عرض كتاب قراءة وكتابة

فصاحة الناطق الأخرس

فصاحة الناطق الأخرس

مهما بلغت علاقة المرء مع القراءة والكتب؛ فيبدو أنه لا مناص من معاودة النظر فيما يخصّ هذه النعمة الربانية والمنحة الدنيوية التي يتلهف القراء ضارعين لمولاهم أن تدخل معهم إلى الجنة، فاللهم اجعلنا من أهلها ومن أهلها! ولهذا تناولت من فوري كتابًا حديث الصدور عنوانه: الناطق الأخرس حديث القراءة والكتب، تأليف: فهد بن عسكر الباشا، صدرت طبعته الأولى عن آفاق المعرفة عام (1445=2023م)، ويبدو أنها نفدت من فورها في معرض الرياض، ولهذا كان حظ معرض الشارقة منه طبعة ثانية.

يقع الكتاب في (407) صفحات، وتبدأ الصفحات بإهداء الكتاب إهداء لافتًا إلى الأستاذ أحمد عطية معلم المؤلف عندما كان في الصف الرابع الابتدائي، الذي لما علم أن تلميذه لا يملك قلمًا، أوقفه بجانب السبورة أمام الطلاب، وقال له صارخًا: كيف تأتي إلى المدرسة من غير قلم؟ القلم سلاح! فتعلم الطفل ساعتها قيمة القلم وكره المدرسة! ويتكون هذا الكتاب اللذيذ من المقدمة وأربعة عشر عنوانًا ثم فهرس بالمصادر، وكل قسم يسبقه اقتباس يشير إلى لبابه.

حين قرأت مقدمة كتاب الأستاذ الباشا، وجدتها طعمة للغاية حتى وددت ألّا تنقضي، وثمينة حتى تساءلت كيف سيكون باقي الكتاب؟ علمًا أن هذا الكتاب كان فكرة شبه منسية أو مؤجلة حتى رافق المؤلف والده في المستشفى؛ فكانت الفرصة مواتية لبعثها من مرقدها، وعسى أن يكون الوالد الراحل -رحمه الله- شريكًا مع نجله في الأجر من أكثر من باب. وفي المقدمة الشهية يقول الكاتب فهد: إن كل قارئ هو فصل في حياة الكتاب، ولقد كان مؤلفنا فصلًا في حياة كثير من الكتب كما يكتشف بسهولة أي قارئ لكتابه الذي أفاد من ثلاثمئة كتاب وأزيد.

يبدأ الكتاب مع إكسير الخلود؛ إذ أن أعظم متعة في الحياة هي متعة القراءة كما جاء في تاريخ القراءة “لمانغويل”، وليس هناك أمتع من الخلوة بكتاب مثلما قرر الطنطاوي. والقارئ الحقيقي لا يبالي بالمكان والزمان عندما يكون بصحبة كتاب، ومن ذلك أنه إن لم يجد الزمن المناسب والمكان الملائم، قرأ في أي حال ولو كان محشورًا بين ركاب مختلفين، ومن عرف أثر الكتب في الإنقاذ من الهم ومن الجنون، وفي تقوية الصحة واسترجاع العافية، وشفاء الروح والتغلب على الآلام، لم يستغرب هذا القول، بل بما أنقذت القراءة صاحبها من فتك المجرمين كما حدث مع عضو الكونغرس المكسيكي الذي قرأ كتابًا عن كرة القدم؛ ففكه من قبضة مجرمين كادوا أن يفتكوا به.

ثمّ نقف مع تجارب الناس مع القراءة والعيش في المكتبة، وقراءة أيّ شيء حتى بقايا الصحف وقصاصات الأوراق، إلى أن نبلغ مهد المعارف المقدس الذي يتحدث عن لذة شراء الكتب، والافتتان بها، ولا غرو فالكتب والمكتبة كما يقول عبدالله كنون دعامة الحياة الفكرية في كل الأمم، وقد بلغ من ولع شيخ العروبة بالكتب أنه يقرأ صفحة الوفيات في الأهرام ليشتري مكتبات الموتى! بينما وصف باعة الكتب “إرنست همنجواي” بأنه الزبون المفضل؛ لأنه يشتري دون إشكالات، وينفق أموالًا طائلة عليها.

ومن أهمية الكتب قدرتها على النفاذ إلى المخ؛ فالأصل في الكتاب إحداث تغيير في قارئه، لكن هذا الرأي ليس على إطلاقه، ولا مناص للقارئ الفاعل من التواصل مع الكاتب والحوار معه، ولابد من التأمل فيما يقرأ وهضمه كي لا يصاب القارئ بتخمة دون فائدة. ومن هذا الباب فائدة القراءة الثانية والثالثة؛ فبعض الكتب لا يكفيها قراءة واحدة، وبعضها لا تعطي ما فيها من المرة الأولى، إضافة إلى أن المرء يتطور وقراءته تبعًا لتطوره الثقافي والفكري، ولم يودعنا هذا الفصل قبل تحذيرنا من السباحة في فراغ وهي قراءة الكتاب دون رغبة.

عقب ذلك يضع المؤلف لنا بصمة لن تزول؛ فلأي كتاب بصمة في قارئه على اختلاف نوع البصمة لكل أحد بحسب الحالة النفسية حين القراءة، والعمر، والتخصص والاهتمام، والبيئة والثقافة. والشيء اللافت أن غالب الكتب المؤثرة سيقع عليها القارئ بنفسه دون توصية سابقة، وهذا يقودنا إلى ألّا نعجب من تباين الآراء حول كتاب ما، وألّا ننتظر من أحد أن يدلنا على كتاب عظيم دومًا، وهذا من جملة آراء قرائية كثيرة في الكتاب يوافق عليها المؤلف ويخالف.

ومن أوصاف الكتاب أنه أعظم وثائق الإنسانية، ويمكن به تغيير الإنسان والمجتمعات، وأحال المؤلف لبعض الأمثلة لكتب عامة وخاصة، وأبان بإسهاب أحيانًا عما فيها من قوة تغيير هائلة، ومنها كتاب الأمير الذي قرأه “لويس الرابع عشر” قبل نومه، و”موسوليني” جعله موضوعًا لنيل شهادة الدكتوراة، و”هتلر” صيره شريكًا له على السرير، و”لينين وستالين” ينظران فيه باستمرار، ويكفيك من شر سماعه! ويستحث ذلكم الاستعراض الماتع سؤالًا مشروعًا عن كتب عربية مثل كوخ العم توم، والمنطق السليم، والنظر إلى الماضي؟

أما المنافرة بين الكتاب الإلكتروني والورقي فهي المسألة التي قلما يخلو من تثويرها لقاء عن القراءة، ولا داعي لاستعراض مرافعة الكاتب عن النوعين، ولا النتيجة النهائية، وإنما أتركها لقارئ الكتاب، خاصة أن مسائل هذا الباب تزداد مع توافر الكتب المسموعة والمرئية والمختصرة، وما قد ينجم عن الذكاء الاصطناعي. ومن فصول الكتاب أحاديث مستطابة عن لصوص المعرفة الذين يسرقون الكتب من المكتبات العامة أو التجارية، وليس سرقة المحتوى، وهي أخبار مستعذبة على أن السرقة محرمة في الكتب وغيرها، حتى وإن فتح المؤلف نافذة صغيرة لأصدقاء الكتاب والقراءة من اللصوص المضطرين!

وللسرقة أخت جاءت تتلوها مباشرة تحت عنوان من مثل ريلكه، فإعارة الكتب مكرمة وفضيلة، ولكن حجبها ومنع أصحاب المكتبات منها سوء صنيع بعض المستعيرين، وهذا كله لا ينفي وجود تطبيقات راقية من الطرفين، وإعارات انتهت بزواج طرفي الإعارة! وتحت عنوان مص دماء الفكر بحث الكتاب علاقة الدكتاتوريات بالقراءة؛ فالكتب مبغضة عند كل طاغية ومستبد كما قال “فولتير”، وفيهم من حرق الكتب قبل أن يحرق البشر مثلما فعل “هتلر” بالكتب والناس، وحذا حذوه مجرمو الصرب بالمكتبة الوطنية للبوسنة والهرسك وبأهلها، وهذا الفصل مكانه الأنسب بعد بسط القول في الكتب الثرية المؤثرة لعظم الرابطة بينهما فيما يبدو.

وللتعبير عن حب الكتاب اختار الباشا قبلة أحمد أمين الذي زعم بعض بنيه أن رفقة الكتب أحب إليه من رفقة أولاده، وكان يمسك بالكتب ولو عجز عن قراءتها، ويا له من عشق مكن قارئًا عميقًا مثل “بورخيس” من معرفة الكتاب باللمس، ومنح الشعور بالمتعة من مسك الكتاب وشم رائحته وتقبيله، وكان سببًا في الحرص على تجليده حتى جزم أحدهم بأن الغلاف الورقي إهانة للكتاب! وإن محبة الكتب والمكتبات لمن لوازم حياة القراء، وإن أنهكت جيوبهم، واستنزفت أموالهم، وصرمت أوقاتهم.

هذه المحبة تفسر بما في الكتب من معنى إرادة الحياة، ولا أدل على هذا من أن القراءة كانت خير رفيق لمن دخل إلى السجن حتى غيرت عددًا من المساجين، ومن أشهرهم المسلم الأمريكي الأسود مالكوم إكس. وقد كانت الكتب حياة ومسلاة وسببًا في بقاء العقل عند كثير ممن ابتلاهم الله بالاعتقال، ومن عرف منهم بخبر سجنه مسبقًا تجهز بكتبه قبل غيرها. وفي هذا الفصل طاف بنا المؤلف مع ساسة سجنوا فمنهم من أجاد لغات أجنبية، أو قرأ فنونًا كثيرة، ووجدها آخرون فرصة للتفكير، حتى اهتدى “مانديلا” لقاعدة مجتمعية في معتقله خلاصتها أنه كي يقود المرء قومه عليه أن يعرفهم حق المعرفة. ومن الإيراد العاطفي ما أنجزه الكاتب الأسترالي “كلايف جيمس” بعدما شخصه الأطباء بسرطان الدم؛ فكتب عن قراءاته الأخيرة التي يودع بها الحياة، ومن التجارب الجليلة أن البرازيل ابتكرت منهجًا في التعامل مع السجناء يخفف عنهم المدد بناء على مقدار القراءة.

ومن أواخر فصول الكتاب فصل بعنوان حري بالمراجعة هو معبد الفكر؛ فالقراءة ثم الكتابة هما الحدث الرئيس في التطور الفكري للفرد، وأفاض المؤلف هنا مع تجارب عربية في القراءة لشوقي، والعقاد، وعلي أدهم، والمازني، وزكي مبارك، والرافعي، ومحمود شاكر، وأمل دنقل، وبعدهم أورد تجارب أجنبية كثيرة، فمن مزايا الكتاب أنه لا يقتصر على حضارة أو ثقافة، وإن كان الحضور الإفريقي والآسيوي فيه أقل من الوجود الغربي، وهذا أمر مفهوم فالثقافة الغالبة لها سطوة في الحضور والانتشار.

كما كتب الأستاذ فهد الينبوع الأصلي وفيه يدعو بنصح وحق إلى أن يسيطر القارئ على الكتب، ولا يترك لها المجال كي تسيطر عليه، وهذا الغلط من مزالق القراءة الكبرى؛ وأبان لتجنب هذا المزلق عن أهمية التجارب ودروب الحياة، وأن الخلط بين الأمرين -القراءة والتجارب- أجدى لصناعة الأفكار وأنفع. وهمس مؤلفنا برفق لمعاشر القراء والمدمنين ناصحًا ألّا يقودهم إدمان القراءة إلى الترفع والكبر، ثمّ سرد للفيلسوف الألماني “هيرمان هسه” كلمات نفيسة لا أبخل بها عليك أيها القارئ الكريم، بيد أني أتمنى أن تستمع بها مع غيرها من الكتاب مباشرة.

وفي آخر الكتاب حكاية قصيرة بعنوان: وجه عضنته الكتب، والحقيقة أني لم أقرأها؛ لأني حينما بلغتها كنت في مزاج كدر، وفوق ذلك فكاتبها تردد ولايزال مترددًا في إثباتها ضمن كتابه، وعليه حسمت أمري ألا أقرأها، وهي فرصة لحث القارئ على أن يتدرب على القفز أثناء القراءة، ثمّ يقفز بشجاعة ولا يلوي على شيء، وهذا القفز من فوائد كتابنا الناطق بفصاحة وبيان، وهي فوائد جمة لا يمكن أن تحصر في مقال ولا في أضعافه، ولذا سأكون سعيدًا عندما يقتني المثقف الطلعة نسخة منه، ويخلو بها مستمتعًا كما حدث معي؛ فالكتاب فيه قراءة، وكتابة، وأدب، وثقافة، ووعي، وفكر، وسير ذاتية وغيرية، ومنافع أخرى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الاثنين 22 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445

06 من شهر نوفمبر عام 2023م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. إن كان هذا الكتاب “الناطق الأخرس” قد أخرج لنا هذا النص البديع عنه، فكيف بالكتاب ذاته !
    سلمت هذه الأنامل.. شوقتنا لاقتناءه وإتمامه ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)