سير وأعلام عرض كتاب

عبدالمحسن في أعلام الزركلي وملحقاته

عبدالمحسن في أعلام الزركلي وملحقاته

عندما كنت في المرحلة الثانوية، زاملني نجل ثري كبير جدًا، ومما قاله لي مرة في ساعة مصارحة: لا يعجبني اسم والدي! ليت أن الأسماء تشترى لكنت اشتريت لأبي اسم عبدالمحسن! فقلت له: إن اسم والدك جميل في معناه ومبناه، وهو اسم عربي قديم، وقولي حقّ وليس مجاملة أو جبر خاطر؛ بيد أنه أجابني بأنه يبحث عن الفخامة أينما كانت، والعجيب أن والده يشاركه هذا الرأي كما أنباني الفتى! وعبدالمحسن اسم غير منتشر بكثرة في منطقة القصيم التي ينتمي لها الزميل مثلي؛ لكنه منتشر جدًا في منطقتي سدير والوشم.

وفيما مضى استعرضت ورود هذه الاسم الجميل في كتاب علماء نجد، وأقف اليوم معه في موسوعة الأعلام التي ألّفها الزركلي، وما تبعها من كتب بأسماء مختلفة. والحقيقة أن كتاب الزركلي هو أحد أعظم الكتب المؤلفة في حضارتنا العريقة إبان القرن الهجري الرابع عشر، وهذه المؤلفات الخالدة والمؤثرة تُعدّ مجالًا خصيبًا للبحث والكتابة عنها، وهو باب يستحق أن ينهض له العارفون بالكتب، فمما لا تخطئه عين القارئ أن بعض العناوين وضعت ضمن أهم الكتب المؤلفة في الإسلام حسب اجتهادات بعض العلماء مثل المحلى لابن حزم، والسنن الكبير للبيهقي، وهما كتابان عظيمان قطعًا، ولا تخلو هذه التصنيفات من الأثر العلمي وربما النفسي لصاحب التصنيف خاصة من قبل المتأخرين.

المهم أن اسم عبدالمحسن ورد في الجزء الرابع من الطبعة السادسة عشرة من كتاب الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، تأليف: خير الدين الزركلي، صدرت هذه الطبعة عام (2005م) عن دار العلم للملايين، وهي منقولة عن الطبعة الرابعة التي عدلها المؤلف قبيل رحيله عام (1396=1976م)، وفي هذا الكتاب اثنا عشر شخصية تحمل اسم عبدالمحسن، والله يرحم المذكورين هنا وغيرهم من المسلمين أيًا كانت أسماؤهم.

أولهم الشريف عبدالمحسن بن أحمد (توفي عام 1131)، الذي صار شريفًا على مكة ثمّ نزل عن الشرافة باختياره، ومع ذلك احتفظ بمكانته المؤثرة، وغدا مرجعًا فلا يولى شريف أو يعزل دون مشاورته. ويليه الفقيه عبدالمحسن الأسعد (1138-1183) مفتي المدينة النبوية منذ سنة (1154) وبها توفي بعد أن حلت به محنة سجن على إثرها في مكة، ثمّ أطلق سراحه وعاد للمدينة والإفتاء، ويُسمى عبدالمحسن الأول تمييزًا له عمن بعده، وقد جمعت الفتاوى الصادرة عنه في مجلد محفوظة مخطوطته في كتب آل أسعد بالمدينة.

يأتي بعدهما عبدالمحسن بن حمود بن عبدالمحسن التنوخي الحلبي (570-643) وهو كاتب وشاعر ووزير لعز الدين أيبك، ومن اللطائف أن الذي جمع مختارات من شعره اسمه كذلك د.محسن جمال الدين! ويعقبه عبدالمحسن بن عبود شلاش (1300-1367) وهو من أعيان العراق، وقد تولى الوزارة أكثر من مرة، وله كتاب عن آبار النجف. ومن النجف يأخذنا الكتاب إلى بريدة مع عبدالمحسن بن عبيد بن عبدالمحسن بن عبيد (1319-1364)، وهو فقيه عرض عليه القضاء مرارًا فرفض، وكان يعيش من نسخ الكتب وتجليدها، وله مؤلفات أشهرها الهداية والإرشاد إلى طريق الهدى والرشاد، وقد سبقت الإشارة إليه في علماء نجد.

ثمّ يترجم الزركلي لعبدالمحسن بن علي الأشيقري (توفي عام 1187) الذي ولي الإفتاء بالزبير، وتوفي فيها بالطاعون، ويبدو أنه الشيخ عبدالمحسن الشارخي الواردة ترجمته في علماء نجد للبسام، وأخبرني أحد مؤرخي أشيقر أن عقبه انقطع بعد موت حفيده. وجاء بعده عبدالمحسن باشا بن فهد السعدون (1296-1348)، وهو وزير عراقي من أسرة عريقة يتصل نسبها بالأشراف، وهم أمراء عشائر المنتفق، وقد تخرج ضابطًا في الجيش العثماني، وصار مرافقًا للسلطان عبدالحميد، وأصبح نائبًا عن المنتفق في مجلس النواب العثماني، ووزيرًا للداخلية في العراق، ثمّ رئيسًا للوزارة أربع مرات انتهت آخرها بانتحاره برصاصة! وبين رئاساته الوزارية ترأس مجلس النواب ثمّ مجلس الأعيان في العراق.

كما ترجم الكتاب كذلك للمحامي العراقي عبدالمحسن القصاب (توفي 1366)، وله تآليف حقوقية وتاريخية، علمًا أن بروز القانونيين في التاريخ له أمثلة عراقية أخرى مثل المحامي عباس العزاوي. وبعده جاء ذكر عبدالمحسن بن محمد الصوري (339-419) وهو شاعر له ديوان شعر فيه قوله الذي يناسب الاستشهاد به: ما الذي قالته عيناك لقلبي فأجابا؟ ومنهم عبدالمحسن بن محمد القيصري (توفي عام 755)، وله منظومة في علم الفرائض، وأخرى في علم العروض؛ مما يدل على تميزه الذهني لحاجة العلمين إلى قوة عقلية.

أما آخر من ترجم لهما الزركلي في الأعلام فأولهما عبدالمحسن بن محمد الكاظمي (1282-1354)، وهو شاعر فحل من سلالة الأشتر النخعي، وقد اتصل بجمال الدين الأفغاني إبان زيارته للعراق؛ فتضرر من الملاحقة والمتابعة، ولذلك ساح في العراق وإمارات الخليج والهند إلى أن استقر بمصر، وارتبط مع الشيخ محمد عبده فحسنت حاله جدًا، ثمّ ذهب أكثر بصره، وبعد وفاة الشيخ محمد عبده ساءت حاله؛ فعاش في ضنك يستره الإباء إلى أن توفي. قال عنه توفيق البكري: الكاظمي ثالث اثنين هما: الشريف الرضي ومهيار الديلمي. والثاني وهو الأخير في الكتاب ممن يحملون هذا الاسم هو عبدالمحسن بن يعقوب الصحاف (1291-1350) الذي ولد في البحرين، وعاش في بؤس مع أنه مدح الأمراء وأرباب المناصب، وقد توفي بمكة التي انتقل إليها مع والده في طفولته.

وفي الكتب الأخرى التي ألفها الأساتذة أحمد العلاونة (ذيل الأعلام)، ومحمد خير يوسف (تتمة الأعلام، المستدرك على تتمة الأعلام)، والدكتور نزار أباظة مع محمد رياض المالح (إتمام الأعلام) نجد عددًا من الشخصيات التي تحمل اسم عبدالمحسن، منها عبدالمحسن سليمان (توفي عام 1412)، وهو رائد طب العيون بمصر والبلاد العربية، وتولى عمادة كلية طب جامعة عين شمس، وصار نقيبًا للأطباء في مصر، ورئيسًا لجمعيات طبية عالمية أو نائبًا للرئيس أو عضوًا فيها، وأسس معهد الرمد بالجيزة وتبرع له بجميع ممتلكاته، ومنح أوسمة وجوائز محلية.

ومنهم الأمير عبدالمحسن بن عبدالله بن جلوي (1342-1408) الذي تولى إمارة المنطقة الشرقية بالسعودية عقب وفاة أخيه الأمير سعود عام (1386)، وظلّ أميرًا مهاب الجانب مسموع الكلمة إلى أن أعفي من الإمارة بسبب المرض عام (1406)، ثمّ ما لبث أن توفي عام (1408). ومما أذكره عن والدي رحمه الله أنه يقول: حكم الجلوي يقص المسمار! والكناية هنا عن حزمهم وقوة إدارتهم، وأذكر أني سمعت خبر تركه المنصب فأخبرت الوالد وكان في مجلسه وعنده أضياف، ثمّ سمعت نعي الديوان الملكي للأمير فأخبرت الوالد وكان في متجره ومعه جلاسه؛ فتأثر من رحيله، وشرع يسرد مآثر الأمير الراحل وأسرته، ولا غرابة فلوالدي ذكريات مع إمارات آل جلوي بالقصيم والشمال والشرقية، وذكريات مع دورياتهم التي يراها العقيلات في أواخر سنوات قوافلهم.

كما ترجمت هذه الكتب لعبدالمحسن بن علي الجلالي (1330-1396) وهو فقيه أصولي شيعي ولد في سامراء وتوفي بكربلاء، وترجمت كذلك لعبدالمحسن صالح (توفي عام 1406)، وهو أستاذ علم الميكروبات في جامعة الإسكندرية، واشتهر بأنه عميق النظر في أسرار العلوم ودقائقها، مع أنه صاحب فكاهة وأدب، وله كتب منها ما طبع ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عن التنبؤ العلمي، والآخر عن الإنسان الحائر، وبعضها طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومن كتبه كتاب بعنوان: مذكرات ذرَّة!

بقي أن أقول: إذا كنت تحب القراءة، وتأنس بالتاريخ، وكنت ممن يهتز للفرائد والفوائد، ويحب الوجبات العلمية التي لا تتعب الذهن، ولا تكدّ العقل، ومعها ينشرح الخاطر، وتنبسط النفس، وتزيد المعارف، وتعلو الحكمة، فدونك هذا الكتاب العَلَم الذي يستحق أن يكون في رفوف المكتبة، أو رفيق السفر، ثمّ تعجب من همة الزركلي الذي قضى ستة عقود وهو يصنف هذه المعلمة، وترحم عليه إذ أن له يدًا طولى على التاريخ والعلم والأدب، وله فضل خاص عليك حين أمتعك وأفادك وحفظ لك سير أسلافك، وحمى وقتك من أن يضيع فيما لا يستحق.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 12 من شهرِ شعبان عام 1444

04 من شهر مارس عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. استاذي الكريم
    بعد السلام عليكم
    قرأت واستمتعت كعادتي إذا قرأت لكم.
    وقد ظننتك تختم بعبدالمحسن العساف
    رحمه الله الذي انجب لنا أحمد.
    فيكون خير ختام لهذا الإسم الكريم

    1. وعليكم السلام ورحمة الله: لكم الشكر، كتبت عن الوالد غير مرة وسأفعل مستقبلا بإذن الله، والمكتوب عنه منشور ضمن وسم أبواي في المدونة. أما هذا المقال فمحصور بكتاب الأعلام ولكم الشكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)