تعلمت من ماما نوير!
بعد أن ألفت كتابًا عن والدها فضيلة الشيخ محمد العجلان، تكمل المؤلفة د.أمل بنت محمد العجلان مسيرة البر بالأبوين وبالمجتمع بإصدار جديد عنوانه: تعلمت من ماما نوير رحمها الله (دروس.. وقيم.. وأمثال). وجاءت طبعته الأولى عن دار الهدى بالرياض عام (1444=2023م)، وتقع في (311) صفحة مكونة من تعريف بعنوان من هي، ويلي التعريف ستون قسمًا مكسورة على حروف الهجاء حسب ترتيبها، مع اختلاف أنصبة الحروف؛ فمنها ما فيه سبع قصص سمان، بينما اكتفى بعضها بقصة واحدة ثرية، إلى أن يصل القارئ إلى ختام الكتاب، وفيه للمؤلفة أربع كلمات بالدعاء للأموات، والشكر للأحياء، والإعذار بالاجتهاد، وقبول المقترحات من القراء.
يروي هذا الكتاب سيرة عملية حقيقية غير متكلفة، بل هي من فضل الله وتوفيقه، ثمّ من آثار الديانة القويمة، والتربية المستقيمة، والخبرة الحياتية القائمة على التجارب والأحداث. أما صاحبة السيرة التي يُترجم لها فهي العمة الراحلة نوير بنت حمد بن محمد العساف (1363-1439)، وهي حفيدة الأمير عبدالله ابن عساف أمير عيون الجواء التاريخي لمدة أربعين عامًا متوالية تقريبًا، وصاحب الذكر الحسن، والسيرة العبقة له ولأسرته العريقة، وبهذا الكتاب تصبح المؤلفة د.أمل العجلان أول من ألّف كتابين عن أبويه من بين جميع المؤلفين والمؤلفات من أهل الجواء فيما أعلم.
وهي سيرة امتزجت فيها الفعال الحسنة الباهرة، مع الأقوال الرشيدة النضرة؛ فغدت حكمة محكية يصح تداولها، ويحسن نشرها كاملة أو منجمة، ولذلك أحسنت المؤلفة ببثها عبر مواقع التواصل، حتى صحّ منها العزم على جمعها في مؤلف يضم أشتاتها، بناء على مقترح متابعات وقارئات؛ فلم تتوان عن إجابة الطلب، وأغنت المادة بالشرح والتوضيح والاستشهاد؛ ليعظم أجرها وأجر والدتها وأجر من اقترح تأليف الكتاب وأعان عليه، خاصة بناتها الثلاث الغالية والغراء والغيثاء بنات عبدالله الغفيلي، أحسن المولى لهن الغاية والغنم، وفي حكاية الكتاب ملمح بمثله يقتدى؛ فيا قوم اكتبوا عن فضائل راحليكم، ومجتمعكم، ليبقى الخير فينا، وليستمر الأجر لهم.
لأجل هذا سيجد القارئ والقارئة -على وجه الخصوص- في هذه السيرة العملية المصورة لنا ببيان قريب المتناول، واضح الدلالة، جلي الغاية، عذب السياق بلا تزويق ولا تنميق يخرج به عن المراد، ما يفيده في تربية النفس، وأطرها على الحق، وإصلاح الأبناء والبنات وكمال العناية بهم من كل ناحية. وأكثر من يستفيد منه الأمهات لأنها خبرة امرأة، وأم، وزوجة ذات جارات بلا جور ولا إحن، وإنما جوار بمعناه الحسن الجميل الباسق، الذي على مثله أوصى الجناب الكريم عليه الصلاة والسلام.
كما أن فيه الكثير من شؤون وفنون التعامل الحصيف مع الزوج، والتعامل الحكيم مع الزوج المعدد، وهو تعامل راق يحول دون الغصص، وليس معه شجون تهمل منها الشؤون، ولا أحزان تجلب للحياة المناكد بلا موجب! وقد حوى كتابنا من أخبار العشرة الطيبة بين الزوجين حتى قبل مغادرة الزوجة الحياة الدنيا بيوم واحد فقط؛ إذ توصي أم خالد زوجها وابن عمتها “شمعة” على عينيه، وأن يذهب مع السائق ولا يقود السيارة بنفسه، فيسمعها قرينها الشيخ أبو خالد كلمات التقدير والمحبة والتعاذر قبل فراقها الدنيا.
وينبني على هذا الإيراد الصريح لفتات مهمة في عيش المرأة مع جاراتها وأبنائهن، والجارة هي الضرة وزوجة الزوج، وتسمية الجارة شائعة في نجد، وقد أجادت أم خالد التعاطي مع هذه النازلة فأكرمت زوجات زوجها الثلاث بحجة أننا نحن من طرق عليهن الباب، وهنّ عزيزات كريمات في بيوت أهلهن، فما أعقلها وأنبلها، والله يرحم المتوفاة منهن، ويحفظ الباقيات. ومن طريف ما أذكره أن صديقًا من الحجاز الشريف مرض فرقد في المستشفى مع رجل نجدي مسن، وقد وجد هذا المسنُّ أنسه بكلام الشاب المثقف؛ لكنه يتضايق إذا اتصل بالشاب أهله من جدة، وأطالوا الحديث معه، ويقول له: هذا الجهاز جارةٍ لي! ولم يفهم الفتى المعنى حتى شرحناه له.
كذلك من عبر الكتاب شيء من العيش مع القرآن والطاعات، والاعتزاز بالدين، ورحمة الضعفاء، وجبر الخواطر، والقيام بواجب الوقت والمكان والحال، وهي بصيرة تغيب عن كثير من الناس، إضافة إلى منهج التوجيه التربوي المباشر وغير المباشر، وهو التوجيه الذي يجعل من المرء على نفسه خصيمًا، وكفى بالإنسان حسيبًا لنفسه إن صدق معها وحاسبها دون محاملة، ولو فعل لما وقع في خطأ، ولو استأخر عن الكلمة المسيئة وجعل رقبته مثل رقبة زرافة طويلة كما تنصح صاحبة الترجمة، فلن يكون منه عمل مشين، ولا يصدر منه شيء عن مثله يعتذر.
ومما في الكتاب أيضًا فرح بالبنات بلا ضجر، وتحذير من السرف، وحثٌّ على الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وزينتها، وإجادة لفن المزاح دون أن يكون فيه لقاح الضغائن، أو أسباب القطيعة، مع النهي عن التذمر، والقلق من شيء قد لا يأتي، ومن الخوض فيما لا يعني، والتلّطف مع الصغار حتى قالت إحداهن: ماما نوير هي سندريلا! ومنها التجمل للزوج، والتغاضي عن هفوات الآخرين مالم تكن في شأن ديني، وغيرها من الفضائل التي يرشد الكتاب إليها، أو المناهي التي يزجر عنها، ومع كل واحدة قصة تحفظ، وكلمة لا تنسى، وإضافات من المؤلفة تزيد المعنى رسوخًا وتأكيدًا.
فيا أيتها الأم والزوجة والبنت على وجه الخصوص؛ هذه مائدة منشورة بين أيديكم وأمام نواظركم، وفيها ما لذّ طعمه بتفنن، وطاب مذاقه الأخاذ، ولفت منظره البهيج، وفاح شذاه الزكي، فاجعلوا لكم من خيراته نصيبًا مفروضًا، وأعيدوا زيارته بين فينة وأختها، ثمّ حدثوا به أو ببعضه الآباء والأزواج والإخوة، ولا تنسوا الراحلة من دعوة بالجنان الباردة والمنازل الرفيعة، ومثلها للمؤلفة ووالدها وشقيقتها أسماء وشقيقها أحمد، ولراقمه ولوالديه، ولكل من يقرأ ويدعو مثل ما دعى به، وفضل الله عظيم كبير لا حدّ له.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الجمعة أول أيام عيد الفطر المبارك عام 1444
21 من شهر إبريل عام 2023م
2 Comments
بورك قلمك، ولا وهن فكرك.
لله درك دكتورنا الفاضل.
كم سألت الله وما زلت أن يفك عقدة قلمي.
وعلى جدار هذه المدونة النافعة الماتعة أسألك وكل من يقرأ تعليقي أن يخصني بدعاء بظهر الغيب.
كم أنا سعيدة بان تعرفت إلى مدونتكم، وكم أنا حزينة لتعذر وصول هكذا كتب إلى بلدي.
لا حرمنا الله علمك وأدبك دكتورنا الفاضل.
وفقكم الله د.آمنة، وفتح لكم. توكلي على الله وانطلقي.