عليك سلام الله يا أمي!
في يوم الأربعاء الموافق للخامس من شهر رمضان المنصرم عام (1443)، غادرت الدنيا أهم امرأة في حياتي بلا منازع، وطويت صفحة من الذكريات والأحداث، وأغلق باب من أبواب التوفيق والرحمات، ومع ذلك فقد بقي من ذلكم الخيال الباسق، والطيف الألق، والذكرى الحبيبة، أبواب وأبواب، وبقيت حكايات لن تمحوها الأيام وإن تعاقبت كرّة إثر كرّة، ولن تنسيها الليالي ولو حفلت بالمسرات تلو المسرات؛ فاللهم اغفر لأمي، وارفع مقامها لديك، ووالدي، ووالديهم، وكلّ مسلم ومسلمة.
ولقد قال أخي: أحضرت لوالدتي صندوقًا من الكمأة –الفقع– وكانت أحجام الواحدة منها كبيرة فوق المألوف، فقالت لي: ضع حبة واحدة منها أمامي قبل أن تذهب للتنظيف والتقطيع، ففعل مطيعًا إذ شيمة الأحرار البر والطاعة بالمعروف. ثمّ قالت له –بما معناه-: أردت أن أتأمل حجمها الكبير، وأحمد الله على هذا الخير الذي هطل من السماء، فكان من نتاجه كمأة بهذا القدر، وبعدها الربيع المنتظر الذي يجئ طلقًا مختالًا معه الأنس والسعادة للدار والدَّيار؛ فاللهم كما سعدت بالخير للبلاد والعباد دون أن يكون لها مصلحة خاصة في الغيث والمرابع، فاسعدها وقد جاءت إليك وحيدة منفردة ترجو رحمتك وجودك.
وقالت أختي: اتصلت امرأة بأمي، وشرعت تشكو لها بعض نسائها وحفيداتها، فقالت لها الوالدة حتى تجعلها تكف عن الشكوى والتذمر بلطف –ما معناه-: يا أم فلان! تريدين الحقّ! الله يصلحنا ويصلح لنا! كلّ أحد منّا نحن النساء فيه حقه من الخير والشر–والرجال طبعًا-. وإن الأرفق لك، والأجدر بك أن تكوني الكبيرة دومًا، المتغاضية كثيرًا، والساعية للصلح فهو خير، وهو أنفع لصحتك، وأدعى لراحة بالك. فاللهم كما اجتهدت في النصح والإصلاح ورتق الفجوة، أسألك أن تصلح لها شأنها في برزخها؛ حتى تكون أشدّ فرحًا من العروس في يوم جلوتها.
ثمّ قال أخي: خرجت من عند الوالدة لتصحيح أوراق امتحانات الطلاب في الجامعة، فلما عرفت غرضي من الذهاب قالت لي –بما معناه-: أي بني! إن أولئك الطلبة قد يحصل منهم تقصير في التحصيل، أو سوء في التقدير بقول أو فعل، أو نقص في العناية والتفاعل، فقبل أن تنتصر منهم لنفسك ومنهجك الدراسي، تذكر أن خلفهم أبًا ينتظر تخرجهم، وأمًا تستعد للفرح بنجاحهم، فلا تكن سببًا في تحزين الوالدين ما وسعك لذلك سبيل ونظام! فاللهم كما حرصت على مشاعر أقوام لا تعرفهم ولا يعرفونها، وأوصت نجلها الأكاديمي بالرفق والرحمة بهم وهم عنها غرباء أباعد، فارحمها وارفق بها.
كما قال أخي: ذهبت بالوالدة إلى المستشفى في مرضها الأخير، ثمّ رجعت بها إلى منزلها، والأحاديث بيني وبينها تتوارد في سجال لطيف، إذ أن الحديث مع الكبار فيه بر، وتطييب خاطر، ومنح مزيد من التقدير والأهمية لكلامهم وآرائهم. وكان مما قالته: إني قد حرصت منذ زمن، وزاد حرصي بعد أن ألمّ بي المرض، وحرصها هذا كان على ألّا تغمض لها في الليل عيون أو تغفو دون أن تعفو عن كل من حولها أو لها به علاقة، وما فعلت إلّا رجاء العفو من الرب الرحيم، وخشية أن تجيب داعي الله حال نومها دون صدور هذه المسامحة منها؛ فاللهم عاملها بالمثل، فأنت العفو الغفور.
أما فيما لي؛ فقد كانت الوالدة غفر الله لها تخصني بالكتب التي تأتي لمنزلها، وما فعلت إلّا لحسن ظنها بأني قد أنفع بهاتيك المؤلفات وما فيها، هذا غير أني سأفرح بالكتاب المهدى، وكم من مرة ومرة أبدت رأيًا فيما أكتبه موافقة أو معترضة، وغايتها البحث عن الصواب، والبعد عن مواطن الارتياب، ونفع الخلق من أقرب باب، مع البعد عما قد يكون مجلبة لسوء الفهم حتى من ذوي الألباب؛ فاللهم صنها في وحدتها، ونوّر عليها مرقدها، حتى لا يدركها فيه وحشة ولا مخافة.
وبعد؛ فإنهم يقولون: قهوة أمي، وخبز أمي، ورائحة أمي، في كلمات متقنة موجعة، ولعمركِ –لو كنت تسمعين– إن الدنيا بأسرها دون أمي لظلام موحش، وسعادة منقوصة، وفرح لا يتم، وألم يتجدد، ودمع في الخفاء يهمل ولا يجف، ولم لا يكون وبين الجوانح نفس لا تَرْقأ لها الدّهرَ دمعةٌ، ولها بين أطباقِ الضّلوعِ نشيجُ، كما يقول الشريف المرتضى، فما أكثر ما ضج الحنين من الحنين لأمي، حتى يتلو ذلكم الضجيج طوفان من الأنين على ذكريات السنين، ولولا الحرص على السنّة، والحذر من البدعة، لبحت لها عند جدثها بشيء من مكنوني حينما زرت قبرها بالأمس القريب، جاد عليه المولى الرؤوف بالضياء والحبور والبراد.
هذا وإن شهر رمضان الذي نحن فيه، هو أول شهر يدخل علينا وأمي ليست من عداد الأحياء، وإن كان دخوله في العام الماضي متوافقًا مع إغمائها الأخير السابق على الوفاة، بيد أنها كانت موجودة على أيّ حال، وأصدقكم القول إنه دخول تفرح به النفوس تعبدًا لله على حلول الموسم الميمون وما فيه من طاعات وقربات وتوبة وأوبة، لكنه كان صعبًا على القلب أن تحلّ عليّ هذه الأيام لأول مرة دون أن أبادر مباركًا للوالدة، ولو كانت مباركة لجسد مسجى ينتظر ساعته المحتومة.
ثمّ يا أمي: بعد تذراف الدموع والدعاء لك بالرحمة والرضوان والمنازل العالية:
عليكِ سلامُ الله يا أميَ التي بكتكِ رجالٌ والنساءُ العواطفُ
رحلتِ وفي صدري أزيزُ مراجلٍ وبركانُ أوجاعٍ من البيْنِ جارفُ
بكتك عيون الشعر بالوجد ذرة رحلت وعرق البين في القلب نازفُ
فقدت حنانًا لا يحدُّ وطيبة وجلُّ حنان الناس ذا اليوم زائفُ
رحلتِ فَحَلَّ الحزنُ بالبيتِ غِرةً وفَجَّعنا ريحٌ من الخطبِ قاصفُ
رحلت وفي الأعماق حر لواعج ينوء بحمل الوصف للوجد واصفُ
رحلتِ فظلَ الحزن بعدك سامراً وارقنّي جَفنٌ عن النومِ عازفُ
رحلتِ وفي الإحسان منكِ شواهدٌ وفزتِ بسبقٍ لم يَنَلهُ الخوالفُ
رحلتِ وطاعاتُ الرّحيمِ شفيعةٌ ستشهد يوماً حين تطوى الصحائفُ
رحلتِ وقد أرسيْتِ بيْتاً وأسرةً وفي كنفِ الأعوامِ غُرٌ سوالفُ
رحلتِ وقد أذْكيتِ فينا كرامةً وقلبكِ في وجهِ المذلةِ واكِفُ
رحلتِ وعندَ اللهِ عفوٌ وجنةٌ وروْحٌ وريحانٌ بها الظَّلُ وارِفُ
غيورةُ أخلاقٍ إلى الدينِ تنتمي عزيزٌ عليها أنْ تحَّلَ السفاسفُ
سليلةُ أحرارٍ على هديِّ أحمدٍ ونورٌ لأنْجالٍ على الطودِ نائفُ
لقد عشتِ عمراً بالفضائلِ زاخراً فلله عمرٌ بالمكارمِ زاحفُ
لقد رحلت أمي فمن ذا يعيرني وهل تستعار الأمهات اللطائفُ
ألا جبرَ اللهُ المصابَ فإنه أليمٌ فما يبْرى وفي الصدرِ راجفُ
أما والذي أبكى وأضحك عِبرةً فلا القولُ يوفيها ولا الفعلُ ناصفُ
وحسبي أنْ سطرتُ بالشعرِ أدمعاً وكلُّ قصيدٍ في رثا الأمِ راصفُ
ألا ليْتَ شِعري هل أبيتَّنَ ليلةً وأطيافُها وسطَ المنامِ ترادفُ
ليطفئ شوقًا لا يطاق ولوعةً ولكن بعض الحلم بالنوم حائفُ
جزاكِ إلهُ الكونِ بالخلدِ منزلاً به سندسٌ خضرٌ وفيه الرفارفُ
على أملٍ باللهِ أنّا سنلتقي على سررِ الفردوسِ فالله رائفُ
سنذكرُ وعداً من مليكٍ مهيمنٍ بجنةِ عدنٍ حين يهتفُ هاتفُ
سلام عليكم فادخلوها برحمةٍ ويمتازُ في جناتِ عدنٍ تعارفُ
ألا ربِّي فاغفر لي قصوراً جهِلتهُ وأيَّ عقوقٍ دونَ قصدٍ يقارفُ
عليك سلام الله ما قام قائم وما صام صوام وسبح عاكف
وما وطئوا جمعًا وخيفًا ومشعرًا وما حج حجاجٌ وكبر طائفُ
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
ليلة الاثنين الخامس من شهرِ رمضان المبارك عام 1444
27 من شهر مارس عام 2023م
20 Comments
اللهم اغفر لها وارحمها واسكنها الفردوس الاعلى من الجنه واجمعنا واياها والدينا ووالديكم جميعا والمؤمنين والمؤمنات في جنات النعيم
اللهم اغفر لها وأرحمها ووالداياوجميع المسلمين والمسلمات
مقال جميل
الله يغفر لها ويرحمها ويجعل الفردوس مستقر لها
💔💔💔💔💔💔💔💔💔😭😭😭
الله يغفر لها ويرحمها
الله يرحمها ويغفر لها يارب
مرت سَنه ياأحمد مافارق البال له في حنايا الروح روحه وجيّـه.
تجمدت الساعة بطريقة لن تنسى .. سكتت تكاتها عند 1 الصباح ..
هنا توقف الوقت … توقفت النبضات .. بهذا التوقيت تحطمت الآمال .. تبعثرت الذكريات مع أصحابها
في هذا اليوم لم يكن أبداً صباح الخير ..هذا اليوم كان معتماً كظلام الليل …
سيبقى أبد الدهر معتماً ..
٥ / ٩ /١٤٤٣ … انتهى الكلام ..😔😔
رحمك الله ياأمي 🙏
أسأل الله أن يرحم والدتك ويغفر لها.
رحمها الله وغفر لها وجعل الجنة مثواها، الله يحفظ أمهات كل المسلمين و يجعلهم قدوة لهم.
اللهم اغفر لها وارحمها وارفع درجتها
وأحسن العاقبة في ذريتها وذويها
ذكرتني بوالدتي رحمهما الله ورفع منازلهما
آمين يارب
تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال اخي العزيز الفاضل وقدوم مبارك لشهر كريم
قرأت مدونتك عن والدتك رحمها الله، ويعلم الله انها مؤثرة الهمكم الله الصبر والسلوان واعظم لها ولكم الاجر، ونقلها الى دار خير من دارها..
مما قرات في مدونتك عن والدتك مانصه: (هذا وإن شهر رمضان الذي نحن هو فيه، هو أول شهر يدخل علينا وأمي ليست من عداد الأحياء، وإن كان دخوله في العام الماضي متوافقًا مع إغمائها الأخير السابق على الوفاة، بيد أنها كانت موجودة على أيّ حال..)
فما بالك بامي فرمضان هذا نصومه الان هو خامس رمضان بدونها🥹
الحمدلله على كل حال، والبر من الوجه الآخر قد بدأ لولدتكم وهو الدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء ..
ثم الوقف بصدقة جارية
مع استمرار الدعاء واشراك والديك بكل اجر عمل تعمله من التطوع
والله اعلى وأجلّ وأعلم.
غفر الله لها و جعلها في عليين وجعلك الله بارا بها بعد موتها برا يعلي منزلتها ويؤنسها يارب.
اللهم اغفر لها وارحمها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة اللهم أنس وحشتهاوارحم غربتها وأنر ظلمتها وآمن روعتها
اللهم أبدلها دار خيراً من دارها وأهلاً خيراً من أهلها اللهم ارحم موتانا وأموات المسلمين جميعاً
رحمها الله وأسكنها الفردوس
هؤلاء برحمة الله ولطفه لاخوف عليهم ولا هم يحزنون
قدَّموا الحب والحنان وعلَّموا وقدَّموا أسلوب حياة بفطرة سليمه
رسَّخوا في قلوبنا وعقولنا الإيمان بالله وألأمانه والصدق في القول والعمل
انشطرت ذاتي إلى نصفين! وتشقق الهواء الذي اتنفسه، ليس منذ الأمس فقط بل الأمس الأبعد وهذه الذكرى لا تغيب عن بالي؛ انها تجترح صدري بعمق، و اتألم بدموع تذوي لأي شخص يتجرع مرارة الفقد، سأروي خبرًا لعل به يسكن فؤاد أحدٍ من ذويها محمومٌ قلبه لفقدها، لذا دعني استعيد ذكرى ذاك الحلم الذي رأيته في رمضان الماضي حين وفاة والدتك، إني أذكره بشدة كأن بي اليوم أراه، وحتى لا تأخذ الرؤيا تفاصيل لا ينبغي أن تكتب، لكن موجز نبأها؛ أنها-غفر الله لها-كانت بين زمرة من العلماء -ابن عثيمين، ابن باز وثالث لم يُعرّف إليّ ولكن قيل في الرؤيا أنه أعلمهم؛ أي أعلم أيضًا من الشيخين، احسن الله لها متكأ في الجنة، وكان أحد ابناءها بالجوار يئن حزنًا ووجعًا، لم يقرّ لي بال، حتى ألهمني الله بتأويلها عند ثقات، بتفاصيل للحلم لم تذكر أيضًا هنا، ثم قال لي بعد أن طفق من شدة الفرح، بشرى عاجل المؤمن هي الرُّؤْيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى لَهُ فهي بُشراهُ في الحياة الدُّنْيا وبُشراهُ في الآخرة الجنة؛ هنئيا هذه الرؤيا التي كلها خير وبشرى خير، واليسر الذي لازم تلك الفاضلة في حياتها وبعد مماتها، كذلك شدة البر في ابناءها دليل إخلاص وقبول ورضا، ثم أوصاني وكأنه يتعلق بتلابيب صالح الدعوات وبركة رؤيتي لهذه المرأة الفاضلة، قال: دعوات فياضة مستجابة، وبركة عظيمة، أرجو من الله أن تغمروني بدعواتكم ما أبقى الله لكم نفس!
منذ تلك الرؤيا تعلقت روحي بفضائلها، غفر الله لها وجعلها في مستقر رحمته..
رحمها الله وغفر لها وجمعكم بها في الفردوس الأعلى ، اللهم اكتبها من اللذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب 🤲🏻 ووالدينا ،، تقبل الله منا ومنكم ابا مالك 🌹
توفيت أمي قبل كدة، رحمها والله ورحم والدتكم وجميع موتى المسلمين، وكان مما احتجته هو قراءة تجارب لأناس مرّوا بتجربة الفقد، ودونوا ما وجدوه وما تعلموه، عدتُ لجميع ما تفضلتم بكتابته عن فقيدتكم الغالية، قرأته مرارًا وتكرارًا .. جزيتم وبوركتم. والحمدلله على كل حال
أحسن الله عزاكم و عظم أجركم ، ورحم الله الفقيدة رحمة واسعة وغفر لها وجعل منزلها الجنة ..
و أنزل السكينة والصبر والسلوان عليكم ..آمين
والعزاء موصول لجميع افراد الأسرة الكريمة .
والحمد لله على قضاءة
اللهم آمين
رحم الله الوالدة وجعل مثواها جنة الفردوس ، وبارك الله فيك من ابن بار ، يقتدى به
آمين وجزاكم الله خيرا وتقبل منكم