قراءة وكتابة

ليلة اختفاء العلامة الزرقاء!

ليلة اختفاء العلامة الزرقاء!

اختفت ليلة عيد الفطر المبارك العلامة الزرقاء من حسابي -وحسابات أخرى كثيرة وبعضها رسمية- على منصة تويتر؛ لأني لم أشترك فيها بمبلغ شهري يسير منفردًا، كثير مجتمعًا، وفي الحالين لا أجد له مسوغًا، مع تفهمي بأن هذا الرأي فردي، ولغيري رأيه الذي يناسبه، ولا أنكر أني كنت قبل فرض الرسوم أحثُّ النافعين والنافعات من المغردين على تحصيلها؛ لأنها لا تخلو من فائدة وإن لم تكن حصرية، أو تنعدم بدونها.

حصلت على هذه العلامة قديمًا بعد تقديم طلب لم ينتظر طويلًا، لأنهم قدّروا ارتباطي بالكتابة عبر مدونتي، ورئاستي لتحرير بعض الصحف الإلكترونية والمجلات آنذاك، وهذا كان أحد أهم شروطهم للحصول على الإشارة الزرقاء أمام اسم الحساب والمعرّف بتويتر. وقد نشطت فيما بعد حسابات تدعي قدرتها على منح العلامة الزرقاء بمقابل مالي مرة واحدة؛ وسمعت من غير واحد أنه نالها بهذه الطريقة المكلفة، والله يعوضهم.

وفي الحالين يجب عليّ وعلى أيّ كاتب ملاحظة أن النصّ يجب تقليبه قبل اعتماده، وفحصه قبل إرساله، فلعمركم إن إعادة الكتابة ألذّ من الكتابة نفسها، وإعادة الكتابة تعلّم صاحبها -على مشقتها في البدايات- فنّ التجويد والتحرير وإعادة الصياغة. أما بعد استقرار النص على واجهة المنصة، ومقابلة عيون القارئين أو القراء؛ فقد ذهبت الفرصة للتصحيح أو التعديل إلّا بالحذف، مع أن خدمة التعديل على التغريدة سوف تتاح فيما فهمت، أو أنها متاحة لفئة، مع التنبيه إلى أنها معدلة، وأيًا يكن؛ فالتروي والأناة من ضرورات الكتابة والحديث، حتى تكون النتيجة نافعة آمنة.

كما أنه لا محيد للقراء عن التدقيق قبل الاعتماد؛ فالتوثيق لا يعني حتمية التصديق، والعلامة الزرقاء ليست مئنة على النقاء، وما أحسن القراءة والمجتمع القارئ، بيد أنه حُسنٌ يكتمل بهاؤه، وتتعاظم ثماره، إذا كانت القراءة على بصيرة سابقة، ومع حكمة مترافقة، خلاصتها معرفة الأصول، والتمسك بالجذور، وفحص المكتوب بناء على الصحيح من المنقول والصريح من المعقول، ويلي ذلك العمل؛ فقد هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلّا ارتحل كما قال أسلافنا.

فلا مناص من الارتقاء بوعينا حتى لا يكون الكلام قابلًا للتصديق التام به لمجرد أنه ورد في صحيفة أو إذاعة أو شاشة فيما مضى، أو جاء من حساب موثق بعلامة زرقاء أو غيرها من العلامات كما في أيامنا هذه، ولكل قاعدة استثناء، والعلامة التوثيقية لها فوائد جليلة، ولا تخلو من إشكالات. وما أعظم ارتفاع القدرات الذهنية والمعرفية لدينا؛ حتى تكون حصنًا حاجزًا دون كثير من البهتان، وحائلًا يمنع أيّ زيغ وزلل وزغل، ويسدّ المنافذ على أيّ تسربات ضارة، ويزيل أيّ رواسب ملوثة.

وفي الرسوم على العلامة الزرقاء وغيرها إشارة إلى الذكاء الاستثماري، وكيف يمكن استجلاب الأموال واستحلاب الجيوب التي ربما تجعل المنصة مكتفية ماليًا، وقيمة الإعلانات وغيرها مكسب إضافي، وربح بيِّن، وإن التجارة لفنٌّ ولود لأصحابه مثل أيّ مهارة أو شأن؛ فمن أكثر من شيء فُتح عليه فيه غالبًا، وهي فرصة للتركيز، والبحث عن الفرص، فكم ترك الأول للآخر، والعاجز كل العجز من وهم أن الدنيا ضاقت، والكوى أغلقت، والفرص ذابت؛ وليست الطريق على التحقيق هنالك! ولا محالة من الإشارة هنا إلى أن اللغة باب واسع للمكاسب المادية؛ فهل تقوم المنصات الكبرى والشركات التقنية العملاقة إلّا على اللغة؟!

وربما تكون هذه الرسوم الجديدة سبب هلكة للمنصة، واندثارها من العالم الرقمي، ويكون هذا فيما لو تدافعت الحسابات الكبرى والمؤثرة في هجرة جماعية أو متعاقبة، خاصة لو برزت منصة أخرى منافسة بلا رسوم، وأصبحت هي الموئل المرتجى، والمحج المقصود للحسابات الكبيرة، وإنها لفرصة تقنية استثمارية يحتاج لجرأة وصبر وجودة تدبير وحسن تسويق، وما يدريكم فهلاك النملة يستعجل إليها إذا نبت لها جناحان.

وفي خبر العلامة الزرقاء التي ترمي لزيادة الثقة في الأخبار ونسبتها، على ما فيها من مخاوف ادعاء وتزوير وإساءة واختراق، ما يجعلنا ننظر بإكبار وتقدير لعلماء الحديث والإسناد والرجال الذين ضبطوا لنا طرق الرواية والسند لأحاديث الرسول الأعظم علية الصلاة والسلام، ثم لغيرها من المرويات التاريخية والأدبية واللغوية والبلدانية؛ وهو الضبط الاحتسابي الدقيق الوثيق الذي لا يقوى عليه “ماسك” ولو استمسك وتماسك ومسك بألف إنسان مثله، وإن الإسناد لمن مفاخر الأمة المحمدية، ومثله علوم الرجال والجرح والتعديل وأصول الفقه ومصطلح الحديث والعروض والتجويد والمعاجم والقائمة تطول، وحين استأخرنا عن ديننا تأخرت عنا كثير من الخيرات والبركات.

ماذا بعد؟ هل أنا حزين على ذهاب العلامة الزرقاء؟! لم أحزن بمعنى الحزن المعروف ولا حتى بربع عشر العشر منه، فقد ذهبت الزرقاء بلا حزن ولا رثاء؛ لأنها لم تضف لي شيئًا كثيرًا؛ فما أكتبه قبلها ومعها وبعدها هو هو لن يتغير إلّا فيما أظنه أصوب وآنق وأكمل، على أنها لو بقيت لما كرهت لأنه مهما اجتهد الكاتب في بلوغ الصواب فلابد من بقاء عدد غير قليل سيقول قائلهم: ولو! دعك منه فهو خليٌّ من الزرقاء! أو ولو! فكاتب هذا الرأي أو الخبر حسابه موثق! وهذا الرأي هو غاية ما لدي الآن، وفوق كل ذي علم عليم، وليس فيه نكير على من استبقى العلامة ودفع المال؛ فكل إنسان بنفسه أدرى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 04 من شهرِ شوال عام 1444

24 من شهر إبريل عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. مقالة فيها ثقافة واسعة، واطلاع مبهر، ودقة تحليل للحدث بشكل مختلف وآسر، راق لي التشبيه جدا بل لفته تستحق التأمل في حديثك عن الضبط الاحتسابي الدقيق الوثيق الذي لا يقوى عليه “ماسك”ولو استمسك وتماسك ومسك بألف إنسان مثله!
    رائع جدًا..
    والأروع هذا التشبيه البديع” وما يدريكم فهلاك النملة يستعجل إليها إذا نبت لها جناحان.”
    سلم مداد قلمك.. تُبهرنا فيما تكتب دائمًا وأبدًا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)