لغة وأدب مواسم ومجتمع

الليث الأبيض وسلفر!

الليث الأبيض وسلفر!

النبز بالألقاب سواء للأفراد أو للأسر أو للمجتمعات ليس من الديانة في شيء بل منهي عنه صراحة، وهو ليس من حميد السجايا أو من حسن العهد والعشرة، ومع ذلك فقد ابتلي به أناس من الطبقات كافة سواء أكان المبتلى النابز أم المنبوز، ويمكن أن يكون للمرء نصيب من الصفتين، وهي عقوبة معجلة له والله أعلم. وهاهنا بعض القصص فيها نبز بيد أن أطرافها مجهولون للقراء، وإنما أكتبها للتسرية عن نفسي، ولعله أن يكون فيها فائدة؛  فإن لم يكن فيكفيني منها مجرد السلوى، هذا الأمر الأول.

أما الأمر الثاني ففي الطفولة كانت برامج الرسوم المتحركة من أكثر ما ننتظره، ونتابعه، ونتأثر به، ومنها برامج تكررت كثيرًا، وبعضها اندثر وفيها ما لا يزال معروفًا. ومن حسناتها الالتزام باللغة العربية الفصحى، والحثّ على أخلاق حميدة، ولا تخلو من مفاهيم خاطئة عرضية أو متعمدة لغرسها في نفوس الأطفال، أو خيال جامح. ومن تلك البرامج المشوقة على سبيل المثال: عدنان ولينا، وسنان، والليث الأبيض، والسنافر، وسلفر في جزيرة الكنز وغيرها، وهي أقل سوءًا من ألعاب الأطفال هذه الأيام عبر الأجهزة الإلكترونية بما فيها من عري وقتال وإلحاد، والله العالم ماذا يخفي لنا الذكاء الاصطناعي؟!

فمما أذكره أن فتى عابثًا عمل زميلًا لنا، وكانت تنقصه الجدية وضبط اللسان؛ لذا فعلاقته برئيس الجهاز سيئة جدًا لإهماله وجدية الرئيس الزائدة، حتى ارتفعت أصواتهما مرة فقال الفتى للرئيس: أنا أسكر حتى الثمالة نهاية الأسبوع فلا أذكر أحدًا من الخلق سواك! وعندما سألنا خبراء الخمروبئس الخبرةعن تفسير اعتراف الفتى أجابوا: فرقوا بينهما من فوركم ولا مناص، فقطعًا أن الشر قد استطار في نفس السكران؛ ولذلك جعل الرئيس المسؤولية عن الفتى عندي، فأصبحت مسؤولًا عنه إذا لم ينتهِ أيّ شأن عند رئيسه المباشر، ولم يكن بيني وبينه مشكلة، وربما أنه فرح بهذه الإحالة التي انتهى معها الصراخ والاعترافات!

وكان يراجعني ويجلس معي مالك شركة، مثله مثل غيره، وله لحية بيضاء وافرة معتنى بها، ويلبس ثوبًا أبيض اللون دومًا، ويضع فوق رأسه غترة بيضاء ناصعة، ولولا العقال الأسود فوق رأسه لما ظهر منه شيء غير أبيض، فحتى حاجباه الكثيفان أبيضان! وذات مرة جاء الموظف العابث لمكتبي يبحث عن هذا المستثمر، ولم يسأل عنه باسمه أو باسم شركته، وإنما قال: أين الليث الأبيض؟ فقلت له: نحن لسنا أمام رسوم متحركة، فقال: صحيح؛ لكن فلانًا يشبه الليث الأبيض! ولبرهة تأملت فوجدت أن التشبيه دقيق، ومن حينها لا أكتم البسمة كلما رأيت الرجل، حتى أمرت الموظف ألّا يصف شخصًا آخر أمامي بعد الحرج الذي أدركني كلما رأيتالليث الأبيضفي زياراته الكثيرة آنذاك، ولا أعرف عنه شيئًا الآن، والله يحفظه فهو محب لذيذ الأحدوثة.

ثمّ إني زرت مرة رجلًا عزيزًا فعبر من عندنا أحد جيرانه، فسألته من هذا؟ فقال: لا أعرف ولكني أسميه سلفر! فطلبت منه تفسير هذا اللقب، فأجابني بأن ذلكم الرجل الأشيب المتشبب يخرج في الشارع الواقع أمام منزله للبستنة وسقي الزرع وعلى كتفه ببغاء مثلما يفعلسلفرفي جزيرة الكنز. ويبدو أن الصاحب العزيز ندم على بوحه، وزاد ندمه عندما قلت له: رأيت رفيقكم، وعندما استفهم مني أخبرته أن المُشاهَد هوسلفر؛ فأنا لا أعرف اسمه، وصاحبي لا يعرفه، وإنما أردت التعريف لا التعيير واللمز، وعلى العموم فسلفر رجل شجاع مقدام فخم الصوت، والببغاء طائر منزلي أنيس؛ لكن سلوكه قبيح حينما يقلده بعض البشر!

كما أذكر أن رجلًا كبيرًا في السن سلّم عليّ في مناسبة زواج قبل ربع قرن، وقال: أنا أشكر قريبتكم سنان! فقلت له: ليس لنا قريبة اسمها سنان، فرجع الرجل لبناته عبر الهاتف النقال، وعرف الاسم الصحيح، ثمّ أتى وكرر الشكر به؛ لأنسنانهذه قد ساعدت بناته في الجامعة إبان دراستهن معًا في قاعة واحدة تلك الأيام، ومن نافلة القول أنسنانلا تدري فيما أعلم عن هذه التسمية التي مضت عليها السنون، وإن بلغها الثناء والدعاء.

ورأيت صديقًا معه طفله الرائع؛ فقال لي: بمن يذكرك هذا الطفل خاصة في خصلة شعره المربوطة أعلى رأسه؟ فأجبته من فوري: عبسي! فأقرني على اجتهادي. وأخبرني رجل أن امرأة زارت قريبة لهم في نفاس، فوجدت الزائرة أن الوالدة متضايقة؛ وتوقعت أنه اكتئاب النفاس المعتاد، بيد أنها صرحت لها بأن مصدر كدرها من كون مولودها الأول هذا يشبه شرشبيل“! وشرشبيل شخصية كرتونية مع السنافر دائمة التجهم والكيد، فقالت المرأة للشابة حديثة العهد بالأمومة: الوليد تتغير أشباهه كثيرًا، ولا تستقر غالبًا إلّا بعد مضي أربعين النفاس وربما أزيد، فسري عن المسكينة، وسمعت من يصف رجلًا بأنه الدكتور نعمان وهذا الطبيب شخصية كرتونية من رفاق سنان الكرتوني وليس الحقيقي كما توهم الرجل السالف نبأه.

أما النبز المؤلم ففي الجامعة درس معنا زميل طوال ضخم، ويسميه رفاقه الناقة حتى أنهم إذا نادوه بهذا اللقب أجابهم بلا تردد، ولم يقبل الزملاء الكف عن تلكم التسمية القبيحة بحجة أن صاحبها يعرفها ويهضمها! وتكرر اسم الناقة معي عندما حضر سائق آسيوي لكفيله الذي يناديه آمرًا وناهيًا بالناقة! فسألته أهو اسمه؟ فقال: لا، لكن اسمه صعب وأقرب نطق لاسمه هو الناقة، وهو وصف يتوافق مع طبيعة عمله في النقل! ولم يعجبني التصرف خاصة أن المنبوز به لا يفهمه، وإن كان التعليل طريفًا، ويسعهم البحث في واسع اللغة عن اسم أقرب لاسمه الحقيقي، وأحسن معنى.

وأحيانًا يوقع النبز في ورطة كما روي عن مهندس شاب طُلب منه زيارة منزل كبير، ومقابلة مالكه لمعرفة الاصلاحات المطلوبة منه. وفي كل مرة يحضر المهندس بحماسة للدار القوراء الفسيحة، فلا يجد الرجل المهيب حتى بكنيته المخيفة، وفي المرة الثالثة أو الرابعة أقبل على المهندس المنتظِر بحنق رجل وسأله ماذا تريد؟ فقال: جئت عدة مرات لتسجيل الترميم المطلوب وإعداد تقرير فني عنه دون فائدة؛ لأني لم أقابل فلانًا، وسماه بكنيته الشعبية التي قد لا يرضى بها، وإن كان لها دلالة على القوة والبأس والنفوذ.

فتبسم الرجل ابتسامة وقورة، وقال للمهندس الشاب بعد أن أخذ بيده: سأخبرك عن كل شيء يُراد إصلاحه بالتفصيل، فقال له المهندس فرحًا مستبشرًا: حقًا! وأنت تعرفها؟ فقال له: نعم فأنا هو فلان وذكر تحديدًا الكنية التي تفيض شرًا وتُطلق عليه! فأسقط في يد الشاب ولم تحمله أقدامه، لولا تزايد حنان الرجل الذي لم يكتف بإنجاز المهمة للمهندس، وإنما نفحه بمكافأة مالية مجزية، وذلك من تسخير الرحمن الرحيم.

ولا يخفى أن التسمية بكلمة أو ببيت شعر أمر دارج جدًا عند العرب الأوَل، وفي الموروث الشعبي، وحتى لدى الشعوب، وأذكر أني اشتريت مرة كتابًا فيه حصر لأسماء الشعراء الذين نالوا اسمًا بسبب شعرهم وكلامهم، ورأيت على قارعة رصيف بالقاهرة كتابًا يستعرض أساليب نبز المصريين الظرفاء لساستهم، وقرأت مرة أن الغرب تعارفوا فيما بينهم على تلقيب شاه إيران عندما اقترب أفول ملكه بالخازوق، مع كثرة خدماته المقدمة لهم.

وقد يكره بعضهم ذلكم التمييز والنبز، وهو كره طبعي مفهوم، ثمّ يحمده في ساعة لم يحسب حسابها، كما حدث للأشتر النخعي الذي سعد بكنيته البغيضة عنده؛ لأن الناس لا يعرفون أن اسمه مالكًا؛ فحينما نادى عبدالله بن الزبير رجالًا من جيشه طالبًا منهم قتل مالك الواقع بإحكام تحت يديه، لم يأبه أحد لذلكم الطلب من الصحابي الشجاع ابن الزبير، ولو أنه قال اقتلوا الأشتر لتسابقت اليه سيوف ورماح تشتهي الخلاص منه.

إن هذه الحكايات وأمثالها كثيرة، والسرد فيها لا يقف، والأسماء بعضها غريبة لافتة مثل الدباجة و الزرافة وسير المذعور و طخطيخ وغيرها؛ بل أذكر أني زرت بلدة صغيرة، وحضر في مجلس مضيفنا أطفال مميزون، والأطفال يحسنون التعبير الواضح التلقائي عن مجتمعهم وبيوتهم وطرائق تربيتهم، والمهم أنه مع كل إنسان يرد اسمه في ذلكم المجلس ورودًا ليس فيه غيبة وإنما لمقتضى ضروري، يبادر الأطفال بذكر اللقب المنبوز به، حتى قلت في نفسي إبان مغادرة ذلكم المكان: يا ترى بعد الخروج من هذا الموضع ماذا سيخلعون علينا من ألقاب؟ أو أيّ شيء سوف ننبز به؟!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين 08 من شهرِ شوال عام 1444

18 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. اتعب وأنا أقول أبهج الله روحك..
    هذه المقالة الخفيفة اللطيفة، والتي رغم أنها تحمل في طياتها رسالة جادة وهادفه إلا أن الكاتب ابدع في وضعها في قالب فُكاهي مميز،
    منذ الأمس وحتى قبل دقايق معدودة، كان صدري يضيق من موقف، سؤ فهم حصل بيني وبين الشخص الأقرب والأحب في قلبي، لكن هذه المقالة أصلحت العطب بيننا لشدة ما رسمت الابتسامة في روحي اشعر بأنها سكبت السرور والأنس في داخلي، بل كدت استلقي على ظهري لشدة ما ابهجتني، ثم استعدت كل تلك الألقاب التي نخلعها على الآخرين ليس لأننا نلمزهم بل هي مواقف تُصنع بتلك اللحظة بلا سبب ولا سابق تحضير وربما دون قصد، منذ الصغر كنت في تأثر شديد لقصص الحيوانات و قرأة الكتب التي ترتبط بالفراسة وتحليلها وربط الصفات الإنسانية ببعض الدلائل في صفات الحيوان، مثل الشجاعة الضعف الحماسة الذكاء الفطنة البلاهة، حتى أنني أصبحت مرجعًا لمجموعتي في رسم خارطة الصفات، متجنبين الغيبة الصريحة، مُلمحين الى جوانب تبدو حقيقية ومشتركة مع شبيهه من عالم الحيوان أكثر من كونها ألقاب التنابز!
    قد يسقط الإنسان على الآخرين شخصيات كرتونية او اسماء والقاب وصفات للوهلة الأولى تبدو صحيحة ومترابطة، لكن أغرب ما يمكن لموقف أن يذكر في هذا المقام،هو أن يسقط المرء على نفسه صفات وألقاب لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الآخرين وربما تفقده قيمته او وقاره، مثل ما حدث مع رجل وامرأة من محيط أعرفه جيدًا، كانت تلك الزوجة البائسة كثيرة التندر على الآخرين وهمزهم ولمزهم وحتى نفسها كذلك لم تسلم!
    وفي يوم من الأيام المشؤومة، بعد أن انهت جلسة مساج علاجية في الظهر، لم تتمالك نفسها لتصف لزوجها وصف عجيب فقالت له: من شدة حرارة الزيت المستخدم كأن ظهري جلد ماعز اذا سلخوه في يوم عيد!
    صمت زوجها وابتسم، الا أن ابتسامته لم تطول مضى ثلاثة أشهر ولم ينتصف رابعها وإذ به يعلن زواجه من امرأة أخرى!
    فلما استوضحت منه الخبر! قال لم استطع أن اقترب منك، كلما اقتربت اذ بي اتخيلك ذبيحة معلقة سلخوا جلدها، اشمئزت نفسي من وصفك الدقيق واسقاط هذا التشبيه المقزز عليك.. فلم يُمحى من عقلي كلما رأيتك..وما أسهل نفور النفس!
    المشكلة.. أنها لم تكتفي بل ذهبت تخبر الجميع سبب زواج زوجها التافه،اعتقادًا أن الكل سوف يتعاطف معها، إلى أن ذات يوم قالت أحد قريباتها في محفل مهيب وبصوت يخلو من الذوق حين رأت تلك المسكينة: حيّ الله ذبيحة العيد!
    لذا الحذر من السقوط في مزالق التندر و كما ذكرت كاتبنا الرائع “النبز بالألقاب سواء للأفراد أو للأسر أو للمجتمعات ليس من الديانة في شيء بل منهي عنه صراحة، وهو ليس من حميد السجايا أو من حسن العهد والعشرة..”
    لله درك، مقالتك بديعه رشيقة وخفيفة، أضحكتني لشدة واقعيتها، بالمناسبة الشخص الذي بعث المقالة وكنت على خلاف محبة بيني وبينه، صاحب حسّ عالي من خفّة النفس والفُكاهة لكنه لا يستوضحها إلا فيما ندر، لذلك شكرًا كاتبنا المتميز كانت هذه المقالة رسول رضا بيني وبينه!
    وبسبب هذه المقالة، سوف اكتب مقالة عن شخصية كرتونية لها أثر عميق في نفسي لاحقًا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)