أبناءُ الأكابرِ والمسؤولية
كنتُ أتصفحُ قبلَ شهرٍ تقريباً، الطَّبعةَ الشَّرعيةَ الجديدة من شرحِ رياضِ الصَّالحين، للعلاّمةِ الشَّيخ محمَّدِ ابن عثيمين-برَّد الله مَضْجِعَه-، الصَّادرةَ تحت إشرافِ مؤسسةِ ابن عثيمين الخيرية؛ التي يديرها أبناءُ الشَّيخ وإخوانُه وطلابُه. وقد تدَّفقت من ذاكرتي أسماءٌ كثيرة ممَنْ فقدهم العالَمُ الإسلامي خلال السَّنوات العشر الماضية؛ وكم تمنيتُ لو هيأ الله لكلِّ واحدٍ منهم وممَنْ قبلهم -رحمهم الله جميعاً-، مَنْ يقومُ بتراثهم وعلمهم، ويكملُ مسيرتهم الرَّاشدة؛ خشيةَ ضياعها، ووقوفاً دون تحريفها.
والأكابرُ المعنيون هنا هم العلماءُ، والدُّعاة، والأدباء، والمفكرون، والوجهاء، والأثرياء، الذين عاشوا حياتَهم في سبيل الله -نحسبهم والله حسبهم-؛ والأبناءُ غيرُ محصورين في الذُّرية، بل يشملون الطلابَ، والأصدقاء، والمقتدين، وكلَّ مَنْ تهفو نفسه لحفظ مجد رجالات الملة الإسلامية.
ويتأكد هذا الأمر مع ما يذكره لنا التاريخُ من حوادثَ مؤسفة، وما نسمعه في حاضرنا من أخبار؛ ففي ترجمة السِّلَفي أنَّ كتبه تعفن أكثرها بعد وفاته، حتى اضطروا لإخراجها بالفؤوس؛ وفي سيرة شرف الدين الأنصاري، أنَّه كان يضنُ بورقة من كتبه، فلما مات بيع الزنبيلُ منها بأثمانٍ زهيدة! وقد حدثني أحدُ الأصدقاء عن عالمٍ ماتَ فبنى أولاده جداراً مكان باب مكتبته، وبعد زمن-ولدواعي التحسين- هدموا الجدار فإذا الكتبُ قد تلفت؛ بسبب الرطوبة أو الأرضة؛ وأخبرتني زوجي عن قريبةٍ لها، أنَّ جارتهم أرسلت لها صناديقَ مليئةً بكتبِ “شيخهم” بعد موته؛ لأنَّ دارهم الفسيحة ضاقت بالكتب، وبنتُ الجيران مثقفةٌ تحب الكتب!
ولا يقفُ الأمرُ عند كتبٍ تتلف أو تُباع، بل يتعداه لعلم لا ينتشر، وخيرٍ يظل حبيساً، وأمنياتٍ للمورث لا تتحقق، ووصية لا تنفذ. ومن الأخطارِ ما فعله بعضُ “الكُتَّاب” بسيرة أحدِ جبال العلم؛ حين سرد مواقفه الجميلة، ووجهها وجهةً قبيحةً يأباها الشيخ لو كان حياً.
والواجب على الأبناء ومَنْ في حكمهم تجاه الكُبراء والفضلاء:
- نشرُ تراثهم من علمٍ وفضلٍ وأدبٍ وكلِّ خير ينفع الناسَ والبلاد؛ ولمثل هذه الطريقة يُعزى انتشارُ مذهبِ الإمام مالك، واندثار مذهب الإمام الليث بن سعد.
- توثيق سيرتهم العلمية ومواقفهم العملية؛ حتى لا يسطو عليها أحد السراقِ الذين لا يرعون للموتى حرمة.
- الدفاع عنهم ضد من لا يحلو له النقاش إلا مع الموتى؛ ومع الذين يتكئون على حكمة الإنجليز “الموتى لا يروون القصص”؛ فينسجون من خيالاتهم خبالاتٍ وأباطيل لا تصمد أمام يسير البحث.
- المحافظة على مكتباتهم بالاستفادة منها أو وقفها على العلم وطلابه، وآخر الدواء بيعها على من يُقدر نفاستها؛ وقد جاء في ترجمة الشيخ محمد أبو الفتح مفتي الإسكندرية، أنه كان مولعاً بجمع ونسخ نفائس الكتب، فلما مات باعها ولده بأبخسِ ثمنٍ، ولم يلتفت لمعارضة أمه وشقيقاته.
- العناية بما تركوه من دراساتٍ وأوراق ومشاريعَ؛ سواءً بإتمامها، أو تسليمها لرفقاء دربهم، فهم أقرب الناس لهم ولمقصودهم.
وعلى أهل الشأن الأكابر واجبٌ كذلك يتمثل بما يلي:
- الاجتهاد بتربيةِ الأبناء حتى يكونوا صلحاءَ عاملين؛ وينبغي ألا ينصرفَ الإنسانُ عن بنيه كُليةً حتى لو كان شغله بما ينفع.
- العناية بالطلاب والمستفيدين؛ وهكذا شأن أبي حنيفة مع طلابه؛ بينما بعض العلماء ليس له طلاب في درس خاص أو عام مع غزارة علمه.
- الوصية بكتبه ومؤلفاته حتى يستمر نفعها بعد مماته؛ ويتأكد هذا الأمر في حق مَنْ لا يرى في أهله أهلاً للانتفاع بمكتبته لا بقراءة ولا بيع؛ وقد أوصى أبو قِلابة بكتبه لأيوب السختياني، فحملت إليه بعد وفاته.
- “مأسسة” الأعمال؛ بمعنى بنائها على أساسٍ مؤسسي لا يتأثر بذهاب أحدٍ ولو كان الرأس.
- “مشرعة” الأعمال؛ بمعنى كتابتها على هيئة مشاريع؛ حتى يستطيع غيره إكمالها إن باغتته المنية دونها.
- الدعاء؛ وقد هيأ الله لمؤلفات العلامة محمد الخضر حسين– الذي مات بلا عقب- المحامي الأديب علي الرضا الحسيني فنشر جلها؛ ومثله فعلت لجنة المؤلفات التيمورية مع تراث المحقق أحمد تيمور باشا. وهذا واجب على وزارات الثقافة في البلدان الإسلامية، لو أنها كانت تقوم بواجبها.
وغنيٌ عن القول، إنه يجبُ على ورثةِ أكابر المبطلين رحمةَ مورثيهم من تتابع السئيات والحسرات؛ بمنع تسويق أي انتاج يخالف شرع رب العالمين مهما كانت المخالفة؛ كما أننا ننتظرُ من ورثة الأثرياء الذين ماتوا بلا وصيةٍ تنفعهم، ألا ينسوهم من أوقافٍ وحبوسٍ تدومُ فترفعُ اللأواء عن المسلمين، وتؤازرُ مشاريعَ الخير والدعوة والإصلاح، مع جريان أجرها.
وأختمُ بما قاله الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر -أبو فهر- في مقدمة كتاب “حياة الرافعي” لمحمد سعيد العريان، طبعة المكتبة التجارية بمصر عام 1375، في الصفحة الرابعة، من الطبعة الثالثة:
” وأنا –مما عرفت الرافعي رحمه الله ودنوت إليه ووصلت سبباً منه بأسباب مني- أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيراً إلى قليل مما عُرف عن غيره ممن فرط من شيوخنا وكتابنا وأدبائنا وشعرائنا؛ وتلك يدٌ لسعيد على الأدب العربي، وهي أخرى على التاريخ؛ ولو قد يسر الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقاً وفياً ينقله إلى الناس أحاديث وأخباراً وأعمالاً كما يسر الله للرافعي، لما أضلت العربية مجد أدبائها وعلمائها ،….. ” .
أحمد بن عبدالمحسن العساف – الرياض
الجمعة 07 من شهر الله المحرم 1428
6 Comments