سير وأعلام مواسم ومجتمع

محامد في ذوي المناصب

محامد في ذوي المناصب

قرأت السير الذاتية أو الغيرية لعدد من أصحاب المناصب، ونظرت فيما كُتب عنهم، وما أجري معهم من لقاءات مرئية أو صوتية، وما حفظته بعض الحوارات الصحفية لهم. ولربما جلست إليهم أو إلى مَن عمل معهم وكان قريبًا منهم، وقد كتبت بناء على ذلك عن جزء منهم، وفي النية الشروع بالكتابة عن الجزء الآخر حينما تكتمل المعلومة، وتتهيأ النفس، والله يعين ويسدد.

ومن أثر هذ الاطلاع لاحظت سمات توجد في بعض أصحاب تلك المناصب، ومن المهم قبل تبيانها الإشارة إلى أن تعميم الحسنات صعب تمامًا مثل تعميم السيئات؛ ففي التعميم غش وظلم. كما أن انعدام الخطأ مستحيل، والتزكية التامة ليس هذا محلها، وإنما أقف مع المحاسن والمزايا مستصحبًا البراءة الأصلية، غير منكر لما يقابلها. ومن تمام القول أن أشير إلى أنها صفات تشمل راحلين وأحياء، مقيمين على المناصب ومغادرين، وقد تعمّدت إغفال الأسماء قطعًا لأيّ شبهة، ومنعًا لأيّ مقارنة أو ربط وفك، والله ينفع بها الكافة، ويرزقنا وإياهم الفضيلة والمعالي والسعادة بمعناها العام، فهي سبيل إلى السمو الداخلي والخارجي.

فمن السمات التي لمحتها في أولئك الذين ابتلاهم الله بأمانة عامة ثقيلة تضيق مساحتها أو تتسع، ويطول مداها أو يقصر، والله سائلهم عنها ولا مناص، والحصيف فيهم مَنْ سعى للاحتماء من شرها وشررها مرضعة وفاطمة!:

الأهلية:

بعضهم لو عاش في غير بلادنا لأصبح جديرًا بالمنصب أيًا كانت طريقة الوصول إليه، وفيهم على ندرتهم شخصيات بمواصفات عالمية باهرة، وتشمل الأهلية على وجه الخصوص صفتي القوي الأمين الجدير مثله بأن يستأجر ويستقطب، وهذا يدل على أن الاختيار يتجاوز المعرفة المجردة أو غيره مما قد يقال عن طرق الوصول إلى مصاف النخبة!

التخصص:

هي جزء من الأهلية، وأفردتها لمكانتها، ولأن بعض المتخصصين منهم عَلَم في بابه، ولربما أنه درس ودرّس في جامعات عريقة، أو له مؤلفات يأرز إليها طلبة العلم في مجاله.

التدرج والمصاحبة:

وجدت في بعض سيهم تدرجًا من أول السلّم إلى أعلاه، وهذا يعني أنه اكتنز من التجارب والخبرات والمعارف ما يصيره محيطًا بالعمل ودقائقه. ولبعضهم صحبة مع مسؤول أعلى ومرافقة مكنته أن ينهل من حكمته، ويستفيد من نهجه، ونحن أمة إسناد ورواية فلا غرو أن يكون للمصاحبة فيها شأن.

الإخلاص:

ذلك أن في قلوبهم رغبة صادقة بتقديم خدمة طيبة نافعة دائمة للوطن والمواطن، فمنهم من رغبته مستولية على قلبه، ومخالطة لشغافه، وغير عجيب أن يكون فيهم من قسّم الرغبات على حجرات قلبه التي تستوعب أكثر من شيء في آن واحد.

حسن التدبير:

اشتهر بعض المسؤولين بتطبيقات إدارية باهرة التدبير صيرت مسيرته مدرسة إدارية جديرة بأن تدرس ويحال إليها بدلًا من النماذج الغريبة أو البعيدة. ومما يذكر لأغلبهم التزامه بحدود عمله فلا يطغى على غيره من أشخاص أو إدارات، ولا يتقحم الحدود المنهي عنها قدر استطاعته، وإن اضطر فالضرورة تقدر بقدرها إلى أن ترفع.

تهيئة الصف الثاني:

صحيح أن الطبيعة البشرية فيها أنانية واستئثار واستئصال ربما؛ لكن أشهد بما قرأته وسمعته أن عددًا من المسؤولين الواثقين بأنفسهم قد سعوا جهدهم لاستقطاب المميزين، وتمكينهم، وتهيئتهم، وتقديمهم وترشيحهم، بل روي عن وزيرين سابقين أنهما لا يذهبان إلى زيارة، ولا يستقبلان أحدًا دون أن يكون معهما فريق من زملائهم ذوي العلاقة.

براعة التأسيس:

وفق الله عددًا من المسؤولين لتأسيس أعمال جديدة، أو العمل على صياغة أنظمة محكمة، أو غرس أناس فاعلين أمناء في نواحي العمل ليكملوا المهمة، وإن فقه التعاقب لمنقبة إذا خلا من التحيز والشنئان الذي يجرمن البعض فلا يعدل، وربما اعتدى.

الإقدام:

كم من مسؤول قيل له: هذا الأمر مستحيل أو عسير! لكنه صكّ أذنيه عن المثبطين ومضى كماضٍ لا يثنيه شيء مهما تورم؛ فانجز وأبهر، وآثارهم باقية تكاد أن تنطق بما صنعوه، وما أحوجنا لصاحب قرار جرئ بعد تدارس واقتناع وتوكل على الله.

اغتنام المؤازرة:

حظي بعض ذوي المناصب بمساندة رفيعة، أو تأييد شعبي، أو ثناء إعلامي، فكان هذا الابتلاء لبعضهم دافعًا لمزيد من الإحسان، ولربما أنه عاد على آخرين بضرر.

النزاهة:

نحن كما ذكر ولاة الأمر نثق بمسؤولينا حتى لو بدر من بعضهم خطأ أو طالت الشكوك آخرين؛ فكم من مسؤول دخل وخرج دون أن يثري أو يغدو من ذوي الأموال، وكم من واحد منهم جعل ميراثه أو ثراء أسرته أو ما يمنح له من عطاء بعيدًا عن شؤون عمله، ولربما أفاد منها المحتاجون في مكتبه أو وزارته، وفيهم عدد يقطنون في منازل أو يستخدمون مراكب لا تختلف عما لدى عامة الناس.

الإكمال لا المحو:

لا يقع في هاجس كثير من المسؤولين محو آثار سلفه؛ فالعمل للبلد وأهلها، وهو غير مرتبط بأسماء. ومن رقي بعضهم حفظ تاريخ من سبقه ومنجزاته بالحديث أو الكتابة، وقد يتنازل الواحد منهم عن مقعده ليكون سلفه أقرب في الجلوس منه، والكبير دومًا كبير بالقول والفعل والنية.

نقل التجربة:

نجح عدد غير قليل من المسؤولين بنقل تجربته سواء بتأليف سيرة ذاتية، أو الحديث إلى وسيلة إعلامية، أو اللقاء في منتدى أو مؤتمر، والرجاء أن يفعل الصامتون ذلك؛ فالتجربة جزء من التاريخ الإداري والمالي الذي نتشارك فيه بحكم المواطنة والمصالح المشتركة.

الكتمان:

هي صفة ظاهرة حتى فيمن كتب سيرته الذاتية أو تحدث عن خبراته العملية، ومن شدة كتمان بعضهم أنه نأى عن الكتابة أو الحديث مع توالي المطالبات عليه بأن يوثق مسيرته وشهادته.

الاعتذار المناسب:

إذا شعر المسؤول أنه لا يستطيع إكمال المهمة لسبب شخصي أو صحي أو نظامي فمن الخير له ولعمله أن يستعفي منه، وهذا ما فعله بعض المسؤولين الذين أصروا على ترك المنصب، وسعوا لتحقيق ذلك بوساطات وشفاعات، وحججهم في مطلبهم متباينة بيد أنها مما يحسب لهم.

البصيرة الإدارية:

أبتلي بعض الناس بعريض الدعوى بأنه يمثّل آمرًا أمره لا يرد؛ فيلقي توجيهاته الشفهية مثل السيف المصلت، ولبعض المسؤولين من البصيرة ما يجعلهم يأبون التفاعل مع شيء غير مكتوب؛ وحين يعلنون رأيهم هذا يتلاشى صاحب الدعوى لأنه على إكمال الهوى لا يقوى.

تقديم الأنظمة:

سمعت عن مسؤول أنه ورد إليه توجيه فأجاب: هذا يخالف النظام فلم يفعله! والثاني كتب لصاحب التوجيه: بأيّ صفة إدارية تكتب هذا الأمر لي؟ والثالث: ذهب للآمر الكبير وأطلعه على أنظمة ولوائح تتعارض مع توجيه له مكتوب، وبعد أن نظر الرجل الكبير فيها أبطل أمره، وازداد تقريبه لوزيره الصارم.

صراحة الرأي:

ما أسعد صاحب المنصب الذي يقول رأيه المستقر في عقله، ولا يكتم ذلك عن زملائه ورؤسائه؛ فهي أمانة وصدق نحو العمل والمستفيدين والمسؤول الأكبر، والله يعيذ أيّ مسؤول نافذ من الموافقة لمجرد الشعور بأن الموافقة تجلب له الرضا، وإن المرويات لتتوارد عن سعادة كبار المسؤولين بمن يبدي رأيه الذي يعتقده بالطريقة المناسبة والتوقيت الملائم.

طلاوة الحديث وعلو الكتابة:

لا تخفى مواهب بعض المسؤولين إن خطبوا أو خطوا، وإن السماع لهم لمطرب، والقراءة لما كتبوه لمذهل، وهي مواهب قابلة لن تكون من المقدرة المكتسبة بحدّ معين، ويمكن الاستغناء عنها أحيانًا باستعداد مسبق، وكتابة من إعداد بصراء بالصياغة، والمهم ألّا يظهر ذو مسؤولية فيكون ظهوره قاصمًا للظهور.

التطوع:

أذهلني مرة تاريخ التطوع لدى أكابر مسؤولينا، وهو تطوع فردي أو مؤسسي، مادي أو معنوي، وفي دروب من الخيرات والمكارم عديدة؛ فمنهم للأيتام آباء، وللمساجد بناة، ولصنائع المعروف أرباب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الوجاهة الأسرية:

امتاز عدد غير يسير من المسؤولين بمجيئهم من أسر لها وجاهة مجتمعية، وعراقة ظاهرة في مجال أو أكثر، وهذا مما تغبط عليه البلاد وأهلها إذا كانوا ممن توافرت فيهم بعض ما سلف من خصائص؛ ذلك أن الأعراق النبيلة لديها من الحرص على التجويد، والخشية من التفريط، أكثر مما لدى غيرهم من محدثي النعمة، ولا يعني هذا قصر المناصب عليهم.

أسأل المولى القدير أن يوفق المسؤولين لكل ما فيه الخير العاجل والآجل، والصلاح والإصلاح والتطوير الطيب المبارك؛ فهم على ذلك مستأمنون متابعون مساءلون، ولأجله أُتي بهم دون سواهم، وأتمنى أن تكون هذه الملامح مفيدة خاصة لمن تبوأ منصبًا أو اشتاقت نفسه لذلك. وأضرع لمولاي الملك العزيز بأن يعين مَن يتولى الانتقاء والاصطفاء؛ فهي عملية شاقة في ذاتها وما تؤدي إليه، خاصة مع عظم المطلوب، وضرورة الإنجاز بكيف وكم وزمن، والله يجعل العواقب حميدة مشكورة في الشؤون كافة، والثمار مرضية تماثل المأمول أو تربي عليه، وليست الكتابة عنها إلّا من باب التحديث بنعمة الله، والاعتراف بالفضل لأهله.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 09 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

02 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)