ثلاثية القراءة لألبرتو مانغويل
ألف ألبرتو مانغويل الكاتب الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية ثلاثة كتب عن القراءة والمكتبة والكتاب، وقد حظيت بالترجمة إلى عدة لغات؛ ومنها اللغة العربية. والمؤلف يتقن بضع لغات كما يتضح من كتبه، ويهوى الترحال والسفر، ويتعمق في الحضارات الأخرى.
وسوف أستعرض هذه الكتب حسب ما بدا لي ترتيبها في الفائدة، وهذا الاستعراض لا يغني عن قراءتها، فإن شق على القارئ النظر فيها جميعاً، ففي الأول منها غنية إلى حد ما. وقد أرجعتني هذه الثلاثية إلى مربع القراءة عن القراءة بعد أن هجرته زمناً بزعم الاكتفاء؛ فألفيتها منعشة معلمة محفزة وتستثير القارئ؛ بيد أن استثارتها للكاتب أعظم.
أولها عنوانه تاريخ القراءة، وبين يدي الطبعة العربية الثالثة منه الصادرة عن دار الساقي عام (2011م)، ويقع في 384 صفحة، وقد ترجمه سامي شمعون الذي أهدى ترجمته المتقنة لزوجته المتوفاة أم مريم التي وصفها بالقارئة العظيمة.
في هذا الكتاب الماتع حديث عن عشق وهيام يشعر به كل قارئ، استلهمه المؤلف من تجارب كبار الأدباء والمفكرين، واستفاد من تجربته الشخصية في القراءة والإطلاع بنهم وتنويع ودأب. وكتب المقدمة بعنوان الصفحة الأخيرة-خلافاً للمتوقع من أي مقدمة- وهو ذات عنوان الخاتمة البديعة، وبينهما فصلان ثريان: الأول عن فعل القراءة، والثاني عن سلطان القارئ.
وبدأ مانغويل وكأنه يهدي كتابه إلى القارئ ثم يتساءل: من السيد؟ الكاتب أم القارئ؟ ولا شك أنه سؤال مهم يجب أن يضعه الكاتب أمام عينيه حتى يعطي القارئ حقه من الاهتمام على ألا يقع فريسة لرغبات القراء، كما يجعله القارئ نصب ناظريه كي لا يكون أسيراً بين حروف المؤلف وكلماته. ومن بديع تقريراته: أن التاريخ الحقيقي للقراءة هو تاريخ كل قارئ وحده مع القراءة، وأن تاريخ كاتب معين لا يبدأ من الكتاب الأول له وإنما بقرائه ولو تأخر وجودهم.
وقد استغرق تأليف هذا الكتاب سبع سنوات، وحصل على دعم مالي من عدة مجالس وصناديق في كندا، وما أجمل البلد الذي ينفق على التأليف من ميزانيته، ويشارك العمل الخيري في إثراء الحركة الثقافية فيه وخدمة الباحثين.
حوت المقدمة صوراً تنتمي لحضارات وأزمنة مختلفة مع تعليق المؤلف عليها، ثم تحدث عن بداية علاقته بالكلمة المكتوبة منذ كان في الرابعة من عمره، حتى أعطته القراءة عذراً مقبولاً للعزلة حين عاد إلى الأرجنتين من تل أبيب، ولم يشارك الأطفال في لهوهم، ويستشهد في هذا المقام بكلام عالم نفسي عن أثر القراءة الحميد على استقرار نفس الطفل حين يكبر.
وظل ألبرتو لمدة عامين يقرأ على الكاتب الكفيف بورخيس فيما وصفه بأنه “الأسر السعيد”، وأفاد من هذه التجربة إعادة ترتيب كتبه ذهنياً، وأهمية تدوين التعليقات على ظهر الكتاب، وأن متعة وجود أثر قراءة على الكتاب وذكريات الشراء والقراءة تجعل نسختك فريدة، وأن القراءة فعل تراكمي. ومع مايستفيده القارئ من تجارب غيره وتقريضاته للكتب، إلا أن المؤلف يجزم بحقيقة مفادها؛ أن اللقاء الحقيقي مع الكتب يحدث غالباً بمحض الصدفة.
واعترف أنه- كأي قارئ- كان يصدق في طفولته وصدر شبابه كل ما في الكتاب حتى لو كان غريبًا؛ لكنه تخلص من ذلك لاحقاً وإن بقي للكتاب هيبته في نفسه. ولأن القراءة عنده بمثابة إنعاش للعقل فقد توجب لديه كسر سلطان النص ومحافظة القارئ على مرجعيته حتى لايكون بلا هوية، فالمرء يقرأ من أجل أن يطرح أسئلة كما قال كافكا الذي ينقل عنه المؤلف قوله: اقرأ كتباً توقظك! يجب أن يكون الكتاب كالفأس الذي يهشم البحر المتجمد في داخلك! وهذه النصائح تعين كل أحد؛ لكنها تفيد بدرجة كبيرة بعض القراء الشباب الذين انكبوا على قراءات تحاكم ثقافتهم وتراثهم قبل أن يأخذوا نصيباً من هذه الثقافة، وما أصدق من قال: اقرأوا (في) ثقافتكم قبل أن تقرأوا (عنها).
واسترجع مانغويل ذكريات امتهان فعل القراءة والكتابة لدى الطبقات العليا فضلاً عن امتهان تعليم الفتيات في حضارات العالم كما في أوروبا واليابان، وقد تخلصت هذه الحضارات من خطئها دون أن تجعله مادة تجترها لجلد ذاتها مراراً.
ونظراً لقوة أثر الكلمة المكتوبة كان الرقيق محرومين من تعلم القراءة في أمريكا، ولأن الجماهير الأمية سهلة الانقياد يخاف الطغاة من الكتب أكثر من أي شيء آخر، حتى كتب فولتير متهكماً عن المخاطر المرعبة للقراءة! ويعلن المؤلف أن غالب الحكومات تحارب القراءة بذرائع مختلفة، وتأمل حرف شعوبها عن عالم الكتاب؛ لاستهلاك ما أسماه “القمامات التلفزيونية”، والسياق يوضح أنه غير شغوف بمشاهدة التلفزيون.
ومن التجارب الجميلة أن بعض الكتب تحتاج وضعاً معيناً ومكاناً خاصاً للقراءة، فمتعة القراءة تعتمد على الراحة البدنية للقارئ، وثمة كتب يتلذذ بها المرء وأخرى يلتهمها، وثالثة لا مناص من أن تهضم بعد أن تمضغ جيداً، وما أجمل التدرج وترك ما لا يُفهم إلى ما يمكن فهمه حتى لو خلا من بريق الأسماء وفتنة العناوين.
ومن لطائف الكتاب تقسيم العلوم إلى أقسام منها: العلوم المربحة وهي الطب والقانون الكنسي والمدني، ومنها أهمية تحرير الكتاب من التصنيف الذي حشر فيه، وكم من كتاب حوى فائدة لم يكن مظنة لها، وخبر السجين المثقف الجوال، وقصة قريبته التي تختار عند سفرها مواد القراءة بعناية كما تختار حقائب السفر، وحكاية الدوق ليبري أكبر سارق للكتب في التاريخ، وفوائد القراءة العامة أوبصوت عال، وأن النظارة في بداية ظهورها كانت رمزاً للحكمة أو التكبر الثقافي، والخاتمة بقصة “المحتسب” الأمريكي آنثوني كومستوك الذي أسس عام 1872م جمعية لمكافحة الرذيلة المكتوبة؛ والفهرس الأمريكي للكتب الممنوعة الذي كان يصدر حتى عام1966 م.
أما الكتاب الثاني فعنوانه: المكتبة في الليل، وصدرت طبعته العربية الأولى عن دار المدى عام (2012م)، ويقع في 268 صفحة، وترجمه عباس المفرجي.
أبحر المؤلف بعد المقدمة تحت عدة عناوين ابتداءً من المكتبة كأسطورة إلى أن انتهى بها وطنا! وبينهما حديث عن الشكل والمكان والترتيب والهوية والأثر العقلي لها. ويبدو أن شغفه بالمكتبة قديم حيث كان حلمه أن يصبح أمين مكتبة، ولم يتحقق له حلمه إلا حين بلغ السادسة والخمسين يوم عاد ليلتصق بمكتبته أكثر فأكثر.
ويسمي المكتبة شفاء الروح، ومرآة الكون، وأحياناً رفاهية الروح، ويراها حاجة حيوية، وطريقاً للخلود، ويعد القراءة من أفعال المقاومة، ولذا نجد أن فعل القراءة بهذا التوصيف منتشر لدى الفئات المضطهدة غالباً، فللكلمة المكتوبة قدرات مدمرة! وبخبرته الطويلة مع الكتاب يقول: القراءة طقس انبعاث؛ لأن كل قارئ يضمن للكتاب قدراً من الخلود والبقاء.
ويصف لصقة السعر بالدملة الشيطانية التي لا تستأصل بسهولة وتكون مجمعاً للغبار، ويوصي بترتيب الكتب بحيث يكون أهمها في مكان يسهل الوصول إليه، فللكتب أقدارها، مع ضرورة الاهتمام بالشكل العام للمكتبة لأنه ينشط عادة القراءة.
ولأنه أدمن المكوث في المكتبة فقد فهمها وهي صامتة، وعرف من صمتها أنها تمقت الفراغ! ولذا فقد وضع رفوفاً للكتب في كل مكان من منزله في تورنتو؛ ويتندر أطفاله أنهم بحاجة لبطاقة دخول مكتبة إذا أرادوا الدخول لبيتهم! وينقل عن العالم الأمريكي أوليفر ويندل: “يجب على كل مكتبة أن تكون مكتملة في شيء ما حتى لو كان تاريخ رؤوس الدبابيس”.
ومع احتفاله بالكتاب إلا أنه يبدي إعجابه بقانون صارم في ليون يجبر من يكون أدبه من الدرجة الثانية بمحو ماكتب بلسانه! ويرى أن مولد تقنية جديدة لا يعني موت سابقتها؛ تماماً كبقاء الرسم بعد اختراع التصوير، وعليه فإن الكتاب الإليكتروني لن يقضي على سابقه الورقي، فتصفح الكتاب والتجول بين الرفوف جزء حميمي من فن القراءة.
وعنوان الكتاب الثالث: يوميات القراءة: تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة، وصدرت طبعته العربية الثانية عن دار المدى عام (2013م) ويقع في 231 صفحة، وقد ترجمه أيضاً عباس المفرجي.
في المقدمة بين أنه حين بلغ الثالثة والخمسين قرر إعادة قراءة بعض كتبه القديمة المفضلة، بحيث يعيد قراءة كتاب واحد كل شهر؛ شريطة التنويع فيما يعيد قراءته، ويذكرنا فعله هذا بما قاله العقاد من أن قراءة كتاب واحد ثلاث مرات، أنفع من قراءة ثلاثة كتب.
وكقارئ نهم فهو لا يحب أن يلخص له أحد الكتب التي ينوي قراءتها- ولذا أختصر فيما أعرضه من كتب ولا أستوعب تاركاً للقارئ حريته ومتعته إن أراد اقتناء الكتاب- فالقارئ العذري مستقل وغير موجه؛ كي يحمي نفسه من غائلة الجهل، فليس هناك خطيئة أعظم من الجهل كما ينقل المؤلف الذي كتب على باب مكتبته: اقرأ ما شئت!
ولا يحفل مانغويل بالكتب المعارة؛ فهي عنده كالزوار الثقلاء، لأنه لا يستطيع التعليق عليها، ولا يتعامل معها بحرية تجعله شريكاً للمؤلف؛ تلك الشراكة التي جعلت ماتشادو يعتقد أن الكتاب يجب أن يحمل اسم المؤلف واسم القارئ معاً لأنهما يتقاسمان أبوته!
وأخيراً؛ فما أحرانا أن نستفيد من تجارب الآخرين أياً كانوا؛ شريطة ألا نجعلهم موجهين لعقولنا أو حكاماً على ثقافتنا الأصيلة ذات الجذور العميقة في نفوسنا، والتي تحتم علينا الفخر بها ديانة قبل أن تكون عصبية وحمية.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 11 من شهرِ ربيع الأول عام 1435
3 Comments