سير وأعلام

بين بولندا والمكسيك!

بين بولندا والمكسيك!

إذا شعرتُ بضيق كتبت فانشرح صدري؛ فالكتابة لديّ من أسباب الراحة مع أشياء تفوقها أو تأتي بعدها. وقد كتبت هذا المقال بحثًا عن الشرح ولربما أمتعكم، وما يحويه كلّه حقيقة بلا تورية سوى اسم الفتاة ففيه تغيير يسير حتى وإن تطاول الزمان وبعد المكان. وأشير إلى أن من دواعي الكتابة أيضًا أنه سبق لي ذكر الأرجنتين في مقال سابق، وبعد أن سحقها كرويًا منتخبنا الوطني يوم أمس في مباريات كأس العالم، رأيت الكتابة عن بولندا والمكسيك من الذاكرة دونما بحث؛ فالمعلومات عن البلدين متوافرة، والله يجعل الفأل لنا حسنًا، ويديم البهجة بيننا.

فمن خبر بولندا أني رشحت لتمثيل عملي آنذاك في لجنة شراء تنعقد لأول مرة، وجاء ترشيحي متأخرًا معالجة لاستقالة مفاجئة وسريعة من قبل زميل عزيز كان هو المرشح الأساسي لها بناء على نظام الترشيحات. ولهذه التجربة الشرائية تاريخ طويل في أصناف كثيرة، ولي خبرة بعمل لجانها المتنوعة، وحضوري فيها حسن، وأحظى عند مسؤولي الوزارة المعنية بقبول ومحبة وثقة؛ ولذا وقع اختيارهم عليّ مباشرة استدراكًا لنتيجة الاستقالة.

لذلك ذهبت للمشاركة، وتفاجأت بأن جميع ممثلي الدول حضروا في هذه اللجنة لأول مرة بلا خبرة سالفة، وبالتالي غدوت الخبير الوحيد بينهم، ومستشارًا لرئيس اللجنة وهو من دولة أخرى حسب تنظيم تداول الرئاسة. وقد اختارني الرئيس للمشاورة بعد أولى النقاشات، وهو الانتقاء الذي راق لموظفي المكتب المشترك، وإن لم يعجب واحدًا منهم فيما بعد؛ إذ لم يتوقع أن أقصيه تمامًا من الحضور كما توجب الأنظمة، أو يقتضيه العرف المعتاد.

وقد كان معنا من كل دولة خليجية شخصان أو ثلاثة من أهل الاختصاص بموضوع اللجنة، علمًا أن قصتي تدور حول ثلاثة أعضاء من بلد خليجي، وعضوين اثنين من بلد آخر؛ إذ ادعى أحد هؤلاء الثلاثة أنه لم يعلم بأن عمل اللجنة يمتد لستة أيام متوالية من السبت حتى الخميس، وهو مضطر للمغادرة إلى بلاده يوم الاثنين لحضور زواج أخيه! فقال الرئيس له بعد مشاورتي: لابد أن يتحمل صاحباك عملك! فتمنعا لكنهما ألزما بقوة النظام والعرف، وربما ساعدناهما قليلًا في إكمال عمل ثالثهما كي تخف عندهما تلك المؤونة الثقيلة.

لكنّ العجيب أن الرجلين مع إصرارهما على رفض مساعدة صاحبهما، بادرا من تلقاء نفسيهما بوداد مصطنع لعرض المساعدة على فتاة تمثل دولة أخرى دون أن تطلب المساعدة منهما لا تصريحًا ولا تلميحًا، وكان وفدهم الثلاثي يجلس أمامها، وكلّ مرة يكاد الواحد منهما أن يقفز من مكانه مخاطبًا الفتاة بلهجته الثقيلة: هل تريدين أن أساعدك يا أميرة؟ فتعتذر البنت عن الموافقة بالإشارة، ولا ألومها فعيون أحدهما تكاد أن تخرج من محاجرها، وهي تخيف الرجال فضلًا عن النساء!

وكنت أجلس قريبًا من رئيس اللجنة، والفتاة قريبة مني وبيننا موضع خالٍ، وبالتالي صرت رقيبًا وشاهد عيان على صنيع الرجلين وعلى جوابها الصامت القوي، علمًا أنه من عادة الذكر والأنثىأو أكثرهمأن يصبح الواحد منهم لطيفًا رقيقًا أمام الغريب من الطرف الآخر كما فعل الرجلان، بينما هو مع أهله وداخل بيتهفي الغالب– “غِلفصّةوعِلكمّة، وإن ثقل نطق هاتين الكلمتين ينبئان عن غثاثة معناهما دون حاجة لسؤال أو بحث.

ومن لطيف الحكاية أن جاورني في الجلوس أحيانًا بلدي الفتاة واسمه هلال، وتكلم معي بانطلاق وعفوية، ومن خبره الطريف أنه حدثني عن صلاح جده وتقواه؛ لدرجة أن هذا الشيخ الهرم إذا اشتهى تمر البصرة لا يلبث التمر المُشتهى أن يأتي من فوره طائرًا في السماء حتى يحط رحاله بين يدي الجدالصالحعلى بُعد المسافة بينهما! فقلت له: يا هلال هذا لا يسمى عندنا صلاحًا، وإنما هو على التحقيق شيء آخر يباين الصلاح إن صح قولك؛ فتبسم الرجل الخجول جدًا، ولمعت عيناه حتى ظننت أنهما بالدموع مغرورقتان!

المهم أنه بعد نهاية الاجتماع عدت لمقر العمل فقابلني صديق محب، وقال لي إنأميرةتسلّم عليك، وتشكر لك عونك لجميع أعضاء اللجنة. ثمّ عرفت منه أن بينه وبين الفتاة عمل مشترك، وتراسل مستمر عبر البريد الإلكتروني وأدواته التواصلية المستخدمة آنذاك، ولذلك سألته: من أين أتت تلك الفتاة بجمالها الذي يفوق المشتهر في بلادهم الأبية الكريمة وما حولها؟ فقال: إن أمها بولندية، فزال عجبي. ولإنهاء الحكاية فقد كانت أميرة حيية في مشيتها وكلامها، متصونة في لباسها، بعيدة عن الزينة اللافتة، مقتصرة على الحديث مع بنات جنسها؛ بيد أن الجمال الطاغي يستعلن ولو توارى، والله يديم الحياء والستر والعفاف لنساء المسلمين، وينصر فريقنا الوطني على منتخب والدتها البولندية حتى لو أحزنت النتيجة بنات بولندا الغواني!

أما المكسيك فما عندي عنها غير أمرين؛ أحدهما أن زميلًا شهمًا صنع لنا مرة سلطة غير واضحة المعالم، وزعم أنها مكسيكية والله أعلم بالحقائق، لكنّ الأهم أني سمعت طالب علم من دولة إفريقية يقول: دخلت إلى مسجد صغير في قرية نائية من بلاد المكسيك؛ فوجدت نسخة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. وسبحان الله فربما أن هذا العالم الكبير المتوفى في سجن القلعة بدمشق لم يتوقع لعلومه وكتبه الخلود والانتشار حتى تصل إلى المكسيك وأبعد، وإذا عجبتَ من هذا فليكن عجبك أعظم من أقزام أو لئام يبحثون عن العظمة بالتطاول على مقام ابن تيمية الشامخ حتى روى عن الشيخ بكر أبو زيد رأي مفاده بأن طباعة هذه الفتاوى بمجلداتها السبعة والثلاثين هو أعظم عمل علمي صادر من بلادنا العزيزة، وليس بكثير علينا أن نتمنى وصول أهداف منتخب بلادنا إلى شباك المكسيك في يوم آت قريب، بعد أن بلغتهم علوم شرعية متينة صادرة من بلادنا.

والشيء بالشيء يذكر؛ فقد قرأت مرة كتابين، وكتبت عنهما ثلاثة مقالات، والكتابان يتحدثان عن تجارب ناجحة في مقاومة الفساد، وابتداء مشروعات الإصلاح، والانتقال الهادئ الآمن إلى حال أحسن، وأحدهما فيه لقاءات مع ثلاثة عشر زعيمًا يحكون تجارب تسعة بلدان ويعقبها تحليل نافع، والثاني فيه عشرة فصول عن عشر دول. والدول التي في الكتابين تقع في قارات العالم دون استثناء، وتجاربها متنوعة في الاقتصاد، والتنمية، والسياسة، والأمن، والموارد، وإن القراءة فيهما وفي أمثالهما لمفيد لأهل الاختصاص العلمي والعملي، وفيه إثراء وتجربة وفكرة، ومن نافلة القول المرتبط بالعنوان أن بولندا مذكورة في الكتاب الأول، والمكسيك واردة في الكتابين، وعسى أن ينعكس هذا على نتيجة المباريات لصالحنا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 29 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

23 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. مقالة لطيفة، وذكرى جميلة..
    ولكن يا سيدي الكريم، استوقفني الرجلين العربيين مع تلك السيدة، وأيضًا وصف الكاتب المنبهر بجمالها الآسر الذي زال عجبه بعد أن علم أن أمها بولندية!!
    لذلك .. بمناسبة هذه المقالة البولندمكسيكية.. أود القول..
    أن النساء يتشابهن حد التطابق..
    وبنفس الوقت يختلفن عن بعض حد التنافر..
    بيد أن الجمال الطاغي يستعلن ولو توارى، المشكلة ليست في النساء فهن بكل أحوالهن فاتنات!
    الأمر المثير للعجب تفضيل الرجال مدحًا تصريحًا او تلميحاً للجمال الزجاجي، الباهت بلا طعم ولا لون ولا ذائقة، قيدوا الجمال في الغير عربيات بصفاتٍ حسب أمزجتهم واهواءهم وكأنها أيقونة الحسن الطاغي، ومجدوا مقاييسهم الواهمة، ولم يدركوا يوماً أن المرأة العربية خفيفة ظل،تتوهج من روحها البراءة والصفاء، كحلاء العينين، ضاوية الخدين ،ضمياء الشفتين، وإن اختلفت معايير الجمال، هنّ الجمال الذي أختلف عليه الجمال!
    ما كتبته هو استدراك لافتتان الرجلين بمساعدة تلك المليحة متجاهلين صديقهم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)