الحج: الموسم المعلّم!
حقيق بالمسلم أن يخر لربه ومولاه ساجدًا حامدًا شاكرًا أن جعله من أهل هذا الدين الرباني، الخاتم، المهيمن، الذي لا يأتي الباطل إلى مصادره الأصلية من أيّ جهة مهما حاول المحرفون والمخرفون السائرون على نهج أشياخهم المهرطقين من أتباع الملل الأخرى. وحري بالمسلم أن يفخر بما تصبغه به عقيدته وشريعته من آثار مباشرة وغير مباشرة، مادية ومعنوية، فردية وجماعية، والموفق من استشعرها وحمد المولى عليها، أو آمن بوجودها ولو لم يدركها جملة أو تفصيلًا.
وبما أننا في أيام عشر ذي الحجة التي هي أفضل أيام السنة على الإطلاق، وفي أشهر الحج الميمون الذي تهفو له الأفئدة؛ فهذه بعض اللفتات العجلى التي يحسن أن نعيها من بركات هذا الموسم العظيم علينا، ونتعلمها ونستمسك بها، وهي:
الركن أولًا:
الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة يقدمه العباد على مصالحهم وأهوائهم، ويسعون لأدائه مبكرين متى توافرت فيهم شروطه، وهاهنا إشارة مهمة تستقر في وعي المسلم لتقديم الأولويات، وتعظيم أركان دينه، وثقافته، ومجتمعه، وأسره، وكم في رعاية الأركان وإحاطتها بالتوقير من عراقة وفطنة وتوافق وأمان!
التدبير من أجل الهدف:
الحج هدف لعباد الله في أصقاع الأرض، ودع عنك اللاهين وسل أيّ مسلم في أصقاع العالم عن أمنيته وهدفه، فلربما تذهل من إجابة كثير منهم بأن أمنيته الأهم هي الحج بل والموت في أرض الحرين الشريفين؛ حتى يصلى عليه في أحد المسجدين ويدفن قريبًا من منازل النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام والصحابة العدول رضي الله عنهم. وإن هذا الهدف ليعلّم أصحابه فنون التدبير الشخصي والمالي من أجل بلوغه، وكم سمعنا من القصص الملهمة في هذا الباب، فذلكم الشوق هو الذي حمل أهله على التلبية المعنوية ولو لم يكن واحدهم بين الجموع المزدحمة ملبيًا.
المرجعية العليا:
منذ أن ينوي المسلم الحج إلى أن يفرغ منه، وهو حريص على متابعة المناسك كما وردت في القرآن والسنة، وكم فيها من السعة والخيارات في مسائل، وفيها تحديد وحصر في مسائل أخرى؛ ولكأن أهل الموسم يقولون بلسان الحال وهو لسان شاهد ومشهود: نحن مسلمون، ومرجعيتنا العليا هي قال الله وقال الرسول!
الاستثمار فنّ:
أيام العشر وموسم الحج فرصة استثمارية كبرى، وهي كذلك من ناحية تعبدية للفرد بالتوبة والاستزادة من صالح العمل، وفيها فرص للأفراد والشركات والدول، وكل بحسبه، وما أكثر البركات الاقتصادية بسبب الموسم لكل مستثمر بصير حتى في عالم الجزارة والحلاقة والدباغة، وفوق ذلك فهو قوة ناعمة للدول كما يعبر عنه حديثًا.
التوفيق من الله:
مع سهولة الاستثمار بهذا الموسم الكبير ولو في ذكر الله باللسان مع حضور القلب، إلّا أن بعض الناس يحرم منه، وهو دليل على أن الهمة التعبدية خائرة لدى هذا الصنف؛ فما الذي يتعبهم من أوراد وتلاوات وأذكار؟! كما أن ذلك يوقفنا على أن التأله والتعبّد توفيق من الله لعباده يستأهل مزيد التذلل والطاعة لله أن خصّ به العبّاد يوم أن حرم آخرون أنفسهم منه، والله يستعملنا في مراضيه؛ فإن الاستعمال قد يدلّ على المحبة.
التفوق على المشقة:
من الطبيعي أن يترافق مع العمل -أيًا كان- شيء من المشقة التي يمكن تحملها والصبر عليها، وكلما أقبلت الروح على شيء تيسر وسهل؛ فلم يثقِل ذلكم الشأن على وقت، ولم يتعب الجسد، وإن ملاحظة المنهمكين فيما يحبونه لتؤكد هذا المعنى؛ فبعضهم يؤدي عملًا يحبه مدة طويلة متواصلة بلا عوارض أو كلل، ويعجز دقائق معدودة عن عمل آخر يتماثل مع عمله المحبوب في بعض صور النشاط، ويدب إليه الملل بصورة غريبة.
نضج المسؤولية:
أنت مسؤول عن نفسك متى أصبحت ذا أهلية شرعية ونظامية، وهذه المسؤولية ظاهرة في هذه الشعائر، فأضحيتك لك ولمن تختاره معك، وما يترتب على الأضحية يكون في حقك دون سواك. ثمّ إن أي محظور تقع فيه أثناء الحج فعليك التبعة، وواجب التوبة والفدية المقررة شرعًا، وإن تحمّل المسؤولية لطريق إلى النضج، ودليل عليه، وسبيل إلى تحصيل مستوى رفيع من الكمال.
أمة واحدة:
يعيش المسلمون في دول شتى؛ ولكل دولة وشعب مواسم ومناسبات تخصهم؛ بيد أن هذه الأيام المباركة وموسمها الأعظم قاسم مشترك بين المسلمين أينما كانوا، ومهما تفرقت الأم المحمدية لأسباب بلدانية أو سياسية أو لغوية؛ فإن موسم الحج وموسم شهر رمضان مواسم ثابتة تعيد جمع الشمل، ولمّ الشتات، وترتيب المتبعثر، تمامًا كما تفعل هذه المواسم الكريمة في البيوت والعوائل والأسر.
جميل الذكرى:
يعيد الموسم للناس ذكريات الماضي الجميل مع الآباء والأمهات وغيرهم، كما يزداد حنين الحجاج لديارهم وأهاليهم بعد مغادرتهم لمكة، وبعد قفولهم إلى بلادهم ترسخ في عقولهم وقلوبهم ذكريات المقام في البلد الحرام، وجوار البيت العتيق، وما شهدوه من أعمال ومنافع، وإنها لذكريات عذبة، ظهر بعضها مكتوبًا، والمستقبل واعد بغيرها، فما أكثر ما يتلذذ المسلم بالحديث عن قصة الحج، وهذه الذكريات وذلكم الحنين مما يدل على الوفاء، وبقاء فطرة الإيمان في النفوس.
عراقة الأصول:
إننا أمرة عريقة بأصولها، وفطرتها، وإيمانها، وتاريخها، وتقويمها، وثقافتها، وهذه المواسم تؤكد لنا أن هذه الأمة ليست طارئة على التاريخ، ولا نتاج ثورة أو حرب، وإنما هم أتباع دين الله المرتضى، ونبيه المجتبى، وكتابه الخالد، وتلك يا قوم عراقة متينة مضيئة باقية لا يخرمها شيء، ولا يقوى على طمس نورها أحد، ولا ينهيها مكر أو بغي، وستظل مصدر النور الحقيقي الذي يخرج به الناس من الظلمات إلى رحاب الإيمان وأنواره.
فلله ربنا وخالقنا ومولانا الحمد والمنة على هذه المواسم التي تأتي في موعدها كل عام، فلسنا أمة بلا مواسم خير ورشد وبهاء. وهي مواسم قادمة على أيّ حال، ويمكن أن يتعايش معها الكافة أيًا كانت أوضاعهم، وتضيف للمسلم ما قد نعلمه لوضوحه، كما تضيف للشخصية المسلمة بعض السمات التي قد لا نبصرها مع زحمة الحياة، لكنها واضحة في حياة جلّ المسلمين، لما فيهم من أصول الإيمان، وقوة الصبر، وطمأنينة الرضا، وسعادة حسن الظن برب العالمين، فتعالى الله ربنا، وتقدست أسماؤه، وله الحمد حتى يرضى وبعد الرضى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 05 من شهرِ ذي الحجة عام 1444
23 من شهر يونيو عام 2023م