سير وأعلام

عبدالعزيز آل الشيخ: الوزير وخطيب المنبرين!

عبدالعزيز آل الشيخ: الوزير وخطيب المنبرين!

حتى لو كانت المعلومات المتوافرة لدي عن صاحب الفضائل والمعالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ (1336-1410= 1917-1990م) أقل مما أتمنى، إلّا أنها تعطي صورة واضحة عن رجل شارك مبكرًا في عدة ميادين مهمة من الشؤون العامة في المملكة العربية السعودية، وهي: التعليم، والقضاء، والخطابة، والحسبة، والتأليف، ومن أجلّها تخريج أنجال خدموا البلاد في مجالات عديدة؛ إذ لم تصرفه جلائل المهام عن المهمة الأجل نحو البيت والأهل والولد، والتوازن عزيز، والتوفيق من الله.

حصل الشيخ على تكوين علمي ومنهجي حسب الطريقة السعودية والنجدية على وجه الخصوص بين يدي والده العالم الكبير الشيخ عبدالله بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1287-1378)، وعلى غيره من علماء المملكة، ثمّ مزج هذا التكوين مزجًا أوليًا في المعهد العلمي السعودي بمكة، وأتم عملية الامتزاج بإتمام الدراسة الجامعية في الأزهر، حتى غدا أول فرد من أسرته العلمية العريقة يتخرج في الأزهر بعد دراسة نظامية، واكتملت لديه بذلك منظومة من التمازج دون ذوبان تغيب فيه الملامح والأطر والمكونات الأساسية، فكان نموذجه وسطًا فلا النتيجة النهائية صخرية صلبة لا تقبل أي شيء، ولا ذات ميوعة وسيولة تتشكل في أيّ وعاء أيًا كان.

وخلال دراسة الشيخ في الأزهر، حضر الاستقبال المهيب للملك المؤسس عبدالعزيز حينما زار مصر عام (1365= 1946م) واستضافه ملكها فاروق وشعبها باحتفاء بالغ يليق بزعيم جزيرة العرب، ولا يستغرب من مصر وأهلها، كما ذهب الشاب للسلام على مليكه في القصر الذي يقيم فيه، ووجد من الملك كل تشجيع ومحبة ومؤازرة بمجرد دخوله من بوابة المجلس، وهذا الترحيب الملكي ينبع من علاقة متينة استمرت بين الشيخ وأسرته مع أعمدة البيت الملكي العريق من الملوك والأمراء، رحم الله الراحلين، وحفظ الباقين، وهي علائق امتازت بها سلالة الحكم مع كثير من الأسر والقبائل.

ثمّ حين قفل أبو عبدالرحمن لبلاده من مصر، عمل مع والده المسؤول عن القضاء في الحجاز، وأصبح خطيبًا للمسجد الحرام، وبعد رحيل والده الشيخ عن الحياة، خلفه في الخطابة فوق منبر جامع نمرة في يوم عرفة، وظلّ خطيبًا للمنبر الشريف بين عامي (1378-1401) ولم يتخلّف عن الخطابة الموسمية المشهودة إلّا مرة واحدة عام (1399) بسبب سفره للعلاج وحضور حفل تخرج نجله د.عمر في النمسا، وبعدها رجع الشيخ للخطابة عامين متتاليين.

لكنه آثر لأسباب صحية ترك الخطابة، وأقترح على صديقه الأثير الملك فهد، أن يصبح الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ -سماحة المفتي الحالي- خطيبًا للموسم الميمون، وهو ما تم بالفعل، وبقي سماحة الشيخ المفتي خطيبًا لعرفة بين عامي (1402-1436)، وربما أن مدة خطابته هي الأطول تاريخيًا. ومن اللطيف الإشارة إلى أني دخلت إلى تأريخ خطباء جامع نمرة في العهد السعودي، وكتبت فيه ما غدا بفضل من الله مرجعًا يُستقى منه، من بوابة التعرف على الدكتور عمر نجل الشيخ عبدالعزيز، ومع ذلك فحتى الآن ليس لدي خبر جازم عمّن تولى الخطابة في الحجيج بين عامي (1371-1377).

ومع تكوين أول مجلس وزراء فاعل عام (1373=1954م)، وإسناد وزارة المعارف لوزيرها الأول الأمير فهد، بادر الأمير البصير إلى اصطفاء الشيخ عبدالعزيز ليصبح ضمن طاقمه الإداري وكيلًا للوزارة، فكان مع الأمير الوزير في سنوات التأسيس والتوسع في نشر التعليم، وشارك مشاركة لافتة في حمل أعباء الوزارة، ومنحت له من الصلاحيات ما تماثل صلاحيات الوزير ثقة به وبأهليته، ولذلك فإن اسم الشيخ يتردد كثيرًا في افتتاح المدارس، ومديريات التعليم، وأخبار التعاقد والبعثات والمبتعثين، وزيارات المسؤولين السعوديين للخارج وللطلبة المبتعثين، وفي إنشاء جامعة الملك سعود ومساندتها.

ثمّ أصبح الشيخ عبدالعزيز وزيرًا للمعارف مدة قصيرة في عهد الملك سعود بين عامي (1380-1381)، لكنه خلال هذه المدة جمع بين الوزارة والخطابة على المنبرين الشريفين في حرم مكة، وجامع نمرة، وهو ما تفرد به دون غيره حسب علمي. وبعد تركه الوزارة خلفه أخوه الشيخ حسن على وزارة المعارف، وهي ثاني حالة تعاقب بين أخوين على عضوية المجلس وعلى الوزارة نفسها من غير الأمراء، وبعد سنوات أصبح نجلاه د.عبدالرحمن وزيرًا للزراعة والمياه بين عامي (1395-1415=1975-1994م)، ود.محمد وزيرًا للشؤون البلدية والقروية ثم وزير دولة بين عامي (1412-1424=1991-2003م)، وهذه الصورة لم تتكرر مع أي وزير آخر باستثناء أبناء بيت الحكم، ومن الموافقات أني كتبت في موقعي عن الأخوين، وعن الأب وثلاثة من أبنائه، وهي صورة كتابية نادرة لدي.

وفيما يذكر عن الشيخ عبدالعزيز أنه كان حفيًا بجامعة الملك سعود، معينًا لمديرها الثاني الشيخ ناصر المنقور، وكانا زميلين أيام البعثة بمصر وإن لم يسكن آل الشيخ مع الطلبة إلّا أنه يزورهم دائمًا، وبعد أن أصبح المنقور وزيرًا رشح الشيخ د.الخويطر لتولي أعلى منصب إداري في الجامعة، وواصل مؤازرته له ولكل ما يرتبط بالجامعة، وكان يفتح بابه لاستقبال الأساتذة، ويوافق على دراسة الطالبات المنتسبات مع تهيئة البيئة الملائمة لهن، ولم يعترض على نقل د.حسين الجزائري من الوزارة إلى الجامعة بل كان دافعًا له، تمهيدًا لابتعاثه من أجل افتتاح أول كلية طب بالجامعة والمملكة والجزيرة العربية.

ومع أن الشيخ ترك المناصب الرسمية إلّا أنه لم يهجر المجال العام؛ فمجلسه المنزلي مفتوح، ومن رواده الدائمين عمه الشيخ عمر بن حسن بحديثه الماتع وولعه بالتاريخ خاصة حروب اليمامة. وبقيت صلاته بالملوك والأمراء وثيقة جدًا، حتى أستعين به عام (1396=1976م) لرئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيد أنه لم يستمر فيها حينما شعر بمحاولات تدخل من مسؤولين آخرين دون مستند من ولاية شرعية أو نظام معتمد. ومن عناية الشيخ بشؤون الوزارة التي قضى فيها جلّ سنوات عمله الإداري، تواصله الدائم مع د.عبدالعزيز الخويطر، ومتابعة شؤون المناهج، وتطوير التعليم، نصحًا منه للبلاد وحكامها وأهلها.

وقد وقعت على مجموعة من الأخبار والصور، تدل بمجموعها على أن الرجل مع صرامته الإدارية إلّا أنه كان مرنًا ومتعاونًا، ولذلك سعى لتقديم أيّ خدمة ممكنة تطلبها جامعة الملك سعود الناشئة من وزارة المعارف ومدارسها. وحاول تقديم الحلول الإدارية والمالية لعمل اللجان والتعاقد وحل المعضلات الناجمة عن خلافات سياسية بين البلدان وغير ذلك. ورعى عددًا من الاحتفالات الثقافية والرياضية والعلمية آنذاك.

كما كان شفيقًا بالطلبة حريصًا على تحفيزهم، ومن ذلك ماذكره الوزير د.محمد الملحم في سيرته الذاتية حديثة الصدور أنه أعفي من الرسوم الدراسية لتفوقه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، فأعاد المكافأة للملحق الشيخ أحمد المانع، بيد أن الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أمر حين علم بصرف المبلغ للطالب الملحم تقديرًا لتفوقه واجتهاده، تحفيزًا له ولغيره. ومن أخبار الشيخ بغضه الشديد للربا، والاحتساب عليه ما وسعه الجهد.

كما حرص الشيخ على توثيق تجربته في القضاء والتعليم والمنبر، واصدر ثلاثة كتب عن كل حقل فيها ما يفيد الباحث والدارس. أما تجربته التربوية والمنزلية فظاهرة في تميز ذريته وما أنجزوه من أعمال استبان بعضها في سيرهم الذاتية المنشورة. ولأني على صلة متفاوتة بأربعة من أنجال الشيخ، أجزم أنهم ورثوا من والدهم محبة البلاد وأهلها، والطاعة بالمعروف لولاة أمرها، وفصاحة اللسان مع طهارة الألفاظ، والجدية في العمل مع الصرامة الإدارية، وهي الصرامة التي لا يطيقها بعض الناس؛ فربما وصموها بغير اسمها، وعادة البشر تكييف مالا يوافق أمزجتهم بما ينفّر منه، ولو عرضت الصورة الحقيقية كما هي لكانت عين الحق المراد والمبتغى.

غفر الله للشيخ ورحمه، فقد كان في بيته مربيًا ومعلمًا لأولاده وهم ستة أبناء وبنتان، وأصبح فوق المنبر الشريف واعظًا ومعلمًا للمصلين والمجاورين والحجاج، وصار في ميدان القضاء معينًا لوالده على ثقل المهمة التي لا مناص منها في أيّ مجتمع حيوي. وعندما تسنّم المنصب الرفيع في وزارة المعارف ساعد الوزير الأول الملك فهد في تأدية إحدى أنبل وأرفع رسائل البشر في التعليم والتربية والتوجيه، وتولى هذه المهمة السامية مستقلًا بها فيما بعد، فسار بها سيرة رجل دولة ينظر للمصالح العامة والعليا. وحينما تفرغ من المناصب والوظائف صيّر مجلسه المنزلي أشبه بالمنتدى المفتوح، وأفرغ خبرته وشهادته على التعليم والقضاء والخطابة في ثلاثة كتب، واشتهر إبان حياته الشخصية والعملية بالتوازن والهدوء والتثبت، مع الحزم والثبات المبدأي، والله يجعله رضيًا في برزخه، آمنًا في مبعثه، آخذًا كتابه باليمين، ومن يقرأ ويقول آمين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 23  من شهرِ رمضان عام 1445

02 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

One Comment

  1. لم أدرك مدة رئاسته للهيئة ، ومدته كذلك لم تطل فقد نافت على السنة وأيام ، ولكن كان رحمه الله من الرجال المشهود له بالقوة والحزم وعلو الهمة وحسن الإدارة ، فقد عمل على وضع نظام للهيئة وأكمل في عهد معالي الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مع لائحته التنفيذية وهو كذلك لايقل عنه قوة وحزما … ، كما أنه طالب بتوجيه خريجي الكليات الشرعية للعمل في الهيئة ، فكان ذلك تجديدا للكوادر العاملة في الهيئة من ذوي المؤهلات الشرعية ، كما طالب بإيجاد مباني للرئاسة وفروعها ، وتخصيص شرط وقضاة للنظر في قضايا الهيئة تحت إدارته ، وقد وافقت الحكومة له على الأول والثاني وعلى الثالث فيما يخص الشرط واعتذر عن القضاة .
    زرته رحمه الله مع أحد المشايخ في منزله الكائن في حي المربع للحديث معه في أمور تخص الهيئة، وكان ذلك قبل وفاته بأشهر فوجدته على ما حدثت عنه من القوة والحزم وعلو الهمة ينطلق في حديثه من مسؤولية العالم المصلح تجاه دينه وأمته ، وكان رحمه الله مع ذلك خطيبا مفوها غيورا على الإسلام وأهله يحترق أساً وحزناً على ما أصاب الدين من وهن وضعف وما أصاب المسلمين من انحراف عن التوحيد والسنة وكيف تسللت لهم البدع والشركيات التي فشت في أوساطهم ، ويلقي باللائمة على العلماء والقادة وكيف يكون ذلك على مرأى ومسمع منهم ، وقد كنت أتابع خطبه التي يلقيها في صعيد عرفة وهي تبث روح الحماس والغيرة على الدين فكان رحمه الله مثالا للعالم المتبصر والمتحسر على الإسلام وأهله وما آلت إليه البلاد الاسلامية من التردي والإنحراف العقدي والانحلال الخلقي . فرحمه الله غفر له وأنزله منازل الأبرار .
    فات علي أن أذكر أنه ولي الهيئة بعد وفاة عمه الشيخ العلامة عمر بن حسن زمن الملك خالد وقد ضمت له رئاسة نجد وخط التابلين والمنطقة الشرقية مع رئاسة المنطقة الغربية تحت مسمى ( الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)