خميّس بن رِمثان العجمي: بوصلة الخير ورمز العراقة
تخدم أيّ أمة نفسها وحاضرها ومستقبلها عندما تحمل على عاتقها مسؤولية رواية تاريخها بأحداثه، وأيامه، وحولياته، وطبقاته، وأعلامه، وكافة شؤونه السياسية والاجتماعية والفكرية والعسكرية والاقتصادية، ولا تترك هذه المهمة الجليلة لغيرها جملة وتفصيلًا بأيّ حجة، ومهما كانت الإمكانات المتوافرة في الكم والكيف؛ فالآخرون –وهي سمة بشرية على تفاوتها– سيكتبون من التاريخ ما يمجدهم، ويحرفون الفضائل لهم، ويبرزون حسناتهم وربما سلبوا من غيرهم محاسنهم. وإن التأخر الحضاري لا يسوغ بحال أن ينسحب على الثقافة؛ خاصة أن الاعتزاز الثقافي طريق للرقي الحضاري وإن طال المسير والانتظار.
وفي تاريخنا النفطي رجال عظماء من أبناء البلد –رحمهم الله–، على رأسهم الملك عبدالعزيز، فجميع الذين لهم تأثير في بدايات تاريخنا النفطي هم من رجال الملك الموهوب بأشياء كثيرة منها البصيرة العميقة باصطفاء من يستحق، واصطناعهم، وتغيير مسارهم إلى ما يستبين أنه الأنسب ولو بعد زمن. ويأتي الشيخ فوزان السابق في أول القائمة حين أكرم ثريًا من الأمريكان بواحد من خيوله الجياد مجانًا، وكانت ثمرة هذا الإهداء بعث خبراء يبحثون عن الماء لطرق الحجاج في صحراء البلاد، وعن طريقهم بدأت رحلة البحث عن الزيت الثمين؛ فسبحان من جعل في بركة خدمة الحجيج والحرمين ثراء عريضًا، وخيرات تنبع من تحت الأرض!
ثمّ يأتي بعده الشيخ عبدالله السليمان الذي دخل في جولات تفاوضية مضنية مع الشركات الأجنبية، وتسلّح ببعد نظر الملك عبدالعزيز كي يجعل التعامل النفطي والاقتصادي آمنًا على البلاد في قرارها ومستقبلها واستقلالها. ومنهم خميّس بن رميثان العجمي الدليل الهادي، والبوصلة الدقيقة، والرجل الذي لا يكتب الحرف بيد أنه سطّر من المجد ما يعجز عنه كثير من الكتبة والقراء. ولن يكون الشيخ عبدالله الطريقي آخرهم، وهو أول وزير للنفط، وصاحب المساعي الناجحة في لجم كبريات الشركات، وتعظيم مغانم الخزينة من النفط، وإنشاء منظمة أوبك، والقائمة السنيّة المجيدة مفتوحة لمن عاصرهم أو أعقبهم بخير، والتاريخ لا يغفل.
ومع أننا لا نحفظ الكثير من أخبار خميّس بن رميثان العجمي، إلّا أنه يمكن لنا الاتفاق على مسلّمات تصدق عليه وعلى كثير من أضرابه البررة الأوفياء، كما نقدر على أن نستفيد من القليل الذي نعلمه عنه، على أمل أن تكون الأعمال التوثيقية المنتظرة عن سيرته قد ظهرت مكتوبة أو مرئية لمزيد تجلية وبيان، وهذه مسؤولية تضامنية بين أسرته، ووزارة الطاقة، وشركة أرامكو، ومؤسسات ثقافية وإعلامية وتاريخية تحتاج لمثل هذه المادة النافعة.
ينتمي خميّس إلى قبيلة العجمان العريقة، وهي قبيلة عربية تستوطن شرق الجزيرة، وتجتمع فيها مكارم العرب المعروفة التي جاء الإسلام فتممها وكملها، وهو من قوم فرسان شجعان إذا امتطوا ظهور الصافنات، وسادة أغيار إذا هبطوا إلى مسالك الأرض، ودهاة أباة حال التفاوض والإدارة، ولا عجب أن يكون العرق العربي هكذا خاصة بعد أن امتن الله عليهم بالرسالة الخاتمة؛ فجعلها في واحد منهم، وكتب لأرضهم أن تصبح المنبع والمنطلق والمأرز، وأنزل بلغتهم الكتاب الخالد المعجز، وتلك لعمركم مآثر ومحامد.
ولأن الملك المؤسس يعرف بلاده حقًا، ويدرك صعوبة فهمها وفهم تضاريسها على الأباعد الغرباء، فقد طلب من شركة أرامكو في مستهل عملها الاستعانة بخدمات خميّس، حتى لو كان لديهم أفضل الأجهزة في ذلكم الوقت، وأضبط الخرائط، مع الخبرة في المنطقة التي سُبق الأمريكان إليها من الإنجليز وغيرهم؛ فالشركات العابرة تعرف كيف تحصل على ما تريد من محفوظات غيرها؛ فعالمها موحش في بعض تفاصيله. وإن هذا التكليف الملكي لدليل على معرفة عبدالعزيز بقدرات شعبه، وثقته بهم، وحرصه على أن يكونوا شركاء قريبين من الشأن المهم؛ فالبلاد لا تنهض بغير عقول بنيها، وسواعدهم، وأمانتهم.
فبدأ خميّس بتنفيذ المهمة مع الأمريكان، ولم ينظر بعين القلّة إلى مواهبه وقدراته، ولم يتسرب إليه شعور بنقص أو انكسار؛ ولو فعل لاكتفى بمكان قصي يهدر فيه ما جبل عليه من قدرات ومنح نادرة. وعمل ابن البلد الأصيل مع قوم يخالفونه في الدين واللسان واللباس والعادات، وهم أرقى من بنى قومه ودياره في الماديات أجمعها، فلم يفت في عضده شيء من ذلك البتة؛ فهم بشر ونحن بشر، وفينا مثل ما فيهم من مزايا وعيوب. وواصل الرجل الطلعة الهمام أعماله رأسًا برأس مع الجيولوجي الأمريكي “ماكس ستاينكي“، ورأيًا برأي؛ حتى بهر الأجانب بمعرفته لمجاهل الصحراء وطرق الرمال دون حيدة أو الوقوع في متاهة، ثمّ كان منه ماكان؛ فدخل إلى سجل الخالدين في تاريخنا ونفطنا.
إذ وفقه الله بعد خمس سنوات من العمل فوق رمال صحارينا الشاسعة، وتحت شمسنا الساطعة، إلى أن يكون شريكًا في الوقوف مع فريق الشركة على موقع البئر السابع عام (1357=1938م) بحكم ضبطه لدروب الصحراء ومسالكها، وهو البئر الذي ظهر فيه النفط بكميات مشجعة؛ وصارت تلك اللحظة تاريخية مفصلية في السياسة، والاقتصاد، والتنمية، والمجتمع، واستتبعت المزيد من العمل والبحث، ونجم عنها الكثير من العلائق والتداخلات والتطورات، وتدفق على إثرها النفط والمال، وبدأت المشروعات تلو المشروعات في المجالات كافة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ويمكن لهم لينظر كيف يعملون، والله يلهمنا الشكر الصائب في القول والعمل.
إن الرجل الكبير خميّس بن رمثان العجمي لم يحمل شيئًا من الشهادات، ولا يعرف غير العربية من اللغات، ولربما أنه لا يحسن القراءة والكتابة، بيد أن فيه من العزة والطموح، ولديه من الذاكرة والذكاء، وعنده من الزكاء والاعتزاز، ما جعله أهلًا لأن يذكر ويحتفى به، وتسمى عليه الحقول والناقلات، ويرد اسمه وقصته في السيرة الذاتية التي كتبها المهندس علي النعيمي رابع وزير نفط سعودي.
لذلك صار خميّس الراحل عن الحياة مبكرًا عام 1959م نموذجًا لاحبًا للفطرة البهية الوثابة النقية من لوثات سيطرت على نفوس منكسرة، وهمم متدنية، حتى لو جرّ الواحد منهم خلفه أوراق الشهادات، أو تراطن بغريب اللغات؛ فالمسألة ليست شهادة ولغة ومظهرًا جميلًا فقط؛ إنها ياقوم ما يقوم في النفس والقلب والعقل والروح من عراقة راسخة، وهوية ثابتة، وهمّ رفيع، وعزة سامية، حتى لو كان صاحبها خلو الجيب، حافي القدمين، نحيل الجسد، قصير القامة، فتلك السمات القائمة في النفوس الرضية هي الأساس المتين، وتكمن فيها أسباب نجاح أعمال جليلة في التربية والتعليم والتنمية والمجتمع، وبدونها يكون ما سواها مهما تضخم أشبه بالهباء المنثور الذي تذروه هبات من رياح، أو مثل الورم وبعض الأورام لا تصح الأجساد بغير إزالتها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الجمعة 16 من شهرِ صفر عام 1445
01 من شهر سبتمبر عام 2023م