والعائلي، والأسري، والاجتماعي، أو ما يُنهي به المعاملات التجارية وما يدخل في نطاقها. ومن طريف ما تختزنه الذاكرة أن الوالد ينادي موظفًا مصريًا كبيرًا في شركة يتعامل معها قائلًا: بهجه! مع أن اسم الرجل بهجت، ولم أجرؤ على التصحيح له -والحمدلله أني لم أتعجل-. وفيما بعد قرأت أن الملك عبدالعزيز كان ينادي طبيبه السوري مدحت شيخ الأرض -رحمهما الله- بقوله: مدحه! وعلمت أن هذا النطق هو الأقرب لسليقة العرب، وأن أسماء دارجة مثل مدحت وبهجت وما جاء على غرارهما هي من إدخالات الأتراك على العرب غالبًا، فغفر الله للوالد الذي كان لسانه مستقيمًا من كثرة تلاوة القرآن الكريم، حتى أن أحد رؤساء المحاكم سأله مرة على سبيل الإكبار والدهشة: أين درست النحو؟!
ولم يحرص الوالد ولا الوالدة على إجابة الهاتف إذا رن، ويتركان هذه المهمة لأقرب مار بجوار الجهاز، ومن لطيف ما لا أنساه أن الهاتف نادى مرة، وكنت قريبًا منه، وبعد أن رفعته سألني المتصل عن نتيجة مباراة في الدوري انتهت للتو، وكانت تعرض على القناة الأولى، ثمّ بسبب دخول وقت نشرة الأخبار، انتقل البث للقناة الثانية التي لم يكن بثها يصل آنذاك لمنطقة المتصل الذي اختار رقمنا دون معرفة، وحين أخبرته بفوز أحد الفريقين فرح وانهالت دعواته لأن الفائز ناديه المفضل! ومرة اتصلت صديقة أثيرة للوالدة وجارة محببة لها، وسألتني بعد أن كنت المجيب عليها: أين أنت؟ فقلت لها: في الربع الخالي التي درستها للتو في منهج مادة الجغرافيا، وكان جوابي مثارًا للتضاحك بين الوالدة وجارتها.
كذلك مما امتن الله به على الأبوين -رحمهما الله- أنهما لم يلتفتا للاتصالات الكيدية الكاذبة، التي تكاثرت مع بدايات دخول الهواتف للبيوت، ويرجع تكاثرها إلى غياب الخوف من الله، وضعف المراقبة، وصعوبة كشف هوية المتصل آنذاك، وإقبال الصغار -في السن أو العقل أو الخلق أو المروءة- على هذا الوافد الجديد عبثًا وإمضاء للوقت واستذكاء غبيًا أو استظرافًا سامجًا. وكانت هذه الاتصالات تزعم وقوع حادث، أو حريق، أو وفاة، أو غير ذلك من الدعاوى الاجتماعية، وإن من يجعل كلام المجاهيل دبر أذنيه وخلف ظهره لفي راحة وسلامة ومغنم.
كما عرفنا من خلال الهاتف أهل ودِّ الوالدين ومحبتهما؛ إذ يبتدئ الأبوان بالتهنئة والسلام على أولئك النفر الجليل قدرهم مع دخول شهر رمضان الكريم، وفي عيد الفطر وعيد الأضحى. كما أصبح من اليقين أيضًا تحديد أكثر الناس حبًا لأبوينا وتوقيرًا لهما خصوصًا عند حلول هذه المناسبات حينما يتواصلون، أو في غيرها خاصة إذا ما حدث شيء ما كالمرض أو الوفاة، فعندما توفي الوالد وردت إلى هذا الرقم اتصالات دولية عديدة، هذا غير الاتصالات المحلية.
وشاء الله أن يترحل أبي عن الحياة قبل دخول الهاتف الجوال إلى حياتنا، وهو الجهاز الصغير الذي قضى بدخوله إلى عالم الناس على الهواتف الثابتة، ومنها الرقم الحبيب (1446)؛ إذ انتهى وزال من زمن بعيد. ومن الشواهد على ذلك ما أخبرني به صديق حبيب أن أطفاله إذا دخلوا إلى بيت جدهم -والد صاحبي-، يتعجبون من الهاتف الثابت، ويقلبونه من كل جهة مستغربين منه؛ لأنهم لا يرونه في دارهم، ولا يستعملونه في حياتهم، وهكذا هي الدنيا، فكم من شائع غدا مهجورًا، وكم من مهجور تقاطر إليه الناس بعد حين.
ألا إني حين أقف على أطلال هذا الرقم الجميلة ذكرياته في أذهاننا، الحبيبة خاناته عندنا، لا أقف مستجلبًا للأحزان، أو مستدرًا للمدامع، وإنما هي ذكرى عبرت فاهتبلتها عسى أن تستنزل صادق الدعوات لوالدي، أو تستوجب الابتهال من الأتقياء لأطراف الحكاية بالرحمة والغفران وعلو المنازل، ولذريتهما وما تناسل منها بالحفظ والتوفيق والسداد، ولبلادنا وأمتنا بالعزة والمجد والرفعة، ولأموات المسلمين كافة، ولمن يقرأ ويتفاعل بالعفو ودخول الجنة، ولا بأس أن أردد مع الشاعر، ويردد معي كل ذي فقد وموجدة، قوله الشجي البليغ:
أفَلَت شموس أحبتي وترحَّلوا
واستوحشتْ دارٌ تئن ومنزلُ!
كانوا هنا بين العيون ورمشِها
حَلُّوا ومن بعد الـمُقام تحوّلوا!
هذي الحياةُ وإن تطاول عمرها
وكذا الزمان توقُّفٌ وترجُّلُ
ودوام أحوال الزمان خديعةٌ
والمرء يرغب في السرور ويأملُ
لكنه وهمٌ كبيرٌ ضائعٌ
والهمُّ يفتك بالقلوب ويقتلُ
والمرءُ يطمع في الحياة لعله
يحيى سعيداً في الحياة ويرفُلُ
يسعى حثيثاً علَّه يجد الهنا
وكأنه لشقائه يتعجَّلُ
عجباً لمن رام الحياة هنيئةً
كلَّفْت قلبك فوق ما يتحمَّلُ
لو دامت الأيامُ صفواً لامرئٍ
أو في السرور لما شكاها الأولُ
فالبدر ينقص إنْ رأيتَ تمامَه
والزرع من بعد اخضرارٍ يذبَلُ
وانظر إلى من جرّب الدنيا وقد
سئم الحياةَ فإذْ به يتململُ
فانهض وحثَّ السير في طلب العلا
واحذر إذا جاء العذول يخذِّلُ
واعلم بأنَّ العمرَ حُلْمٌ زائرٌ
والمرءُ يجمع في الحياة ويرحلُ
والموتُ بين الناس أعظمُ واعظٍ
أين الذي يزنُ الأمورَ ويعقلُ
فالْـحَقْ بركب الصالحين ولا تكن
بنجاةِ نفسك قدْ تضن وتبخلُ
والعمرُ ماضٍ فاغتنم أيامَه
واللهُ يقضي ما يشاءُ ويفعلُ
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الأحد غرة شهر الله المحرم عام 1446
السابع من الشهر السابع عام 2024م
5 Comments
الكاتب الفاضل والاديب ، لقد أمتعت قراءك بهذه المقالة التي تدخل البهجة في نفوس متابعيك كما عودتنا دوما ، بحلول السنة الهجرية الجديدة جعلها سنة خير وبركة وسلام وامان ورخاء على بلد الحرمين ، وعلى كل البلدان الإسلامية ، رحم الله والديك وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة ، والله ياحسرة على ايام التلفون الاسود كان له مركزه ، وقيمته في البيوت ، لقد أسعدتني قصيدتك المختارة في نهاية المقال ، وما حوته ،
تحدثت ووصفت بخواطرك مع أبيك يرحمه الله *** مباديء وقيم وسلوك *** كانت في عصر جميل *** وأناس أجمل وأوفى *** لما في صدورهم من مباديء وقيم وسلوك تختزنها تلك الصدور *** لخير دنياهم وآخرتهم *** مع الإنبهار بتطورات ألأمور ألحياتية والأخذ بإيجابياتها المفيدة لضرورياتها *** رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته
رحمهم الله، وشكرا لكم أخي علي.
انفعالات الذكريات الحبيسة في جدران القلب ترفرف
بأجنحة الحنين نحو مشاهد مختزنة تهفو لها الروح وتخفق بشدة كلما عبرتنا، تحيطنا اذرعة الطفولة وتتفجر عند تذكرنا لموقف، هذه الإشارة لحكاية الرقم التي ذكرتها بمقالتك البديعة تتشابه مع حكايات كثيرة مرت وعصفت بنا، الأشد وفاء هو من يحتفظ بها في قلبه، ليكتبها ويدونها حتى لا تتفلت منه الذكريات، كنت اقرأ هذه المقالة بينما أنا في في منزلٍ قديم حوّله صاحبه لمقهى لشرب الشاي، دون المساس بأي من ذكرياته القديمة ولاحتى رفوفه ولا هاتفه، بل ترك كل شيء كما تركاه والديه، وكنت اسأل نفسي كيف استطاع أن يُشرك الآخرين بذكريات تكاد تشبهنا كلنا إلا أنها تخصه وحده، الا أني حين تجولت في المنزل عرفت أنه يريد أن تشيع نبض الحياة بين جدرانه، إنه لا يريد أن يهجر المنزل، او أن تموت الاشياء دون زمنٍ يحيي ذكراهم!؟يريد أن يحظى الجميع بدفء الذاكرة والماضي اللذيذ..
تماما كما تفعل أنت في مقالاتك التي تخص تلك المواقف والذكريات، إنك كاتبنا تبعث فيها الحياة والحب والشروق من جديد حين تكتب عنها، وتبعث رسالة البر والاحسان حين تستذكر ما يخص والديك غفر الله لهما واسكنهما فسيح جناته.. لدي الكثير من المشاعر القليل من الكلمات.. الصمت يدوي في القلب وتعلو ابتسامة وتنهيدة.. شكرا لهذه المعزوفة الأثرية رغم حزنها..
تعليق سريع عن “قوله: مدحه! وعلمت أن هذا النطق هو الأقرب لسليقة العرب، ” بعد قراءة المعلومة تنبهت أنها لا تزال تستخدم لدينا بذات النطق☺️
رائع