سياسة واقتصاد عرض كتاب

أساطير صنعت أمريكا!

أساطير صنعت أمريكا!

إن معرفة الإرث الذي يقف خلف كيان يساعد كثيراً في فهم منطلقاته، وتوقع تصرفاته في الحاضر والمستقبل، فضلاً عن أنه يفسر كثيراً من حوادث ماضيه. وإذا كانت هذه المعرفة ضرورية بين الأفراد فلا ريب أنها أساسية بين الدول والحضارات، وتزداد خطورتها عندما تكون خاصة بدولة تحرك العالم، وتتصرف في المنظمات والأحداث دون نكير أو منافس، وهذا يصدق على واقع أمريكا اليوم.

وأمامي كتاب يتحدث عن المكون الثقافي لأمريكا، عنوانه: تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا، تأليف: منير العكش، صدرت الطبعة الأولى منه عام(2004م) عن دار رياض الريس للكتب والنشر، ويقع في (324) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة وقسمان، القسم الأول يتكون من ستة فصول، والقسم الثاني يتكون من خمسة فصول، ويتبعهما ملحقان، وفهرسان للأعلام والأماكن، والأماكن كلها تشتاق للخلاص من هذه القوة الغشوم المشبعة بالأساطير.

استرجع المؤلف في المقدمة شيئاً من يوميات “المستكشف” كريستوفر كولومبس حين خطف ذهبُ الهنود عيونه؛ فراسل الملكة إيزابيلا، والبابا عام (1492م) ليقنعهما ببعث المزيد من الجنود كي يجمعوا-يسرقوا-أكبر قدر ممكن من ذهب معابد الهنود وبيوتهم، على أن يُستخدم هذا الذهب في تحرير أورشليم من المسلمين!
وقبل أن يلفظ كولومبس أنفاسه في العشرين من مايو عام(1506م) -غير مأسوف عليه-كتب في وصيته أمراً لابنه وورثته بأن يتولوا هذه المهمة المقدسة إذا تخلى عنها عرش أسبانيا، وما أخلص هذا “المستكشف” لدينه في كشوفاته غير البريئة، وفي وصيته وهو يغادر الحياة.

وسطر المطران بوتولومي دي لاسكازاس شهادته على وحشية الأسبان المحتلين؛ الذين غَشَوا أرض الهنود وفعلوا بهم كما تفعل الذئاب الجائعة، والسباع الضارية، مع الخراف الوديعة لأجل الذهب، وهي فظاعات غريبة غير معهودة، حتى أن زعماء الهنود لاحظوا شراهة الأسبان في جمع الذهب، واعتبروا أن الذهب هو هدفهم الأول وغايتهم الرئيسة.

ويقول المؤلف -وهو الدارس الخبير-بأن الإنكليز الذين اجتاحوا الشمال الأمريكي بعد ذلك بزُّوا الأسبان في جرائمهم، بيد أن جرائمهم وحرصهم على الذهب كان أكثر “روحانية”، وأشد ارتباطاً بالمعاني الدينية التي خدمت فكرهم الرأسمالي، وجنونهم الاستعماري.

وعلى مدى قرون أربعة اختطفت فكرة أمريكا روح الدين؛ وطوعته لأهدافها الإمبراطورية الثلاثة التي استعارتها من فكرة إسرائيل التاريخية؛ وهي:
1- اجتياح أرض الغير.
2- استبدال سكانها بآخرين غرباء واستعباد من يظل حياً منهم.
3- استبدال ثقافتها وتاريخها بثقافة المحتلين الغرباء وتاريخهم.

ومنذ ما عُرف بالصحوة الكبرى (1720-1740م)، كانت هذه الروح الرأسمالية تعيد صياغة الظاهرة الدينية بما يناسب مجتمعات السوق والثروة، وبمجرد أن يصبح اجتياح أي بلد ذا فائدة اقتصادية، تبدأ عمليات غسيل الدماغ الشعبي، ووضع ملابسات الأحداث في إطارات “قيامية”، ولا مانع لديها من الكذب الفج؛ لدرجة ادعاء مجيء الله-تعالى الله عن إفكهم-إلى البيت الأبيض.

ولا يعتقدنَّ أحد أن هذه الروح الإسرائيلية التي تمد بلاغة العنف الأمريكي بأدبياتها، وصيغتها المقدسة، خاصة بالمحافظين واللاهوتيين، بل إنها تحرك العلمانيين والليبراليين بصيغتها الحديثة، التي تعرف اليوم بالدين المدني، وللمؤلف مشروع كتاب عن الدين المدني في أمريكا، وعسى أن يرى النور قريباً.

ومن المتغيرات الحديثة في الفكر الأمريكي أن الأحداث “القيامية” كانت تُنتظر من إله العبرانيين، ولهم في ذلك حسابات وتاريخ طويل من التوقعات؛ بيد أنهم أخيراً أحالوا أمر استعجال القيامة إلى الجنرالات والساسة؛ بعد أن خلطوها مع مصالح شركات النفط، ومصانع السلاح، وداء الكَلَب الاستعماري، وغذَّوها بواسطة ثقافة الكره لحضارات العرب والمسلمين. ويجزم المؤلف أنه لا يوجد جماعة بشرية مسكونة بهستيريا القيامة، ونهاية البشرية أكثر من الأنكلوسكسون، وهذا الهوس بالخطاب القيامي ليس قصراً على متطرفيهم، بل يشترك فيه العامة والساسة ولكنهم يتلطفون في التعبير عنه.

يحمل القسم الأول جزءاً من عنوان الكتاب: تلمود العم سام: حق التضحية بالآخر وتطبيقاته على الهنود والعرب، ويضم ستة فصول أولها بعنوان فكرة أمريكا، وتصافح عين القارئ في أوله مقولة لمفكر غربي يقول: “تاريخ الدين المدني في أمريكا هو تاريخ القناعة الراسخة بأن الأمريكيين هم الإسرائيليين فعلاً، وشعب الله حقاً”، ولأجل هذه المشاعر الاستعلائية، تقع مدينة واشنطن فوق مقبرة جماعية؛ لسكان مدينة هندية تُدعى”نَكن شَتَنكه”؛ كانت مزدهرة عامرة بالناس والأسواق، قبل أن تطرقها أقدام البيض القتلة، بينما يُشاع في التاريخ الأمريكي الذي يدرسه الأطفال بأن جورج واشنطن-البريء جداً!- اختار هذا الموقع الجميل في أرض عذراء! وإنها لعذراء مغتصبة، تجري من تحتها دماء شعب كونوي بدءاً من عام(1623م)، ومن الإمعان في التضليل، إقامة متحف لهولوكست النازية في هذا الموقع؛ وكأن الأنكلوسكسون أبرياء بررة؛ وليسوا جناة برابرة!

ويؤكد المؤلف ما أفرد له كتباً خاصة-كتبت عنها مراجعة فيما مضى-من أن الجندي الأبيض يتعلم تجريد عدوه من إنسانيته، قبل أن يزحف إلى ساحة المعركة؛ وبذلك يذيق أعداءه صنوف العذاب والهوان، دون وخز ألم؛ أو تأنيب قلب، وتصبح معاركه مقدسة مسوغة بعلل التفوق العرقي، والاختيار الإلهي. وإن جنوداً تملأ هذه العقيدة نفوسهم الخالية من الديانة والأخلاق؛ لوحوش كاسرة لا ينفع في صدها غير الحديد اللاهب، والنار المستعرة، والكلام الغليظ، أما الرخاوة، فمآلها لا يختلف عن مصير سكان أمريكا وأستراليا ونيوزلندا.

كما يرى العكش أن فكرة أمريكا استوعبت كل أطروحات هرتزل وأحلامه، قبل أن تخلق لحيته بثلاثة قرون، وأن ملاحم نهاية التاريخ، وتدمير بابل، وإبادة أهلها، وتأسيس دولة يهودية في فلسطين، كانت هواجس ثابتة لدى صهاينة الشعب الإنكليزي على طرفي الأطلسي. والحقيقة أن المواقف الأمريكية-البريطانية من اليهود منذ هرتزل حتى لحظة كتابة هذه المقالة، لتؤكد على أن القوم يرتكزون إلى عقيدة أكثر من مجرد المصالح، وأي مصلحة لهاتين القوتين في قطعة أرض محصورة بين مخالفيها، وليس فيها نفط، ولا ثروات خلافاً لجيرانها؟
ونظراً لحضور الإرث الديني في ثقافة البيض؛ تمتلئ خطب الرؤساء بالتعابير الدينية، والكلمات التوراتية والتلمودية، بل يشَّبه الزعماء أنفسهم بالأنبياء؛ فكلينتون يرى نفسه مثل النبي سليمان-عليه السلام ونزه الله مقامه-، وبوش لفرط رعونته يقارن نفسه بكليم الله ونبيه الكبير موسى-عليه السلام ونزه الله مقامه-، وقلما تخلو خطب رؤساء أمريكا ومراسلاتهم من نصوص دينية.

عنوان الفصل الثاني من الافتراس إلى الهضم، وهو عنوان واضح الدلالة، فهناك جدل متلازم بين النهب من أجل الإبادة، وبين الإبادة من أجل النهب، وكل جريمة تعقبها الأخرى مباشرة، أو يسيران في طريق متواز غير متوار عن أنظار من يبصر الأحداث بعقله لا بعينه فقط. ولا مانع لدى الأمريكان من توقيع الاتفاقيات ثم خرقها كأن لم تكن؛ والتاريخ يشهد أن حكومة واشنطن وقعت (371) معاهدة مع الهنود؛ ولم تحترم واحدة منها، بل إن أحد مسؤوليها وصف أوراق المعاهدات، بأنها أقل رتبة من مناديل المراحيض! وإن قوماً هذه قيمة المعاهدات عندهم لقوم بهت وغدر؛ ومن الحمق تصديقهم.

وبعد قرون من الحروب؛ رأت الإدارة الأمريكية، أن تحيل الفتك بالهنود إلى صنائع من بني جلدتهم-وظلم القريب وفتكه أعظم وأشد-، وأسست مكتباً للشؤون الهندية، ومع الزمن تغير اسمه ومرجعيته الإدارية؛ بيد أن مهامه وسمات زعمائه وموظفيه لم تتغير، وتتلخص في التطابق التام مع الإرادة الأمريكية، وإلحاق الأذى بشعوبهم الهندية، وتطبيق القوانين التي وضعتها الحكومة الأمريكية؛ لتسويغ خنق المستضعفين ونهبهم بعلل واهية، ومنطق القوة غالب ما لم يُغالب؛ بعقل ويد ولسان، ومال وإيمان.

وليس بغريب أن يرى زعماء المقاومة الهندية، بأن أول خطوة لإنقاذ الشعب الهندي، تتمثل في القضاء على هذا الكيان الوظيفي المسيَّر بالتحكم عن بع،د والمسمى “مكتب الشؤون الهندية “، فالأمم المنكسرة في الحروب، وجدت خلاصها في رفض الحكومات الدمى المفروضة عليها من المنتصر؛ لأن الرضى بهذه الحكومات المصنوعة بيد العدو، يعني قبول الهزيمة واستمراء الذل؛ ولا يصبر حر على هوان يراد به.

أما الفصل الثالث فهو خطير على قصره، وعنوانه: الثقافة المستباحة: شيء عن كارلوس كاستنيدا، وللمؤلف كتاب عن الإبادة الثقافية-سبق عرضه-، بيد أن هذا الفصل يعرض قصة مهمة، تخبرنا كيف يسعى الجلاد ما وسعه الجهد؛ كي يرى المستهدفون أنفسهم بعيون الجلادين، ولنتصور خطورة الأمر؛ بافتراض أن المحتل يعطي لكل فرد من الهنود-أو أي شعب بغى عليه-، صورة شخصية بشعة، ويسلط عليه وسائله ليوقن أن هذه الصورة معبرة عنه، وليست تلك التي يراها في مرآة مجلوة، أو على سطح بحيرة صافية هادئة، فكيف بالتزوير حين يتجاوز الصورة إلى الثقافة بجوانبها؟ إنها مذبحة روحية كما يعبر عنها الهنود.

وقد نفذ كارلوس جزءاً من المذبحة حين وضع ثلاثة كتب؛ استباح فيها الروح الهندية، وكسب ملايين الدولارات، من وراء كذبه المفضوح الخالي من الوثائق والصور، علماً أنه بدأ رحلاته المزعومة عام (1963م)، وهي تذكرني ببعض رحلات الغربيين الكاذبة على شعوبنا، وحضارتنا الإسلامية، ومع أن كاستنيدا لم يستطع الجواب عما وجه إليه من أسئلة تفضح افتراءه؛ إلاَّ أن كتبه يُحتفى بها في مكتبة الكونجرس، وتُفهرس ضمن أنثروبولوجيا الهنود، وجميل أن نعي أن ما يُكتب، أو ينُتج، ويتداول على أنه وثيقة إدانة؛ قد لا يعدو كونه عملاً سيئاً؛ بإخراج رديء بعد تفحصه.

الفصل الرابع يحمل عنوان بيضة الأفعى، ويلخص عمق إسرائيل في الوجدان الأنكلوسكسوني، ويخفف من غلواء نسبة التعصب الأمريكي لصالح إسرائيل على أنه رضوخ للوبي اليهودي، ولسنا ننكر أثر اللوبي، بيد أنه يستند إلى ثقافة عميقة لا تخدم أي “لوبي” آخر.

وفي سياق هستيريا آخر الزمان، تتبع المؤلف تاريخ بعض النهايات المتوقعة التي باءت بالفشل، وذكر منها خبر الحاخام الأكبر في تركيا سابتاي تزفي، الذي كان له أثر كبير في تكوين يهود الدونمه، وإسقاط الخلافة العثمانية، وقد قرأت عنه وعن جماعته فصولاً مثيرة في رسالة دكتوراه مطبوعة بعنوان العلاقات التركية اليهودية، تأليف د. هدى درويش. ومن المفاجآت في كتاب العكش أن إسحق نيوتن صاحب نظرية الجاذبية، وضع تراثاً قيامياً أكثر من تراثه العلمي، وصمم مبنى المعبد اليهودي مكان المسجد الأقصى، واجتهد في دراسة هذا التصميم وتحديد أبعاده!

وكان مشروع تجميع اليهود في فلسطين، وضمان استمرارهم فيها، هماً مشتركاً وقديماً بين عدد من مشاهير العلماء، والساسة، والدبلوماسيين، والعسكريين، على اختلاف أزمانهم مثل نيوتن، والسياسي كرومويل، وجورج فوكس، والفيلسوف هنري جيسي، والكيمائي جوزيف برستلي، والمستشار الملكي هنري فينش، والدبلوماسي وليم هكلر الذي نقل مشروع هرتزل لزعامات أوروبا، والجنرال الاستخباراتي الإنجليزي في فلسطين وينغايت الذي أدهش الصهاينة بحماسته لمشروعهم؛ وكان موشيه دايان من أبرز تلامذته.

وختم دافيد هارتلي وهو من مؤسسي علم النفس الحديث أحد كتبه بقوله: “لن تكون هناك سعادة حقيقية خالصة ولن تنزل أورشليم السماوية ولن تقوم مملكة الله إلا بعد دمار فلسطين وبابل وأهلهما بالنار”؛ فما ظنكم برئيس قيامي أهوج يؤمن بهذه الهرطقات، ويمتلك القوة؟! وقد تفاخر كلينتون ونائبه آل غور بدوام النظر في التوراة، وأكثرا من استعارة بعض فقراتها، وكان الأخير يستخدم التقويم العبري بأيامه، وشهوره وسنواته، وبعض المهزومين؛ يستحي من استخدام التقويم الهجري.

العقيدة القيامية ودم الشيطان هو عنوان الفصل الخامس، وفيه حديث عن تراث الحقد على حضارات العالم القديم، حتى أن الإنكليز يستعجلون التدبير الإلهي لمملكة الله، وينصبون في سبيل تحقيق النبوءات؛ وبعضهم يرى علامات نهاية الزمان في الأحداث الكونية والتطورات العلمية، ووقر في خلد زعمائهم، بأن سفينة التاريخ البشري تطوي أشرعتها!

ثم استعرض المؤلف بعض النظريات القيامية الشهيرة، فمنها نظرية القيامي وليم ستون، ونظرية الفيزيائي توماس بيرنت، وهو جد مارك سايكس الإنجليزي الذي قسم عالمنا بقلمه الرصاص، مع الفرنسي بيكون. ونظرية توماس مخيفة، مشحونة بالمصطلحات العلمية، والدمار الذي يسبق النهاية السعيدة؛ بقيام مملكة الله على أورشليم. ومع رفض كثير من رموز حركة التنوير التصور القيامي عند العبرانيين، فقد ظهر في صفوف حركة التنوير من أسس لعلم الطبيعة القيامي، وقرر أن سعادة العالم تبلغ أقصاها، بدمار بابل وفلسطين، وتجميع اليهود في أرض فلسطين.

ومع الثورة الصناعية، دخلت الصناعات الحربية الثقيلة عنصراً أساسياً في الفيزياء القيامية، وصنعت هذه التكنولوجيا لاهوتاً سياسياً وعسكرياً محاذياً، نقل العقيدة القيامية من الهذر إلى الجد، ومن انتظار الأسطورة إلى صناعتها، ومن “الرؤيا” وأسفارها إلى تن دواننغ ستريت، والبيت الأبيض، وأصبح الإنكليز على طرفي المحيط أوصياء على صناعة نهاية التاريخ!

ويرى الكاتب أن العقيدة القيامية جعلت اللوبي الصهيوني-وبعضنا يبالغ في قدرته على التأثير- أقل خطراً من باقي أعداء العرب في واشنطن؛ المتعطشين للدم الإسلامي، والمتشبعين حد التخمة بهاجس صناعة القيامة التوراتية، وهو ما يؤكده مدير مركز الدراسات الألفية في جامعة بوسطن ريتشارد لاندِس، حيث يفسر الناس في واشنطن الأحداث قيامياً، ويعتقدون بأنهم محور الدراما الكونية، ولذا فقد دلفنا إلى المنطقة الساخنة من الزمن القيامي، كما يقرره الباحث في ذات المركز ستيفن أوليري، في كتاب مطبوع عن الخطاب القيامي، وليت المهم من إصدارات هذا المركز أن يترجم من المركز القومي في مصر، أو المجلس الثقافي في الكويت؛ أو مراكز دراسات فلسطين، لأن القياميين في أمريكا أخطر من هتلر.

وينصح الباحث الدول العربية والإسلامية، بالكف عن المثالية في التعامل مع الأنكلوسكسون، ونبذ تعظيم تأثير اللوبي الصهيوني على القرار الأمريكي، فالقوم صهاينة توراتيون، ملتزمون بإسرائيل منذ قرون سبقت وجود اللوبي، الذي نضفي عليه عبقرية مبالغاً فيها، ولذا فلا حل لهذه الأمة في تعاملها مع هؤلاء القياميين؛ إلا أن تثوب إلى رشدها، وتؤوب إلى إسلامها وعروبتها، أو تركن على أقل تقدير إلى غريزة البقاء، لأنها تنتحر وهي تستجدي صداقة عدو أصيل العداوة، وأي عاقل يستحلب العسل من أنياب الأفعى؟

وكتب جورج ستيفانوبولوس، كبير مستشاري كلينتون، مقالاً يؤكد فيه حق أمريكا في القتل، واصفاً سفك الدماء بأنه عمل لازم؛ بل نبيل وإنساني! وأتمنى أن سفارات المسلمين، واستخباراتهم ووسائل إعلامهم، تتابع ما يكتبه المقربون من سواد البيت الأبيض وتخوم الكونجرس؛ ليس لنشره؛ ولكن لفهم طبيعة القوم، إن كان في حكام المسلمين من يرغب في فهمهم دون الانهماك الأعمى في طاعتهم، فالنهم القيامي؛ جعل الأنكلوسكسون يعيشون بذهنية المأزق، والبحث الدائم عن “شيطان”؛ يتطلب وجوده أو إيجاده فلسفة أمنية متشددة تقتل بالحدس، ومن يدري فقد يكون هذا “الشيطان” ممن جلس يوماً حول موقد البيت الأبيض!

ينتهي القسم الأول مع الفصل السادس بعنوان يعبدون إسرائيل ويكرهون اليهود، وخلاصته أن فكرة إسرائيل تسكن الثقافة الأمريكية، وتكوّن نواة صلبة لفكرة أمريكا، وقد كتب تفاصيلها إيزيدور ماير، في كتابه “التاريخ المبكر للصهيونية في أمريكا”. وفي عام (1891م) قدم وليم بلاكستون خطة للرئيس بنجامين هاريسون، لإرجاع فلسطين لليهود تحقيقاً للإرادة الإلهية-وقد زار فلسطين عام(1888م)-، وشرح بلاكستون للرئيس هذه الخطة المكتوبة في رسالة، وقع عليها (413) شخصية سياسية ومالية، ودينية وإعلامية، منهم رئيسان لاحقان لأمريكا، وعدد غفير من أعضاء الكونجرس، وحكام الولايات، وعمد المدن، ورؤساء تحرير أكبر (93) مطبوعة ما بين صحيفة ومجلة، ولم يضم هذا العدد الضخم سوى (30) يهودياً هامشياً؛ بل رفض جل الزعماء اليهود مضمون هذه الرسالة، وقد ترجم كتاب بلاكستون إلى (36) لغة؛ ولا أعلم هل العربية من ضمنها أم لا؟ وكان هذا الكتاب مؤثراً على غالب الرؤساء الأمريكان؛ حتى أن ترومان ذرفت دموعه فرحاً؛ بعد صدور قرار التقسيم عام(1947م)، مع أنه معروف بقساوة القلب.

يبدأ القسم الثاني المعنون بإمبراطورية الله -وهو عنوان كتاب لوليم ترولنغر نشرته جامعة وسكنسون، ويتناول تاريخ الفكر والثقافة في أمريكا-بالفصل الأول الذي يحمل عنوان حدود الإمبراطورية، وفي أوله نص صادم لجيمس شليزنغر، يقول فيه بأن الحرب هي الجنة، والسلام هو الجحيم! فمن ذا يأمن لحضارة هذه جنتها وجحيمها؟! وروى المؤلف قصة حرب الفلبين، وادعاء الرئيس الخامس والعشرين مكنلي؛ بأن الله كلمه لتحرير الفلبين، وإنقاذ أهلها من الوثنية، وطرد الأسبان منها عقاباً على فعلهم باليهود عام (1492م) -وهي سنة طرد المسلمين من الأندلس وابتداء محاكم التفتيش ضد المسلمين ثم اليهود-.

وفي الفصل آراء مروعة؛ فأحد أعضاء الكونجرس، يقر بقسوة الأعمال الحربية التي ارتكبها الجيش الأمريكي، ويعللها بأن الطبيعة قاسية! وأحدهم يؤكد أن العنف الذي لازم فكرة أمريكا عنف مقدس؛ ويالهول هذه المعلومة حين تصك آذان بعض قومنا دعاة التمايع لدرجة الذوبان، ويعترف ثالث بأن أجدى تعامل مع الأعراق الدنيا؛ ما كان بالسكين والبندقية.

وأما رأي أهل هذه البلاد المحتلة، والأعراق المنحطة فلا قيمة له ألبته، وقد عبر عن ذلك السناتور هور حين قال: إن الاعتماد على آراء أهل هاوائي مثل الاعتماد على آراء أطفال الميتم، أو مدارس المعتوهين! وحيهلاً بحرية الرأي، وحق تقرير المصير، وغيرها من كلمات جميلة يمطرنا بها الغرب، ويعاقبنا على تركها حسب وجهة نظره؛ لكنه لا يتمثلها معنا! وهل يرضخ القوي لضعيف مستكين؛ خاصة وأحد الضباط البيض يقول في العلن: لن نتردد أبداً في مسألة إبادة أي عرق آخر يقف في وجه التقدم والتنوير؟! وضابط آخر، يؤكد قناعته وباقي الجيش من ضباط وجنود، بأن شعب الفلبين ليسوا أفضل من الكلاب!

الفصل الثاني عنوانه موسى العصر والنزعة القيامية، وهو يتحدث عن نزعة جورج بوش الابن القيامية المتطرفة، وعن اعتقاده بأنه موسى العصر كما أشار في كتابه عن نفسه، ويعود تأثره بشخصية النبي موسى – عليه السلام وبرأه من هذه القدوة الرعناء-، إلى دروس تربوية تلقاها عام (1986م)، ذات سبت بين يدي بيلي غراهام الرمز الصهيوني الأنكلوسكسوني، ولم يكتف التلميذ بوش بذلك؛ بل إنه أحضر كثيراً من رفاق الدرس معه إلى البيت الأبيض، وشارك اثنان منهم في صياغة خطابه الشهير عن محور الشر، وهذه الدروس التربوية الصهيوإنجيلية غير مقتصرة على بوش؛ لكنه يزيد على بقية الرؤساء؛ بامتداد جذوره إلى جده القس الحاقد، وأما تجميع الرفاق في مكان العمل فسمة شبه عامة.

ويعود سر إفراط بوش باستخدام اللغة القيامية، إلى أمرين مهمين هما: قوة سلطانها على قلوب الأمريكان وعقولهم، ولأنها لغة حمالة أوجه، ولا تقول جملة مفيدة؛ وبالتالي يعلو التفسير البشري على النص المقدس عند المخاطبين، ويعطي فرصة لتجديد هذا التفسير وفقاً للحوادث، أو للخطط، أو لمتطلبات سوق السلاح والنفط.

وأورد المؤلف في المتن والحاشية، معلومات جمة عن القيامة التي يحفظ الأنكلوسكسون نصوصها؛ أكثر من حفظهم لأسفار كتابهم المقدس، وتدور تعابيرها ورجالاتها في أروقة البيت الأبيض، خاصة منذ أيام ريغان، وتحظى مؤتمراتها بحضور جمع غفير من رجالات الحكومة، وليس بغريب حين يقول المؤلف: يجب على من يعي ذلك أن يتحسس رقبته!

حق الحرب هو عنوان الفصل الثالث، ويذكر الباحث أن الروح الأمريكية، تستعر بأخطر نزعتين قياميتين عرفهما تاريخ البشر هما: عقيدة القدر المتجلي، التي تقود لشبق إمبراطوري نحو إعادة صياغة العالم، وفكرة إسرائيل، التي تمثل مقدمة لنزول القدس السماوية، وقد ظهرت النزعتان جلياً في مشروع “من أجل قرن أمريكي جديد”، الذي أُفتتح بغزو العراق، وسوف يستمر حسب تخطيط دعاة الحرب من القياميين في البنتاجون؛ ليشمل ست دول عربية وإسلامية، هي سورية، لبنان، الصومال، السودان، ليبيا، إيران، ومعلوم أن تدمير العراق مطلب انتقامي يهودي، لكن العجيب اهتمام التراث اليهودي بليبيا مع بُعدها. ويكمل الفصل الرابع وعنوانه فكرة أمريكا وينابيع عنفها الفصل الثالث، فحق الحرب الذي تحتجنه أمريكا لنفسها، حق مقدس مرتبط بثقافتها منذ أنشئت؛ ولن تحيد عنه ولو وقَّعت أكواماً من الورق والمواثيق.

عنوان الفصل الخامس والأخير من هذا القسم بحثاً عن أم، وفي أوله مقولة لتوماس هوكر (1631م) -أبو الديمقراطية الأمريكية-يقول فيها: “يوماً ما، سيجد الأتراك-يقصد عموم العرب والمسلمين-أن نار جهنم أرحم بهم من إنكلترا”! ويتحدث هذا الفصل عن الرغبة في توطين اليهود، والبحث عن بلد أم يرعى هذه الرغبة، وأنها سابقة على هرتزل ومخططاته، وثابتة في خلد الصهاينة الإنجيلين أكثر منها لدى اليهود أنفسهم، ولذا يؤيد الأنكلوسكسون أكثر السياسات اليهودية غلواً، لأنها تتوافق مع معتقداتهم، والنبوءات القيامية، التي يهيمون بها لحد الهوس المخرج عن حدود التعقل.

أضاف المؤلف ملحقين في ستين صفحة، عنوان الملحق الأول: الجلاد المقدس، ويكرر الكاتب ما ذكره من نظرة البيض المقدسة لأنفسهم، والمدنسة لسواهم، حيث رافقت هذه النظرة التوراتية تأسيس أمريكا، حتى أن أول كتاب طبع في أمريكا هو “مزامير داود” عام(1640م)، وكانت اللغة العبرية هي لغة جامعة هارفارد الرسمية حين أنشأت عام(1636م)، ولا عجب بعد ذلك أن تكون ملامح أمريكا؛ مرسومة بريشة توراتية، وتتشابه مع أدبيات اليهود، في حتمية تجميع الشعب المختار في فلسطين، وتدمير بابل، وعصر سكان ما بين الفرات والنيل، في معصرة غضب الرب كما يزعمون، فهل نحن مستعدون لمواجهة العصر قبل أن نصبح عصيراً بلا قيمة!

عنوان الملحق الثاني عن حوار الحضارات وحرب استئصال الأصالة، وإن أمة هذا فكرها وثقافتها، وهذه عقيدتها كيف تؤمن بالحوار إلا مخادعة؟ بل كيف نصدق جدوى الحوار معهم، ونحن نرى أثر أسلحتهم وسطوتهم؛ ثم نضيع ديننا ودنيانا، في مطاردة سراب الحوار ووهم التعايش؟! كيف نثق بأمة سادت في الألف الثاني؛ الذي أنهته بمئات الملايين من القتلى، ومئات الحروب، فضلاً عن دمار كبير، وكل ذلك لم تشهده نهاية الألف الأولى؛ التي كانت السيادة فيها للمسلمين!

كيف نصدق عالمَاً بإمكانه أن يعالج بفائض أمواله ومنتجاته، مشكلات الفقراء الصحية، والتنموية، والحياتية، بيد أنه لا يفعل ولن يفعل؛ ولو تباكى لأجل الجائعين والمرضى والمشردين؟ كيف نثق بقوة تريد طمس أصالة الحضارات الأخرى، وتزوير ما بقي منها، وتسعى لمصادرة حق شرح تعاليم ديننا؛ فالحق ما رضيت به ولو كان حراماً، والباطل ما تأباه ولو كان ثابتاً في كتابنا العظيم، ومراجع ديننا الموثوقة؟ إنهم يخوضون أشرس حرب على ثقافتنا، وبعضنا يقابل إفكهم بابتسامات بلهاء، وخور وعجز، وويح لنا منهم.

ثم يُنذر العكش أمته، ويحذرها شفقة عليها، ويؤكد بأن الهرولة لمؤتمرات الحوار، ليس سوى عمل دون جدوى، وأننا حين نمد حبال الصداقة لأمريكا؛ فكأنما نعطيها مادة تصنع منها المشنقة لنا، فتجارب قرن من سموم الصداقة مع بريطانيا ثم أمريكا، كفيلة بإيقاظ غريزة البقاء حتى عند أحط البهائم! وإن لم نصدق فلنقرأ قول زعيم هنود دولاوير؛ وهم قوم سبقونا بتجربة أمريكا، وقد قال في كلمة مأثورة عام(1787م) ما يلي: ” إنهم يفعلون ما يحلو لهم، يستعبدون كل من ليس من لونهم. يريدون أن يجعلوا منا عبيداً، وحين لا يتحقق لهم ذلك يقتلوننا. إياك أن تثق بكلامهم، أو وعودهم. إنها أحابيل، صدقني إنها أحابيل، فأنا أعرف سكاكينهم الطويلة جداً”.

وبعد هذا التطواف الطويل مع كتب د.منير العكش، يجدر التأكيد على أن معرفة حقيقة أمريكا مهم للمنبهرين بها، وضروري لقادة الأمة الرسميين والشعبيين؛ حتى لا نكون فريسة طيعة لهؤلاء الغزاة العقائديين، ولعل المخدوعين من أبناء أمتنا، أن يستيقظوا على حقيقة مهمة ملخصها؛ أن الأبيض يتخلى عن عملائه متى ما انتهت الحاجة لهم؛ بل يراهم أراذل الخلق. ولعل الجميع أن يستيقن، أنه مهما تنازلنا، ونسينا ديننا وثقافتنا؛ فإن الآخر سيظل يرانا أبناء أمة مخالفة معادية، لا علاج لها عنده إلا بالذبح المعنوي أو المادي.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
الخميس 13 من شهرِ الله المحرم عام 1436
06 نوفمبر 2014 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)