لغة وأدب

المعاجمُ الباكية

المعاجمُ الباكية

تمتازُ اللغةُ العربيةُ بالمعاجمِ التي لم تسبقْ إليها أمة؛ فمِنْ معجمِ “العين” للخليلِ بنِ أحمد، الذي بدأَ بالحروفِ حسبَ مخارجِها، إلى معجمِ “المقاييس” لأحمدَ بنِ فارس، الذي ردَّ الكلماتِ إلى أصولِ معانيها؛ وبينهما وبعدهما بذلَ أئمةُ الإسلامِ جهوداً علميةً مضنيةً؛ حتى جمعَ ابنُ منظورٍ “اللسان”، وأتمَّ الزبيديُ “تاج العروس”، وهو أغزرُ المعاجمِ مادةً وأكثرُها جذوراً. ولمْ تتوقفْ حركةُ التأليفِ عندَ معاجمِ اللغةِ؛ بلْ شملتْ معاجمَ فقهيةٍ، وأصوليةٍ، وحديثيةٍ، وبُلدانيةٍ، ونحويةٍ، وأدبيةٍ، ومعاجمَ كشَّافِ العلومِ ومفاتيحها، إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يخفى على مَنْ لديه بعضُ إطلاعٍ وثقافة.

ويُعدُّ التأليفُ من الأنشطةِ الدَّالةِ على ازدهارِ العلومِ ورواجِ الثقافةِ، ومِنْ أعلى صنوفِ التأليفِ ما كان معجمياً يحتاجُ إلى جلدٍ وعناءٍ وصبرٍ وطولِ دُرْبَة؛ ولا تزالُ الجهودُ تُبذلُ مِنْ العلماءِ والمحققين، بيدَ أنَّها ليستْ كجهودِ السابقينَ مع سهولةِ الوصولِ للمادةِ العلميةِ عبرَ المنافذِ التقنيةِ والحاسوبيةِ، ومع وجودِ المجامعِ الفقهيةِ، والعلميةِ، واللغويةِ، ووزاراتِ الثقافةِ، والأنديةِ الأدبية.

وقدْ تعرَّضتْ المعاجمُ اللغويةُ بالذاتِ لعدَّةِ محنٍ بأيدي بنيها؛ بسببِ تأثيرِ الاستشراقِ، أوْ ضعفِ مناهجِ التعليمِ، أوْ فسادِ الذوقِ الأدبي، وانصرافِ النَّاشئةِ والشبابِ عن القراءةِ والإطلاع؛ ومِنْ هذه المحنِ الهجومُ عليها، ووصمُها بالتعقيدِ والصعوبةِ. وأكثرُ مَنْ يحملُ كِبْرَ هذا الاتِّهامِ بعضُ الأساتذةِ، الذين يقيسونَ معاجمنا العربيةِ إلى المعاجمِ الأجنبيةِ، ويقارنون بينهما؛ أوْ الذينَ يبحثونَ في المعاجمِ المرجعيةِ دونَ الرجوعِ للمختصراتِ التي يسهلُ البحثُ فيها، وقدْ أفاضَ في الرَّدِ على هذه المآخذِ والشُبَهِ المحققُ الطناحي في مقالاته المنشورة[1].

ومن المحزنِ، هجرانُ هذه المعاجمِ في مناهجِ الدراسةِ، وموادِ البحثِ والمطالعةِ، حتى ينشأَ الطلابُ على جفوةِ المعاجمِ وتهيبِّها؛ زيادةً على جفوةِ الكتابِ وتهيبِّ القراءةِ، مما أعانَ أصحابَ الأهواءِ على التلبيسِ واستخدامِ بعضِ الكلماتِ والمصطلحاتِ محرَّفةً عن مدلولاتها، اتكاءً على هذه القطيعةِ، وعلى استغلاقِ المعاجمِ عندَ عامةِ النَّاسِ، ممَّا حرمهم من اقتنائِها، والاستمتاعِ بالنَّظرِ فيها.

وما تسميةُ الاحتلالِ استعماراً وحرية؛ ووصفُ الانحلالِ بالتمدُّنِ والحضارة؛ ونبزُ الصالحينَ بالرجعيةِ والظلامية؛ ووصفُ الإفسادِ بالإصلاح؛ وقصرُ الفسادِ على الجوانبِ الماليةِ والإداريةِ؛ وإطلاقُ “الشرعية” على نظامِ الأممِ المتحدةِ، إلاَّ ضربٌ واضحٌ مِنْ هذا الإفكِ الذي قامَ بهِ المحتلُ الكافرُ، وتبعَه أذنابُه من المنافقين والمتطفلين على موائدِ المستشرقين السامَّةِ، وانساقَ خلفَهم ببغاواتٌ بشريةٌ، يهرفون بما لا يعرفون، ويخوضون فيما لا يحسنون.

ومِنْ أواخرِ هذه المصطلحاتِ المجلجَلِ بها “الإرهاب”، الذي تُسَوِقُه أمريكا وتنشرُه بكلَّ وسيلةٍ؛ معْ أنَّ المتدَّبِرَ لا يمكنُ أنْ يخرجَ أمريكا وإسرائيلَ مِنْ قائمةِ الدولِ الإرهابيةِ والدَّمويةِ، غيرَ أنَّهم قومٌ صنعوا المصطلحَ، وألبسوه غيرهم؛ ليتلقفَه العالمُ الخائفُ أوْ الخانعُ، دونَ تفكيرٍ أوْ ممانعة.

إنَّ نشرَ المصطلحاتِ الشرعيةِ، واجبٌ ديني يدخلُ ضمنَ نشرِ العلومِ الشرعيةِ، والدفاعِ عنْ الهويةِ الإسلامية؛ فالغلو كلمةٌ قرآنيةٌ، ووردتْ في الحديثُ النبوي الشريفُ، وهيَ معبِّرةٌ بما يُغني عنْ كلمةِ “التطرف”، والكافرُ وصفٌ شرعي تترتبُ عليه أحكامٌ دنيويةٌ وأُخرويةٌ، تضيعُ معالمُها مع “الآخر”؛ والذكرُ والأنثى هما مكونا النسلِ البشري والسلالةِ الآدميةِ، ولهما صفاتهما المشتركةِ، وخصائصهما المتغايرةِ، التي تؤكدُ أنَّ الذكرَ ليسَ كالأنثى؛ خلافاً لما يريده سدَنةُ “الجندر”؛ والشهيدُ شرفٌ مُقيدٌ بحالاتٍ منصوصٍ عليها، وقدْ أطلقَ القومُ عنانَه؛ حتى سمعنا بشهيدِ الحبِ والفن.

كما أنَّ بعضَ التعابيرِ التي تسلَّلَتْ إلى ثقافتنا خلسةً جديرةٌ بالتمحيصِ والتعديل؛ فالشرقُ الأوسطُ، لا يختلفُ عنْ الشرقِ الأقصى، وليسَ لهما إلاَّ المعاني البُلدانية، خلافاً لقولنا “الشرق الإسلامي”؛ الذي يُحيي في النفوسِ معانيَ الحميةِ والنصرة، والدولةُ التركيةُ غيرُ “الخلافة العثمانية”، فالأولى كأيِّ دولةٍ عرقيةٍ؛ بينما للثانيةِ وَقْعٌ يُعيدُ للأمةِ المحمديةِ آمالهَا؛ وقلْ-غيرَ مأمور- مثلَ ذلك في الديمقراطيةِ التي تنسفُ كلَّ شيءٍ، مقابلَ “الشورى” التي تنضوي تحتَ جناحِ الشريعةِ الغراء. وليسَ ببعيدٍ عنْ ذلكَ، بعضُ الأوصافِ الفكريةِ مثل “العلمانية”، و”الليبرالية”، وهيَ كلماتٌ رنَّانةٌ تقبحُ مع تنزيلِ الوصفِ الحقيقي عليها؛ كالنفاقِ والمنافقين.

وأذكرُ كلمةً جميلةً للمجاهدِ الشيخِ البشير الإبراهيمي إذ يقول: “إنَّ ظلمَ الكلماتِ بتغييرِ دلالتها كظلمِ الأحياءِ بتشويه خلقتهم؛ كلاهما منكرٌ وكلاهما قبيح، وإنَّ هذا النوعَ مِنْ الظلمِ يزيدُ على القبحِ بأنَّه تزويرٌ على الحقيقةِ وتغليطٌ للتاريخِ وتضليلٌ للسامعين”[2] ولذا فمنْ العلمِ والثقافةِ، والأدبِ والإصلاحِ، أنْ نُشيعَ المصطلحاتِ الشرعيةِ، ونُصححَ التعابيرَ الخاطئةَ، التي تنتشرُ بينَ المسلمين بلسانِ أوْ قلمِ غافلٍ، أوْ منهزمٍ، أوْ تابعٍ، أوْ عدوٍّ بيِّنِ العداوةِ؛ حتى تستعيدَ الكلماتُ معانيها، ويرجعَ الحقُّ لأهلهِ؛ فهمْ بهِ أولى.

وإذا كانَ المحدِّثُ الأديبُ أحمد شاكر يقول: “إنَّ الأعلامَ الأجنبيةَ تُنقلُ إلى العربيةِ مغيرةً في الحروفِ والأوزانِ إلى حروفِ العربِ وحدِها وإلى أوزانِ كلِمهم أوْ ما يُقاربها، وأنَّها لا تنقلُ أبداً كما ينطقُها أهلُها إلاَّ أنْ توافقَ حروفُها وصيغُها حروفَ العربِ وأوزانِها “[3]، يقولُ ذلكَ وهي مجرَّدُ أسماءِ أعلامٍ خاليةٍ من التأثيرِ؛ فكيفَ بالمعاني والمصطلحاتِ، التي تؤثرُ على الفهمِ، وتُرسخُ الأفكارَ والرؤى، أوْ تُناقضُ الأحكامَ الشرعية؟

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض

الأربعاء 23 من شهر  شعبان عام 1428

 

[1] – مقالات العلامة الطناحي ج1 ص 177، ج1 ص 365، ج2 ص 537

[2] – آثار الإمام الإبراهيمي ج3 ص 506

[3] – جمهرة مقالات العلامة أحمد شاكر ج 2 ص 541

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)