طلال أبو غزالة في عالم يتوقد بالمعرفة!
دعيت إلى مناسبة ليلية أنيسة، اُستضيف فيها أكثر من ثلاثين مستثمرًا تقنيًا، وفي سياق نقاشاتهم قال أحد أكثرهم معرفة بالتقنية وبالموجودين: أتعلمون أن مجموع الاستثمارات التقنية الموجودة في هذا المجلس الآن تتجاوز تسعة مليارات، ولو حضر العشرة المعتذرون لزاد الرقم! إنه لأمر مذهل، ويزداد ذهوله حينما تلتفت يمنة ويسرة في ذلكم المجلس المهيب، فترى الموجودين جميعهم في سنّ الشباب الأول أو الثاني، ولا يختلفون كثيرًا عن هيئة الشباب الجالسين في مقهى، أو العابرين في ممشى؛ لكنها الهمة، وبعد النظر، والسبق، وشيء من الحظ، والتوفيق الإلهي من قبل وبعد. وبعد هذا اللقاء زارني صديق وأخبرني أنه يعمل من خلال عدة تطبيقات إلكترونية عالمية، ومنصاته هذه هي أصوله الثابتة الآن، ومصدر رزقه.
ثمّ حضرت الأسبوع الماضي مناسبة عشاء احتفاءً بزميل انتقل إلى خارج المملكة بعد أن قضى فيها خمسين عامًا، وتحدث الرجل بكل محبة صادقة عن أيامه في السعودية، ومما ذكره المعاناة الشديدة في البلد الذي يقيم فيه بسبب التخلّف الشديد بالخدمات الإلكترونية؛ فبينما كان يفرغ منها في بلادنا بضغطة زر وهو في جالس على أريكته، يضطر في بلده الجديد إلى تعبئة أوراق، ومراجعة أجهزة، والانتظار في صفوف، ومعالجة نفوس وطبائع، ومطاردة أختام وتوقيعات، والحمدلله على فضله، والله يصلح حال البلاد العربية والإسلامية في الشؤون كافة؛ علمًا أن بعضها منغمس في محيط من التأخر المحزن، لكنه يعتقد أنه الأول وبقية إخوانه يجرون خلفه لاهثين، وهم بدو حفاة، أو عالة عليه، وعسى أن يفيق من سكرة الخيال وردغة الخبال ليرى الحقيقة ويطرح الوهم!
بعد هذا كله، وصلني يوم أمس إهداء كريم يتضمن كتابًا عنوانه: العالم المعرفي المتوقد، تأليف: طلال أبو غزالة الذي يصف نفسه -محقًا- بأنه عامل معرفة منذ (1965م)، والكتاب صادر عن مجموعة طلال أبو غزالة عام (2018م)، ويقع في (184) صفحة تشتمل على مقدمات يتلوها صلب المحتوى ومادته الأهم، فتعريف بالمؤلف مسبوق ببيان مبادراته، ويلي ذلك كلمات قيلت عن المؤلف، وسرد لمواقع شبكة مكاتبه في العالم وسبل التواصل معها، فهي التي توزع هذا الكتاب. وفي الكتاب مختصرات على هيئة رسوم وأشكال تكتنز الفوائد، وتختصر المعلومة والوقت، ولبّ الكتاب يكمن في جولة على ما يمكن أن نفعله بالتقنية، وما يمكن للتقنية أن تصنعه بنا!
يقول المؤلف طلال أبو غزالة في مستهل كتابه: ثورة المعرفة هي الثورة الصناعية الرابعة، إنها صانعة الثروة، إنها أداة التنمية، فلا جدوى من مقاومتها، وعليه فكن عامل معرفة! ولاريب أن يصدر هذا الرأي عن إنسان وصفته سمر اللباد نائب الرئيس في مجموعة طلال أبو غزاله بأنه رائد أعمال، والركن الأهم والرئيس في شخصيته هو علاقاته المتشعبة والدافئة حتى مع من هم في أدنى طبقات السلم المهني والإداري؛ ذلك أن الرجل لم يتنكر لماضيه وهو صبي يقاسي شظف الحياة في مخيمات اللاجئين، ولعلّ انغماسه المجتمعي والتعليمي قد جاء من عمق هاتيك الآلام؛ فسخر إمكاناته العلمية والمالية من أجل أهداف أجلّ وأسمى من لعاعات الحياة.
ويأخذنا هذا الكتاب كما يخبرنا مترجمه د.هادي ف.عيد إلى المواقع التكنولوجية الرئيسة لحياتنا البشرية، في رحلة تأهيل لزواج بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي، وارتباط بين الوالد والمولود، وهو عقد لا رجعة فيه كما يرى المترجم، الذي يبني رأيه على تاريخ علاقة الإنسان مع الكمبيوتر والإنترنت؛ فبعد أن كان الجهاز ترفًا أو مكلفًا أصبح ضرورة في المنزل والمكتب والمعمل، وتحولت العلاقة مع الإنترنت من الارتياب إلى الاعتناق، وهو تحول لافت ذو دلالات عميقة، واستبان بجلاء إبان أزمة كورونا، ومع ذلك فشأن المستقبل النهائي للعالم وما ومن فيه سيبقى من الأسرار الخفية التي قد تخالف ما يظهر من الملامح، وسبحان ربنا الذي هو كل يوم في شأن، ويخلق ما لا تعلمون.
من موضوعات الكتاب إنترنت الأشياء، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والشبكات الاجتماعية، والخدمات السحابية، والسلاسل المغلقة بما فيها من خدمات، وعقود، وهوية، وسلاسل توريد. أيضًا من الموضوعات الواقع المعزز، والطاقة المتجددة، وشؤون صحية وجينية وطبية، وأشياء ذكية في التعليم، والعملة، والاقتصاد، والمركبات، والحكومات، والمدن، والمباني، والمعيشة، بل وحتى في الحروب والصناعات العسكرية حمانا الله وإياكم.
كما يبحث الكتاب موضوعات مهمة أخرى مثل هندسة المناخ، وريادة الفضاء، واستكشاف أعماق البحار، والبيانات وهو عالم ضخم. وفيه حديث عن تقنية النانو، والمواطنة الرقمية وهو باب حيوي فيه من التيسير والتسهيل ما ترنو لمثله قلوب الورى، وفيه من الضبط والربط ما يطمئن الحكومات وأجهزتها. ولم يغفل المؤلف عن الالتفات إلى الأخلاق المستلزمة لهذه الثورة؛ ذلك أن لكل جديد حسنات ومساوئ، ومن الكياسة اهتبال محاسنها، وإنهاء مساوئها أو تقليلها.
وختم المؤلف كتابه بالوقوف عند التحديات التي تواجه العالم الرقمي، وهي تحديات لا مناص منها؛ فلا عيش بلا كبد، ولا حياة دون رهق. فمنها الخوف من تدمير البشرية على يد هذا التطور الرقمي ومنتجات الذكاء الاصطناعي التي قد يفقد الإنسان السيطرة عليها يومًا ما. وفيها القضاء على فرص العمل، وزيادة البطالة، وربما إهدار حقوق الإنسان أحيانًا، أو استسهال القضاء على الحياة، ولا نقول إلّا كما قال شاعر عربي: ربنا يستر!
وفي نهاية الكتاب عرض سريع لمبادرات طلال أبو غزالة التي تجاوزت فلسطين والأردن، وهي مبادرات يجمعها خدمة المجتمع من خلال التعليم، والمعرفة، والتدريب، والابتكار، والتقنية، والجودة، والأبحاث الرقمية، والاستشارات، والشؤون الأكاديمية، والمواطنة الرقمية، وفض النزاعات. وبعد التعريف المختصر بالمؤلف، سيقت كلمات عنه قالها علماء، وأمراء، ورؤساء وزارة، ووزراء، ومهنيون، وسفراء، من بلاد عديدة، وثقافات مختلفة، وفي آخر الكتاب صور للمؤلف تبين عن شبكة علاقاته الواسعة الممتدة مع مشرق الشمس ومغربها.
أما وصفة طلال أبو غزالة العشرية للنجاح فوردت مختصرة في آخر الكتاب، وألخصها بتعديل صياغي يسير إلى:
- السعادة قرارك أنت.
- التفاؤل يجلب الخير.
- لا تتوقف عن التلمذة والتعلّم.
- المصاعب نعمة والخسائر طريق للنجاح.
- لا تتقاعد أبدًا.
- الراحة مضرة فاعمل مادام قلبك ينبض.
- يعينك خصومك على حماية نفسك.
- لا تمشِ خلف الجموع وابحث عن التميز والأسبقية.
- ابتكر فهذا هو هدف التعلّم.
- العمل والحياة مدرسة امتحاناتها متواصلة ودروسها متوالية.
أخيرًا؛ فهذا الكتاب وما يماثله في موضوعه، مهم لرواد الأعمال، ولرجال التجارة، وأصحاب المشروعات الناشئة، وهو مفيد قطعًا للحكومات، وللعاملين في خدمة المجتمعات عن طريق الأوقاف، والمؤسسات المجتمعية وغير الربحية، وفيه فتوح دعوية وتعليمية وتصحيحية وفقهية لو اغتنمها الدعاة والمصلحون والمربون، وفيه فرص سانحة لنشر اللغة العربية وآدابها وعلومها. وإن موضوعه لمن الإلحاح بمكان لأمتنا العربية والإسلامية كي لا تكون شعوبنا، ودولنا، وثقافتنا، وحضارتنا، في آخر القافلة، ونهاية الركب، تتبع ما يفعله غيرها ويبتكره، وربما أنها لا تستفيد من شيء حتى يعصره الآخرون عصرًا، ويطحنه القوم الأباعد طحنًا، فلا يبقى لنا منه إلّا ثمالة متلبدة أو فتات يطير، والله يلهمنا إصلاح التصور، وإصلاح الغاية، وإصلاح المسير، فبمجموعها يصلح بحول الله وقوته المصير.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 15 من شهرِ رجب الحرام عام 1444
06 من شهر فبراير عام 2023م