عبدالرحمن بن معمر: كلمة لن ترحل!
غادر دنيانا أمس الأديب ورئيس التحرير الأستاذ عبدالرحمن بن فيصل بن معمر (1358-1445=1939-2024م)، بعد حياة أدبية ومجتمعية وثقافية حافلة، صيّرت اسمه حاضرًا وإن غاب شخصه، وحولت مجلسه إلى مزار للمحبين، والأوفياء، والراغبين في النهل من معارفه في التاريخ والأدب، وسماع آرائه في الحياة والمجتمع والشؤون العامة. وقد أجمع الكافة على حلاوة حديثه، وطلاوة منطقه، ولطفه البالع، ورفقه في التعليم والتوجيه، فهنيئًا لمن نال بحسن خلقه بيتًا في أعلى الجنة، وهو بيت تكفل به الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
يأرز الأديب الراحل إلى أسرة عريقة في مجتمعنا وتاريخنا، ولها ارتباط وثيق بالأسرة الملكية وغيرها من الأسر العريقة، وإن المحتد الطيب لمؤثر عظيم على الإنسان، وكم فيه من حفظ وحماية ومنع للمرء من التهوك فيما لا يحسن من أبناء الأسر النبيلة، وهذا أمر ملاحظ في كثير من الشخصيات منذ القدم، وفي حضارات متنوعة، وأذكر تمثيلًا لهذا الملمح أني قرأت في سيرة ملكة راحلة تقول لبناتها وحفيداتها: هذا الفعل أو ذلكم اللباس لا يلائم الأميرات وبنات الملوك.
وقد ولد ابن “سدوس” وعاش أول عمره في الطائف التي كانت تحت إمارة أحد أقاربه، وتسكنها الحكومة في شهور الصيف، ويفد إليها سروات الناس لأجل الحج والعمرة، أو المصيف، أو لقاء رجالات الدولة، وربما أن هذه النشأة أصبحت هي المؤثر الثاني على شيخنا الراحل؛ إذ ارتبط بعدد كبير من أدباء الحجاز الكبار، وبعدد من أدباء العربية عن طريق أولئك الأدباء، حتى غدا المعمر واحدًا من الكتّاب والأدباء، ومشاركًا فاعلًا في الإثراء الثقافي، ونفت عنه سنوات الطائف أيّ طائفية أو ضيق أفق، والحمدلله أن الطائفية في أصلها معدومة في أكثر واقعنا المحلي الظاهر، والله يزيدها عدمية.
كما أن كثرة رؤية الحكومة ورموزها ووفودها في الطائف قادته ليصبح من موظفي ديوان رئاسة مجلس الوزراء في مستهل حياته الوظيفية إبان عهد الملكين سعود وفيصل، وأحد المسؤولين عن صياغة الأخبار، إلى أن صار رئيسًا لتحرير صحيفة الجزيرة، فاستوثقت علاقاته بكتّاب المملكة وأدبائها، ورواد الصحافة فيها، وأضحى خبيرًا بهم يعرف صاحب المبدأ، والثابت على ما يعتقد، وأثمرت هذه المعرفة عن تأسيسه مع المثقف الكبير الراحل الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي مجلة عالم الكتاب، وهي مجلة ربع سنوية، وتكاد أن تنافس بعض أعدادها أجود الكتب والدوريات المحكمة، وكم فيها من علم وغيرة وحمية، والله يعم برحمته ومغفرته أولئك الراحلين من السابقين.
ويضاف لخصائصه الرفيعة تلك الروح المرحة التي يتسم بها الشيخ المعمر، ولذا كان مجلسه لا يمل، والجلوس إليه مغنم روحي وفكري. وبحكم عيشه مع الكتاب وتجاربه مع السفر اقتنص الفرص لتأليف عدة كتب أدبية وشعرية لطيفة، فيها الأدب مع التاريخ، والإمتاع مع المؤانسة. وكان صاحب تفاعل في المنتديات الثقافية إن زائرًا مشاركًا، أو ضيفًا متحدثًا ومحتفى به، أو مضيفًا كريمًا يسعد المثقفون بالالتفاف حوله، ويبتهج حين يحفهم بعنايته قدر المستطاع، وكم سمعت منهم الانبهار بذاكرته، وسردياته المؤدبة، وبصره بالتاريخ الثقافي وغيره، وهذه منقبة للمثقف والمسؤول حين يبتعد عن الأضواء، بيد أنه لا ينزوي -باكتئاب- في الظلّ؛ فكم في الأفق الرحب من شموس وأقمار، وأرض الله واسعة للفتى.
كذلك يُعدُّ أبو بندر واحدًا من أدباء البلاد الذين زادوا من الرباط الثقافي والأدبي بين غرب بلادنا الأقدس، وشرق ديارنا الأنفس، مع وسطها الشامخ، دون إهمال لباقي الجهات بما فيها من شمم وأنس وجمال. ومما يثنى به عليه ضمن جملة من كريم الخصال أنه وفي لصحبه الأوائل، حفي بمحبيه الأواخر، دائم الترحاب بتواصلهم ووصلهم، حسن المعرفة بالرجال والأوضاع، ولا يقول عن أحد من الراحلين إلّا الخير والمحاسن، وتلك مناقب مثلها من مثله لا يستغرب؛ ولأجلها بادرت وزارات ووزراء وكتّاب ومثقفون لنعيه، والإشادة بمحاسنه ما إن شاع نبأ وفاته.
رحم الله راحلنا الذي سيصلى عليه عصر اليوم الأحد في جامع الملك خالد بالرياض، ثمّ يدفن في مقبرة سدوس موئل أسرته منذ القدم، والله يثبته بالقول الثابت، ويؤنسه في برزخه، ويؤمنه عند مبعثه. والعزاء كله لزوجه وأنجاله وكريماته، الذين من المؤكد -عندي- أنه أحسن لهم التربية والتعليم والتهذيب، أقول ذلك لا عن مساس من قرب، ولا عن حسن ظن فقط -وهو وهم له أهل- وإنما من ملاحظة الفوائد الكثيرة، والأدب الرفيع الجم، الذي يوجد في حساب نجله الكبير “د.بندر” على منصة إكس، وهو نموذج معبّر وذو دلالة، فاللهم تقبل عبدك، وثبته، وأكرم وفادته، وأحسن العزاء لمن غلبته عينه حينما دهمه الخبر الفاجع، فلم يحل بينها وبين البكاء!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 19 من شهرِ شوال عام 1445
28 من شهر إبريل عام 2024م
2 Comments
رحم الله ابو بندر وأسكنه فسيح جناته، وجزاك الله خير يا شيخ أحمد على هذا التأبين العطر .
عزائي لأبنائه وذويه و لكل اسرة آل معمر الكريمة.
شكرا لكم يا أبو جابر.