من وحي التسعين!
ليس للعنوان علاقة بالعمر كما قد يتبادر للذهن، وهو ظن وجيه فمن المعتاد استخدام هذا العنوان وأشباهه في الحديث عن العمر والسنوات وتجارب الحياة، ومن هذا الصنف مقالات كتبها العقاد عن سنوات عمره بداية من الأربعين كما أتذكر وهكذا، وفيها شيء من استبصار الكاتب وتفكيره. ولغازي القصيبي أشعار جميلة عن الخمسين وما فعلت، وعن الستين والسبعين ولحظة الغروب، والله يطيل لنا ولكم العمر على طاعة وإيمان وستر وغفران وعمل صالح دائم مستمر.
إذًا فما هي هذه التسعين التي نحتاج إلى تدبرها؟ كنت قد قرأت في سير منشورة بكتب أو مقالات، وسمعت مباشرة أو عبر حوارات، عن السعوديين الذين أوفدتهم حكومة المملكة للحديث مع القوى المجتمعية والرسمية في بلاد عدة بعد جريمة احتلال الكويت من قبل حزب البعث في شهر المحرم عام (1411) الذي يوافقه شهر أغسطس آب عام (1990م)، والله يكفينا وإياكم مكائد الأحزاب، وشرور الخبث والخبائث من الإنس والجن.
ثمّ قرأت في سيرة الوزير أ.د.علي النملة الصادرة آنفًا أنه كان واحدًا من تسعين مبعوثًا خلال هذه الفتنة الهوجاء وما تلاها من أحداث وحرب، ومن هنا جاء هذا العنوان الذي يوهم بعدد السنوات وليس هو كذلك ولا حتى قريبًا منه. وحين وقفت على هذا العدد انبثقت في الذهن فكرة قد تكون مطبقة، أو منشورة بيد أني لم اطلع عليها، ومن المؤكد أنها خطرت لآخرين فليست بالعجب العجاب، والشيء الذي لا أشك به أنها سنّة معمول بها لدى كثير من الدول والأعراق والأمم، وما أكثر ما نسمع ونقرأ عن “اللوبي” اليهودي، والهندي، والإيراني، والأرمني، في أمريكا.
أما مختصر هذه الفكرة فهو أن يصبح لدينا من الناس أشخاص بأعيانهم جاهزين لمخاطبة شعوب ودول وحضارات، دون أن يكون لهم بالضرورة صفة رسمية، أو تمثيل يُخشى من عواقبه ولوازمه؛ لكنهم رواد لا يكذبون قومهم، ولا يضرونهم، ولا يجلبون لهم ما يشين، ولا يكون منهم جناية كجناية براقش على أهلها. ويصدق على هؤلاء الرهط والعصبة والجماعة أنهم قوة ناعمة، ومن أراد المزيد عن هذه القوة فليرجع لما كتبه كثيرًا د.سعود كاتب عنها، ولا ينبئك مثل خبير، علمًا أنه لا علاقة للنعومة هنا بالمرأة كما فهم بعض هواة الطيران بالعجة!
إذ تعمل هذه القوة الناعمة لتحقيق مصالح البلاد بلا مصادمة، ودون مخاشنة، وبعيدًا عن الصلابة والمناكفة، فهم لدى الآخرين أشبه ما يكونون بقوة ضغط “لوبي” مجيرة لصالح بلادهم الأصلية، والخصيصة الأهم في هذه الفكرة أن وجودهم، واستخدامهم، دائم مستمر، قد يزيد حينًا، وينقص أحيانًا، لكنهم ليسوا حالًا طارئة تبدأ فجأة، وتنتهي فجأة، والأصل ألّا يدركها موات أو فوات حتى لو لجأت إلى الكمون لأسباب وجيهة، أو تجاوزتها الإجراءات لمقتضيات وغايات.
ثمّ إن هذه الفكرة تقتضي إيراد مقترح بأن تنشأ إدارة خاصة تُعنى بتلك القوة الناعمة، ويمكن أن ترتبط بوزارة من وزارات القوة الناعمة مثل الثقافة، أو الإعلام، أو الخارجية، أو الشؤون الإسلامية، وتنتفع من وزارات ذات أذرعة مثل التجارة، والصناعة، والطاقة، والتعليم، والحج، والرياضة، والسياحة، وكم هي الفرص المتوافرة لدى كل وزارة تقريبًا للمشاركة في مثل هذا المشروع الوطني المهم والمفيد، والحاجة له قائمة متضاعفة، وآثاره عظيمة بمثلها لا يُستهان.
ومن طبائع أدوات القوة –والأدوات عامة– أن تكون متنوعة في الشكل، والطريقة، ومدى التأثير، وحجم الأثر، وطريقة الاستعمال وسهولته، ومدة الصلاحية، وأسباب الخلل، وكيفية المعالجة، وسبل التطوير والتعاقب بين الأجيال، واحتمالات الخطر، والقيمة المادية والمعنوية، وهذه نواحٍ لا تغيب عن حكمة القائمين على مثل هذا العمل الجليل الذي يُراد منه النفع الهادئ المتدرج طويل النفس بعيد الأثر، مع الحرص على ألّا تواجهه مقاومة مستعصية.
كما سيكون من البصيرة استكتاب البقية الباقية من مجموعة التسعين السالف خبرها، أو الحديث معهم في حوارات مباشرة، ففيهم علماء ووزراء وكتّاب وسفراء وإعلاميون، والهدف تقييم التجربة بصراحة، ومعرفة العوائق، وسبل التحسين الممكنة، ودراسة ردود فعل البلاد التي حلّوا بها للتوضيح وقشع الغمامة الحاجبة للحقائق أو المشوهة للوقائع، وإنه لمن العراقة المتوارثة، والحنكة المتبعة، حفظ الجهود، ومراكمة الخبرات، ونقل المهمة من سلف لخلف بسلاسة ويسر، وآمل أن تجد هذه الفكرة من يقول أنا لها قبل أن يغيب الشهود وقد شاخوا!
علمًا أن هؤلاء “السفراء” المراد تحديدهم لهذا الشأن ليسوا من الأشخاص الطبيعيين فقط، فيمكن أن يكونوا من الأشخاص المعنويين كذلك. وهم ليسوا حالة لحظية أو مؤقتة، وإنما استثمار متوالٍ ينبني بعضه على بعض كما تفعل الأموال التي تدار بذكاء ويصحبها التوفيق من ربنا الرزاق، وهذا يعني ألّا نكتفي بحدث عابر أو نجاح واحد ولو كان موسم الحج على سموه وعلو قدره، ولا على ما هو دونه من أحداث ومواقف، وعدم الاكتفاء لا يحول طبعًا دون الإفادة مما كان، وإنما غاية ما هنالك الاستمرار بلا انقطاع.
ومن التبصر والرشاد أن يسود التنوع في أولئك القوم؛ فمنهم ذو صفة رسمية ومنهم من لا صفة له، وفيهم العلماء وأئمة الحرمين، ولا تخلو القائمة من رجال أعمال، ونشطاء في الشأن العام، وأصحاب علائق مع المجتمعات المستهدفة سواء بسكن أو تجارة أو نسب. ويستفاد في هذا الباب ممن عمل في السفارات والمنظمات الدولية، أو شارك في مفاوضات أو لقاءات، ومن الطبيعي ألّا تخلو هذه الوفود من كتّاب ومثقفين وأصحاب مهارات ومواهب واهتمامات وإجادة لغات تعجب من يقدمون عليهم، وإن اختيار الرسل والمبعوثين لمفصل يحتاج إلى بعد نظر؛ فحامل الرسالة أهمّ من مضمونها أحيانًا.
كذلك فمن ضمن القوائم التي تفيد في هذا الجانب الطلبة الدارسون في الخارج ببعثة طويلة أو قصيرة، ومن يقيمون في بعض البلاد إقامة شبه دائمة أو يتكرر سفرهم إليها من المواطنين، ومنها الشركات المتعاملة مع الدول الأخرى استيراداً أو تصديرًا أو توظيفًا أو استثمارًا، ويدخل فيها بطريق غير مباشر من يقيم في ديارنا من الوافدين للعمل، أو الدراسة، أو الاستثمار، أو يستضافون إلى مؤتمر أو محفل، فربّ لقاء مكاشفة واحد يجعل من الخصم العاقل نصيرًا أو عاذرًا.
أرجو ألّا يستعجل أحد فيحكم بانتفاء الحاجة لمثل هذا العمل؛ بحجة كثرة وجود القوى المعنوية والمادية لدينا بحمد الله، فمع وجودها لا مناص من مثل أولئك الرسل الذين يعملون في كل وقت، وينشطون حين يدع الداع، ويصعب وأد أعمالهم من قبل المتربصين، هذا غير أن مضاعفة القوة ومراكمتها مطلب وجيه، واستثمار شيء أساسه موجود، وقد لا يكلّف كثيرًا، ونتائجه عالية باقية، يُعدّ من الفرص القمينة بأن يُفطن لها؛ فتهتبل ولا تهمل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الخميس 11 من شهرِ ذي الحجة عام 1444
29 من شهر يونيو عام 2023م