عام

إبليس في مواسمنا وشعائرنا!

إبليس في مواسمنا وشعائرنا!

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ومن ذريته وأعوانه، وأعيذكم ومن يقرأ ولو بعد حين منهم أبد الدهر. وإنه لضعيف الكيد، مفضوح المكر، وعداوته ظاهرة، والعجب كل العجب من بني آدم كيف يثقون به، ويطيعونه، وقد أخرج أبويهم من الجنة، وحرم نسلهما من متعة العيش فيها خالدين أبدًا. وإذا غابت هذه المعاني عن جلّ بني أبينا الشيخ الكبير آدم عليه السلام؛ فكيف نفهم غيابها عن أهل الإسلام والقرآن والسنة، وهم الذين جاء إليهم الخبر القطعي ثبوتًا ودلالة بعداوته، وكذبه، وبتخليه عمن يطيعه في أحرج وقت، والله يقينا ويعفو عنا.

هذا العدو المبين له مسالك وأعمال ومصائر في مواسمنا، وعند شعائرنا، وهي أحوال معروفة بيد أن التذكير بها مطلب، وجمع جزء من خبره في موضع واحد يجلّي الصورة، حتى نعرف مبلغ العداوة، وكيف نغيظه، وتستبين لنا سبيل المجرمين، وسمات وكلائه من البشر، الذين يتقاطعون معه في الغيظ، والحنق، والمكر، وطرائق العمل، والله يبطل كيدهم، ويردهم على أعقابهم خائبين، إن لم يكتب لهم الهداية والتوبة في الدنيا، باستثناء كبيرهم المنظَر بناء على طلبه إلى ساعة مسماة في يوم أهوال مروعة، يلقى بعدها إلى قعر جهنم.

فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتفق عليه: “إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِين”، وعند النسائي : “وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ”. والمردة جمع مارد، وهو المتجرد للشر. ومفهوم الحديث يخبرنا أن تأثير الشياطين لا يختفي تماماً، بل يضعف أثرهم في رمضان، فلا يقدرون فيه على ما يقدرون عليه في غيره، ولا يخلصون إلى مواضع بلغوها في سواه من أيام وشهور.

وقيل إن مكرهم يذوي مع الصائم الذي يحافظ على شروط الصيام وآدابه كما نقل معناه الإمام القرطبي، وعليه يُفهم أن المراد أن الشياطين تُغل عن الصائمين المعظمين لصيامهم، والقائمين به على وجه الكمال، والمحققين لشروطه ولوازمه، والسائرين على وفاق آدابه وأخلاقه، أما من صام بطنه ولم تصم جوارحه، ولم يهتد بآداب الصيام ويسترشد بمعانيه ويقتبس من حكمه، فليس ذلك بأهل لتصفيد الشياطين عنه، والله يعيذنا من التفريط، ولربما أن هذا من أسباب حرص شياطين الإنس على إفساد صيام الناس وقطع طريق التعبد الصائب عليهم، لفتح الباب لإخوانهم من الجن، وحرمان بني آدم من فرصة سنوية لمحو الخطايا.

وورد في “فتح الباري” قول فحواه أن المقصود هو تقليل الشرور في رمضان، وأيلولة جملة أسبابها إلى النفوس الخبيثة والعادات القبيحة. ومما سيق من شروح للحديث أن الشياطين لا تخلص في رمضان لِما كانت تخلص إليه في غيره؛ فتضعف قواها، وتقل وسوستها، لكنها لا تنتهي كلية. ومن مفهوم الحديث أن طائفة من الشياطين تصفد فتبقى طائفة أخرى توسوس لأنها طليقة، وقيل هم صغارهم، وقيل بل كبارهم، وعلى أيّ توجيه لصنف المصفد والطليق؛ فعددهم في رمضان أقل، ونشاطهم في الإغواء والإضلال أضعف.

ومن لطيف الشروح والتخريجات أن الصيام يستلزم الجوع، وبالتالي ينتج عنه ضعف في العروق التي هي مجاري للشيطان داخل أبدان البشر، فتضيق الدروب على الشياطين، وبناء على هذا تنحصر مساحات مرورهم في أنحاء الجسم، حتى لكأنهم مسلسلون مصفَّدون، لا يستطيعون حراكًا إلّا بعسر وصعوبة، فلا يبقى للشيطان على الإنسان سلطان كما في أحوال الشبع والري، وهذا تنبيه يجعل الحصيف يحذر من التخمة وإدامة الشبع؛ للظفر بصحة في جسده،  وسلامة في دينه، ولأغلاق المنافذ والثغرات أمام العدو المتربص.

ولربما أن عذابات إبليس وشياطينه بمختلف فئاتهم تتضاعف في شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن الكريم، وكان نزوله في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن يوفق للعمل حينها بالصالحات فإنه يراكم الأذى والحنق على الشياطين، الذين يتضايقون من التلاوة والذكر واجتماع المصلين في رمضان وفي عشره الأواخر وليلة القدر، وتصيبهم الكآبة من كثرة نزول الملائكة وعلى رأسهم جبريل عليهم السلام جميعًا؛ فتضيق على إبليس ورفاقه الأرض والأجواء، وكانت من قبل ميادين فسيحة لعبثهم وخطلهم وإجلابهم، وسعيهم للتسلط على العباد.

أما في موسم الحج الميمون بلغناه الرب القدير وإياكم على خير وطاعة، ويسّر لنا ولكم موافاة المشاعر المقدسة؛ فقد ثبت أن أشد يوم على الشيطان هو يوم عرفة، ففي موطأ الإمام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ. قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ”.

فمن هذا الحديث الشريف نعلم يقينًا أن الشيطان يضمحل ويتصاغر حقيرًا في يوم عرفة، ثاني أعظم أيام السنة، وهو يوم ركن الحج الأكثر أهمية، والسبب أنه يرى تنزل رحمة الرب الرحمن على العباد، وتجاوز الغفور الودود عن الذنوب والآثام، وهي حسرة تحرق جوف الشيطان وجنده على خيبة تدبيرهم، واندثار آثار مشروعاتهم، وزوال أثرها في ذلكم الموقف المعمور بالتوبة والتأله والأوبة، وهو موضع قصدته الجموع دون التفات للمشقة، ودفع المال، وفراق الأوطان والأهل والمصالح؛ وإنها لحسرة أخرى على نفس الرجيم وآله وأشياعه.

كما أنها حسرة تنخر نفس إبليس على رحمة الرب الكريم بعباده الذين يعاديهم الشيطان عداء كاملًا لا مجال فيه لشفقة أو رحمة، وهي حسرة إضافية أن نال العباد من مولاهم ما حرم منه الشيطان بكبره وغطرسته، وحسرة عظمى حين يتجلّى الكبير المتعال مشهِدًا ملائكته الذين يعرفهم إبليس على المغفرة لأهل الجمع المشهود، وتليها حسرة أخرى ترد على نفس الشيطان وهو يعلم علم اليقين أن نفوس المسلمين في كل مكان تتعرض لنفحات خالقهم بصيام عرفة، والاستعداد ليوم النحر ونهر الدم الحلال، والتوبة من الإله قريبة منهم حينذاك، ومن الحسرة الشيطانية استمرار الطاعات، وتعاقب مواسم الخير؛ حتى لكأنه خانس الدهر كله، ولم ينجح في بعث وسوسة، أو دس شبهة، أو إيقاد شهوة، وربما تضاعفت أحزانه في يوم نزلت فيه آية “اليوم أكملت لكم دينكم”.

كذلك يطلعنا الحديث النبوي على أن الشيطان كان أصغر وأحقر في يوم بدر، وهو يوم الفرقان الكبير، وما أثقل الجهاد وبذل الأرواح لله على الشيطان وحزبه. وما أغيظ انتصار المؤمنين وعلوهم، وما أشد وقع ارتفاع رايات الحق على الشياطين، فهي أكثر إيلامًا من شفرة الحسام المهند لو مزقت أجسادهم؛ فاللهم زد في حقارتهم، واندحارهم، وضاعف من حزنهم بنصر بلادك وعبادك وأوليائك، حتى يكون الحق ظاهرًا منتصرًا عاليًا، والشياطين كافة في سفول وأفول، ولهم خمول وذبول عن الكيد والتحزين، وعن الإرجاف والتخذيل.

ثمّ نقرأ عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه أنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “إِذا نُودِي بالصَّلاةِ، أَدْبرَ الشيْطَانُ ولهُ ضُرَاطٌ حتَّى لاَ يسْمع التَّأْذِينَ، فَإِذا قُضِيَ النِّداءُ أَقْبَل، حتَّى إِذا ثُوِّبَ للصَّلاةِ أَدْبَر، حَتَّى إِذا قُضِيَ التَّثْويِبُ أَقْبلَ، حَتَّى يخْطِر بَيْنَ المرْءِ ونَفْسِهِ يقُولُ: اذْكُرْ كَذا، واذكُرْ كذا لمَا لَمْ يكن يذْكُرْ منْ قَبْلُ حَتَّى يظَلَّ الرَّجُلُ مَا يدرَي كَمْ صلَّى”، متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا الحديث الصحيح يطلعنا على أثر الآذان والإقامة على الشيطان وجنوده وأوليائه والمخذولين بالمسير خلف رايته المنهزمة.

وهي آثار متفرعة عن نتائج الذكر عليهم، فاللهم ارفع بالمنائر صوت الآذان دومًا، وادم بالمحاريب صوت الإقامة بلا انقطاع، حتى يخنس الشيطان ويخزى، هو وكل من يتوافق مع شعوره، ويتنغص بهذا الصوت الجميل والنداء الخالد. ومن لطيف الفوائد أن التأذين يجلب السكينة والطمأنينة خاصة في الخلوة التي هي مظنة الخوف، وإذا وقع النزاع بين قوم فقد يكون الآذان سببًا للهدوء كما روي ونقلته ممن عاينه بنفسه، وهو سنّة نبوية في أذن المولود ليبتعد عنه الشيطان، ويسمع الوليد كلمة التوحيد في أول مقدمه للدنيا.

وللشيطان الرجيم مع الصلاة شأن لافت؛ إذ يحاول غمس النائم بلذيذ الرقاد كي لا يستيقظ لصلاة الفجر خاصة، ويوهمه بطول الليل حتى لا ينهض ويهجر دفء الفراش ولذيذ الكرى بجوار خريدة أو بدون، فإن أطاعه فيا لحسرة من فاتته الصلاة وبال الشيطان في أذنيه. وعند الوضوء يسعى الشيطان لإفساد الطهارة بالوسوسة التي توقع المبتلى بها في ضيق وعذاب عافاهم الله منه.

ليس هذا فقط؛ فبعد الوضوء يوهم الشيطان العبد بأن وضوءه منتقض بأكثر من طريقة تدل على أن الشيطان مستعد لأيّ فعل قبيح كي يزعجنا ويقطعنا عن الطاعات، ومن سلم من هذه الحيل والأحابيل، فلا يظننّ أن الجولة قد انتهت لصالحه؛ إذ أن الشيطان لا يكلّ ولا يملّ، ولا يستحي فيتراجع أو يمتنع؛ ولذلك يأتي في الصلاة ملهيًا ومشتتًا ومذكرًا بالدنيا وبما نساه المصلي من شؤون، ويذهب به في وديان الحياة؛ ليضيع أجر الصلاة عليه كله أو بعضه، فلا ينال ثوابها كاملًا، ولا يعقل منها إلّا القليل، وإذا كان هذا العدو لا يترك الإنسان حتى في لحظة النزع ومفارقة الحياة أو حين الميلاد؛ فهل سيدعه فيما بينهما، ويكف عن محاولات خطفه وتخطفه؟!

لذلك اشتكى عثمان بن أبي العاص الثقفي الصحابي الجليل إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله، إن الشيطان لبس علي صلاتي، فقال: “ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست بذلك، فتعوذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وانفث عن يسارك ثلاثًا ففعل فعافاه الله من شره”، فالتعوذ بالله من الشيطان والصدق في ذلك من أسباب السلامة كما يقول الإمام ابن باز لمن سأله، ويضيف: ولو أنك في الصلاة إذا أشغلك تنفث عن يسارك ثلاث مرات وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تكررها ثلاثًا؛ فسوف يزول عنك -إن شاء الله-.

هذا شيء من خبر إبليس الذي ورَد ذِكره بالقرآن الكريم في إحدى عشرة آية، وشيء من سلوك الشيطان الذي جاءت الإشارة إليه مفردًا وجمعًا في ثمانٍ وثمانين آية من الكتاب العزيز. ويرجع معنى إبليس على القول بعربيته إلى الإبلاس وهو الانقطاع من الحق فليس معه حجة، ولمحمود أبو سعدة قول في كتابه الماتع “من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن” خلاصته أن معنى إبليس من الامتناع والتأبي، وهي كلمة جاءت من مزج كلمتي ( أبٌ + ليس)؛ فهو نعوذ بالله منه أبو ليس!

ويعود أصل كلمة الشيطان إلى معاني التمرد والابتعاد عن الحق، وربما شاط فاحترق من الغيظ، وأيًا يكن فما أعظم تحذير ربنا لنا بقوله جلّ وعز: “إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ”، [المائدة: 91]. وما أيسر طرد الشيطان وهزيمته، وذلك بالمحافظة على أذكار طرفي النهار، وعند النوم وبقية الأحوال، ويكفي أن كلمة “بسم الله” تطرده من المكان، وتخيفه ولو كانت معه جيوش من ذريته وقومه؛ فدومًا قل: بسم الله مع أيّ حركة أو فعل وإن كان يسيرًا؛ فإن قول بسم الله سهل ميسور غير مكلف ولا متعب، وبه النجاة والحرز والحفظ، وبسم الله علينا وعليكم جميعًا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 07 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444

29 من شهر مارس عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)