عبدالمحسن وحصة في سير العقيلات
كان والدي رحمه الله ورضي عنه من أسرة تجارية لها مع العقيلات مشاركات وتاريخ، بينما كانت الوالدة غفر الله لها ورضي عنها من أسرة زراعية لها نخيل وآبار. ومن طريف ما أذكره أن الوالدة تمازح أبي بخصوص إجازة الموظفين الأسبوعية، وهو يجيبها بأنه حر في الذهاب والإياب والحركة، وتلك ميزة يفقدها أرباب الوظائف. وحين تشير أمي إلى أحواض النخيل قائلة بأن الجلوس فيها أو تحت النخلة يوسع الصدر ويشرح الخاطر، يؤكد والدي رأيها؛ بيد أنه يردف معلّقًا عليه بأن أمكم تحب الزراعة والفلاحة بالوراثة! ومن اللطيف أني وقعت على غير مثال لاقتران عبدالمحسن وحصة بالزواج، وربما أفرد لهذا الأمر مقالًا في المستقبل.
وفيما مضى بحثت عن اسم عبدالمحسن في كتاب علماء نجد للبسام، وفي كتاب الأعلام للزركلي وملحقاته، وكم كنت سعيدًا حينما وجدت في فهارس الكتاب الثالث هذين الاسمين الغاليين عبدالمحسن وحصة، وهو كتاب موسوعي عنوانه: العقيلات مآثر الآباء والأجداد على ظهور الإبل والجياد، تأليف: عبدالّلطيف بن صالح بن محمّد الوهيبي، وقد صدرت الطّبعة الأولى من هذا الكتاب الضّخم عام (1438=2017م)، وتتكوّن هذه الموسوعة من ستّة أجزاء، فالأوّل منها دراسة تاريخيّة، وأمّا الأجزاء من الثّاني حتى الخامس فتراجم لأسر العقيلات مرتبة أبجديًا، وأنفرد السّادس بكشّاف يحوي العديد من الفهارس، ويبلغ عدد صفحات هذا العمل المتميز (2406) صفحات، ومن الموافقات أن هذا الكتاب أهدي لي من الوالدة الحبيبة رحمها الله.
ورد في الكتاب ثمانية رجال يحملون اسم عبدالمحسن إضافة إلى اثنين من الرواة، وجاء فيه أربعة نساء اسمهن حصة، وسوف أقف مع هذه الشخصيات باختصار، ومن شاء التوسع فدونه الكتاب بأجزائه. وأبدأ بجدّ الوالد عبدالمحسن بن عبدالعزيز العبدالمحسن العساف (1260-1342)، وقد ولد في عيون الجواء بالقصيم، وتوفي في قرية ضمير السورية في أحداث اجتمع فيها النهب مع الغدر والقتل وعند الله تجتمع الخصوم، والله ينزل إليه رحماته، وينور عليه قبره، ويتقبل منه جلائل الأعمال.
ومما يروى عنه أنه خرج من نجد وعمره خمسة عشر عامًا مع بعض أعمامه ضمن قوافل العقيلات، فما رجع للقصيم إلّا وهو على مشارف الأربعين، بيد أنه حينها صاحب ثراء واسع، فتزوج خمسًا من النساء فيما نعلم من العساف، والعقيل، والرباح، والسنتلي، والسابق الفوزان، ولم يبق من ذريته الكثيرة على قيد الحياة بسبب الأمراض ووفيات الأطفال سوى الجدّ سعود (1326-1400)، وأخته الأكبر العمة والخالة منيرة التي ظلّت وحيدة أبيها زمنًا حتى أُطلق عليها لقب “لذة العبدالمحسن” (توفيت عام 1393).
وبسبب الثراء العريض للجد عبدالمحسن، وما وهب من سمات شخصية، صارت له علاقات واسعة في شبه الجزيرة العربية، وفي البلاد التي تاجر فيها العقيلات خاصة بالشام والعراق، وله قصص مع الملك عبدالعزيز ونجله الأكبر الأمير تركي رحم الله الجميع. ومن لطيف ما سمعته أن لون بشرة الجد بيضاء فيها حمرة خفيفة، وهي غير معهودة عن أهل وسط شبه الجزيرة العربية، ولذا كان سكان الشام يتعجبون إذا عرفوا أنه من أبناء الصحراء، وقد ورث جدي سعود هذا اللون الجميل عن أبيه؛ حتى قال عنه رجل نجدي حينما شاهده أول مرة: كأنه من أهل الشام!
ومن سيرة الجد الشيخ عبدالمحسن أن بلغت رعاياه من الإبل خمس رعايا، والرعية تتكون في الغالب من إبل مئة وناقة واحدة، وحملت قوافله عددًا من الناس إلى العراق والشام، ومما نقله لنا جدي سعود أنه وجد رجلًا من أهل الرس في الشام وقال له: لقد جئت شابًا صغيرًا مع قوافل والدك. ويبدو أن مقره الشامي كان مضافة لأهل نجد وغيرهم من المنقطعين، لكنه يرفض استضافة أيّ مشبوه مغموز بعمل مشين. وقد كان معروفًا في تلك الديار؛ حتى أن أهل قرية ضمير الذين خبروا أفضاله وجربوا حسن خصاله، شاركوا مشاركة لافتة في تجهيزه للصلاة والدفن عقب وفاته.
كما جاء في الكتاب المعلَمة شيء من خبر الوالد عبدالمحسن بن سعود العبدالمحسن العساف (1351-1413) الذي شارك مع والده مبكرًا في قوافل العقيلات، تاركًا حلْقة الدرس في عيون الجواء لدى شيخها ابن سايح. وروى بعض أقرانه أنهم كان يسمعون من أهاليهم عن “عبدالمحسن” الذي يماثلونه في السن؛ فلما شاهدوه بعد سنوات آنسوا فيه من النضج والخبرة والرشد ما جعلهم لا يصدقون أنه في مثل أعمارهم! وبسبب هذه المشاركة صار للوالد بصر بالمواضع، وأمراء المنازل من آل جلوي والسدارى، ومعرفة بالقبائل وشيوخها، وإلمام بشيء من أخبار رجالات العقيلات الكبار. وقد عاصرت الوالد وغالب أضيافه ومجالسه مع أشياخ في سنّ والده. ومن التوافق اللافت فيما يخص آبائي عبدالمحسن، وسعود، وعبدالمحسن -المعدّد منهم والموحد- أن كل واحد منهم اقترن بزوجة واحدة أو أكثر اسمها حصة، رحمة الله على الجميع.
وليس في الكتاب كثير مرويات عمّن يحملون هذا الاسم الفخم بسبب ضعف التوثيق والحفظ، وفيما نشر بركة؛ فمنهم العقيلي عبدالمحسن السلوم الذي رافق شريكه من أسرة الوزان حضرًا وسفرًا، وفي طريق عودتهم وقبل وصولهم إلى الوشم سمعوا صوتًا يتنقل بين جهتين متقابلتين؛ فذهب كل واحد منهم في اتجاه إلى أن أخبرهم أحد البادية أن هذا الصوت لواحد من الجن المستوطنين في المكان نفسه، وهوايته تضييع الرفقاء عن بعضهم! وقد افتتح ابن سلوم دكانًا مع شريكه الوزان في الزبير، وكان يجلس فيه، بينما يسافر شريكه للمتاجرة وجلب البضائع.
كذلك منهم العقيلي عبدالمحسن المطوع (1305-1394) الذي حدّر للكويت من بريدة، لكنه ذهب لغيرها من البلدان؛ فمن مزايا أهل القصيم أن خطوتهم بعيدة، ولذلك عرفتهم ديار قريبة وبعيدة في الخليج والشام والعراق ومصر والهند، ووصلوا إلى الأرجنتين وأمريكا. ويأتي بعده العقيلي عبدالمحسن الغميز (1305-1380) الذي سافر من بريدة إلى الكويت أولًا بيد أنه واصل المسيرة نحو الشام والعراق؛ فلم تكن همة عقيل واقفة عند حدود بحر الكويت.
كما ورد في الكتاب اسم العقيلي عبدالمحسن بن سعد الطويان (1285-1349)، وقد حدّر للكويت والشام، وشارك مع الملك عبدالعزيز في غزواته، وله عدة أولاد شاركوا مع العقيلات، منهم إبراهيم الذي يُعدُّ من أوائل قادة السيارات في نجد مع بدء دخولها إلى صحرائنا. وبالمناسبة فكلمة “حدّر” تعني السفر من نجد إلى الكويت؛ لأن مستوى أرض نجد أرفع من أرض الكويت فيكون الذهاب لها حدرًا، وعكسها كلمة “سنّد” التي يراد بها الذهاب للحجاز؛ وهي أرفع أرضًا من مستوى الأرض النجدية.
أيضًا حفظ الكتاب لنا سيرة العقيلي عبدالمحسن بن وني الضويان الذي سافر للكويت والعراق والشام، والعقيلي عبدالمحسن بن صالح السراح (1300-1393) من أهل بريدة، والعقيلي عبدالمحسن بن حمد الحجيلان الذي غرّب للشام ومصر والسودان، وله أولاد وأحفاد من العقيلات. وبالمناسبة فكلمة غرّب تعنى الذهاب في اتجاه معاكس لمشرق الشمس؛ لأن العراق والشام ومصر تجعل مشرق الشمس خلف القوافل النجدية، ويوصف الراحل للكويت والبحرين وعمان والهند وزنجبار بأنه مشرّق. ومن الملاحظ أن العقيلات ورثوا التجارة والرحلة والمحامد لأبنائهم؛ ولذا فكم من عقيلي هو ابن لعقيلي وحفيد لآخر.
أما “الحصات” في الكتاب فعددهن أربع، منهن حصة بنت عبدالله بن عبدالعزيز القفاري زوجة العقيلي سليمان بن محمد بن جربوع القفاري، وسكنا في الكويت، وكان بيتهما موئلًا لأهل القصيم المحدرين للكويت؛ فمن خصائص العقيلات التكاتف والتآزر والكرم. وبعدها حصة بنت مبرك بن سالم الهويلي من أهل الرس، وقد تزوجها في الأردن العقيلي عبدالله الحجيلان وأنجب منها.
والثالثة هي حصة بنت سعود آل أبابطين التي تملّكها الشوق والحنين لبنيها، ذلك أن بعض عقيل اشتهروا بالسفر لعقود من السنوات وربما أزيد؛ فطلبت من ابنها حمد الرشيد الحجيلاني أن يذهب لأخوته بالغربية، ويخبرهم أن أمهم تريدهم، وتهيضت بأبيات منها:
يا حمد… اركب على ما توديك **** مقصورة الضلعين بنت العماني
تضرب بك الحدين عجله توديك **** تنحر عيالٍ غربوا في ثماني
وآخر حصة لها قصة استلزمت الختم بها؛ ذلك أن طرفة الطويان رأت كأن الشمس والقمر قد وقعا في حجرها؛ وإنها لرؤيا عظيمة ذات رموز، فعبرت رؤياها بزواج ابنتيها من رجلين بارزين! وفعلًا تزوج الأمير “الجنازة” عبدالعزيز بن منعب الرشيد ابنتها حصة بنت صالح الدخيل عام (1315)، وأنجبت له ولدًا مات صغيرًا، ثمّ تزوج الملك عبدالعزيز ابنتها لولوة بنت صالح الدخيل عام (1324)، وأنجبت له فهد الأول الذي توفي عام (1337) وهي سنة الإنفلونزا الإسبانية المشهورة محليًا بسنة الرحمة، وتوفيت والدته بعده بسنتين.
وربما يتعجب البعض من هذا الخبر الذي جعل الزعيمين المتنافسين عديلين بعد أن انتصر الملك عبدالعزيز على ابن رشيد في روضة مهنا، وهذا الانتصار هو الذي حفز جدتنا حصة زوجة الجد عبدالمحسن كي تسمى وليدها السابع “سعود” وليس “عبدالعزيز” كما يريد والده الذي كان حينها في الغربية؛ لأن الجدة وجدت أن أطفالها السابقين قد ماتوا، وأرادت تغيير الاسم إلى سعود الذي لم يكن معهودًا في الجواء، وحينما رجع الجد من رحلته، ورأى طفله يخطو، أقر الاسم الجديد وأبقاه.
اللهم اغفر لوالدي ووالديهم، ولكل حصة وعبدالمحسن من السابقين أو اللاحقين، ولجميع المسلمين والمسلمات المذكورين هنا أو غير المذكورين، وبارك لنا في علم الرواية، وفن التأليف، ونعمة الكتابة؛ فبها تحفظ الأمة تاريخها وأخبارها، وسير أسلافها. والله يجعل هذا العمل من البر بالأبوين والأجداد، وسببًا من أسباب استمرار الدعاء لهم، وتخليد مآثرهم وأسمائهم، ومتابعة إشراكهم في الثواب والصالحات من الأعمال.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 15 من شهرِ شعبان عام 1444
07 من شهر مارس عام 2023م
2 Comments
ابدعت في هذه المدونه وجميل جدا ماذكرته والاجمل فخامة الاسمين حصه وعبدالمحسن اللهم اغفر لهما وارحمهما ووسع منازلهم ووالديهم وموتى المسلمين
اللهم آمين