يُحمد للمؤلف تسجيله هذا التاريخ وحفظه من الضياع؛ لأنه ممن تعاصر مع زمن اللاسلكي إبان نشأته، وقد عزّ عليه أن تُطوى السنون دون تسجيل تلك الذكريات الجميلة في كتاب يبقى، وتُحمد له منقبة تأليفية أخرى سأذكرها في موضعها الملائم. وعنون الكتاب المشار إليه: الاتصالات اللاسلكية ودورها في تأسيس المملكة العربية السعودية، تأليف: حمدان بن سليم البلوي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (١٤١٨)، ويقع في (٧٠) صفحة مكونة من مقدمة وخاتمة بينهما ستة وعشرون عنوانًا. ومن الشكر ما ينصرف للأستاذ الإعلامي حسين العسكري الذي حثّ المؤلف على الكتابة والتدوين؛ فاستحق شكرًا من أبي محمد، وممن يقرأ.
يُعدّ المؤلف الشيخ حمدان بن سليم العرادي البلوي (١٣٤٤-١٤٤١) من أوائل خريجي مدرسة اللاسلكي بعد أن أكمل الابتدائية في بلدته الوجه، وسافر على ظهر سفينة شراعية إلى جدة وظلّ في البحر عدة أيام. ومن جدة قطع الطريق البري لمكة ليجد أن المدرسة المقصودة انتقلت مع الحكومة إلى الطائف؛ فذهب إليها بلا توانٍ، وتجاوز امتحان القبول على يد الشيخ محمد نيازي، وغدا أحد طلاب المدرسة بالغزة في مكة، وكان مديرها الشيخ صالح وزنة يمنح الطلاب ربع ريال سعودي للإعاشة، وهو مبلغ يكفيهم يوميًا ويفيض منه فوق ذلك.
وقد كانت بصيرة الملك عبدالعزيز تقتضي الإفادة من الموجود في الحجاز وتطويره، وإنشاء الإدارات الجديدة، وفتح المدارس الحديثة، والتوسع المتدرج، وتدريب المواطنين وتعليمهم وابتعاثهم في هذا التخصص الحيوي المهم. ومن حنكته وحكمته التعامل مع المعارضات الطبيعية بالهدوء والإقناع، ومتابعة أعمال الأجهزة المستحدثة، ومراقبة التطورات التقنية في هذا الباب، مع اختيار الأماكن المناسبة لها في الحدود والحواضر، حتى أصبح تواصل المسؤولين والمواطنين فيما بعد ميسورًا مع مقامه أينما كان، وفي أيّ وقت من ليل أو نهار، ولم تحُل طبيعة بعض الأماكن عن فتح مركز برقية ولو لم يكن فيها سوى بئر ماء ودورية أمنية.
وصارت هذه المراكز إضافة لعملها الإداري، والسياسي، والأمني، وسيلة لاستقبال الأخبار العالمية من وكالة يونايتد برس، ونقلها لديوان الملك، الذي يطلع عليها قبل أن يحيلها لموضعها المناسب من المستشارين حوله أو إلى الأجهزة الحكومية المعنية. كما صارت مراكز اللاسلكي فيما بعد أداة لتنشيط الحركة التجارية، وتأمين اتصالات التجار وأرباب المصالح لأغراض استثمارية وعلاجية وغير ذلك.
أما حمدان البلوي فهو من فتية استجابوا لرؤية الملك الباهرة، وتفاعلوا مع طموحاته التطويرية؛ فقهروا الصعاب، وتحملوا العيش في صحراء قاحلة، وبراري جرداء، وليل مخيف ونهار حار، خدمة لبلادهم ومواطنيهم ومصالحها، وقد سجل فئام من أولئك القوم الكرام شيئًا من جهودهم ونصبهم في البرقية، والمالية، وأمن الحدود، والجمارك، وأذكر منهم الشيخ إبراهيم الحسون، والشيخ حماد العرادي البلوي شقيق المؤلف.
فبعد تخرج حمدان في المدرسة اللاسلكية عُيّن في مركز حدودي بالشمالية الغربية يسمى “العيساوية”؛ فسافر إليه من مكة للمدينة وصولًا إلى ينبع بسيارة البريد، وصادف فيها مفتش المالية الأديب أحمد السباعي الذي اندهش لأن الفتى حمدان وحده وهو في هذه السن المبكرة، وحين عرف وجهته أخذه معه لأن السباعي سيذهب إلى أملج التي هي أم اللج والأمواج الجميلة ثمّ ينقلب إلى الوجه مقصد الفتى حمدان.
وفي ينبع التي احتفى أهلها بمفتش المالية احمد السباعي ركب المسافران في سفينة كبيرة محملة بالفحم؛ لكن الرياح أبت أن تتحرك سفينتهم في الاتجاه الصائب، فنزلا إلى البر، ووجدا أربعة جمال مهيئة لهم، فركب الفتى حمدان أحدها، وعلل ذلك للسباعي بأنه بدوي يحسن التعامل مع الجمل الذي لم يركبه أديبنا السباعي إلّا بعد وضع مقعد عليه يسمى شبريه، ورافقهما رجل ثالث للخدمة والحراسة، وحمل رابع الجمال المؤونة وأغراضهما.
ثمّ توقفت القافلة الصغيرة في الطريق، وطبخ حمدان لرفاقه السمك مع الرز والعدس، بيد أنّ عاصفة رملية شديدة أضافت لطبخته حبات من الحصى والرمل؛ فأكلوا الوجبة تحت وطأة الجوع. وبعد وصول حمدان للوجه استأجر له أخوه حماد جملًا لينقله الى تبوك وهي قرية صغيرة آنذاك، ومنها ذهب مع سيارة متجهة لمعان في الأردن، وتوقف عند مركز حدودي، وأبرق للأمير عبدالعزيز السديري حتى أتاه جمل الدوريات فامتطاه إلى مركز “مغيرا”، وتسلّم الشنطة اللاسلكية، علمًا أن هذا المركز ليس فيه إلّا بئر ماء ومأمور جمرك مع حراسه ومياه عكرة، وأما النار التي يصطلون بها ويورونها فمن مخلّفات بهيمة الانعام لفقدان الحطب!
من المواقف الملكية في الكتاب أن الملك عبدالعزيز أبرق تهنئة لزعيم دولة فتأخر وصولها بسبب الأحوال الجوية الماطرة، وحين استدعى الملك عامل المخابرة محمد أبو صابر مستفسرًا عن سبب التأخير، تمالك الرجل نفسه وجمع أنفاسه، وتشجع مجيبًا: أراد الله بقدرته نزول المطر الغزير، وكثرة الرعد والبرق؛ فتأخرت البرقية وليس لنا حيلة أمام قدرة الله! فأطرق الملك واقتنع بجواب الرجل الذي أحسن عرض جوابه لمليكه بعد أن سأل بنفسه دون وسيط.
ومنها أن حرس الحدود قبضوا على تاجر نوى تهريب بضاعة من القماش؛ فأبرق التاجر للملك معترضًا مدعيًا حسن نيته في التوجه للجمرك، فجاءه الجواب الملكي القصير: “أنت مثل الصاحب المزاح إما شيف وإما راح”. وأبرق الأمير عبدالعزيز بن مساعد لأمين مالية لينة سعد بن سراء يأمره بتزويد عامل الزكاة بالمحروقات؛ فأبرق ابن سراء للملك عبدالعزيز يستأذنه فأجابه: “عبدالعزيز هو عبدالعزيز”! ومرة تأخر الأمير عبدالعزيز السديري عن جواب الملك على سؤال بعثه؛ فعقّب عليه الملك ببرقية ثانية مضمونها: “أنت حي وإلا ميت. أين الجواب على استفسارنا”، وما أجمل التوقيعات المختصرة في تاريخنا الأدبي.
كذلك كانوا مرة على الحدود في يوم عيد؛ فسمعوا صوت سيارة ظنوا أنها للأمير عبدالعزيز السديري، لكن عندما نزل ركابها تبين أنهم من حاضرة المدن العربية المجاورة، وطلبوا الذهاب للسديري في القريات، وعندما قابلوه اخبروه عن عزمهم على الحج ومقابلة الملك عبدالعزيز للضرورة قبل أداء الفريضة، وفعلا ذهبوا للرياض، ووصلوا للقصر، وبعد أن دخل الرجل وصحبه على الملك، طلب منه الأمان وقال له: أنا رشيد الكيلاني قائد ثورة العراق ضد الإنكليز! فقام الملك من الكرسي وقال له: بليتني يا رشيد وقد وصلت الأمان، ورفض الملك عبدالعزيز بشدة مطالبات الإنكليز بتسليمه حتى رجع مختارًا لبلاده أيام عبدالسلام عارف.
ومن قصص حمدان في شبابه الأول، أن الأمير عبدالعزيز السديري اصطحبه معه وهو شاب تبين عليه الحداثة في العمر والتجربة، وأخذه إلى لقاء مع شيخ الرولة فواز الشعلان، فلما رأى فواز حمدان وعرف أنه هو المسؤول عن البرقية مع الملك، قال للسديري: لو كان هذا الشاب عندي ما أسرحه مع البهم! وبعد التجربة أيقن فواز أن ذلكم الفتى ذو تأهيل واستحقاق يجعلانه على قدر المسؤولية إذ أجاد في مهمته دون عثار.
من لطائف الكتاب أن أول مركز للاتصالات الهاتفية في الرياض فتح بالديرة سنة ( ١٣٥٠=١٩٣٠م)، وكانت شنطة اللاسلكي أول الأمر مع الملك عبدالعزيز ونجله الأمير فيصل- الملك لاحقًا-، ومع الأمير عبدالعزيز بن مساعد. ومنها أنه اشتهر عن بعض البادية قولهم: ابن سعود ما عنه مفر: في السماء برقية، وفي الأرض مرية -أي أفراد يقصون الأثر من قبيلة مرة الكريمة-. ومنها ما رواه المؤلف عن براعة هندسية لدى موظفي اللاسلكي، وعناية الأمراء بالعاملين فيه، ومن ألطف اللطائف شهادته على وفرة الغزلان والحبارى في الصحارى وكثرتها قبل الإسراف في الصيد.
أخيرًا فمن إنصاف المؤلف وسمو فكره وروحه إشادته برجال اللاسلكي ووصفهم بالشيخ، وإبراز مآثرهم، وهم على التوالي: عبدالله كاظم، وإبراهيم سلسلة، وأحمد زيدان، وإبراهيم زارع. ومنها ثناؤه على جهود الأميرين عبدالعزيز السديري وشقيقه عبدالرحمن. ومن المناقب الظاهرة المحمودة كما أسلفت في صدر المقال أنه لم يثقل كتابه بما يفعله البعض من إيراد قصص مفتعلة أو مبهرة أو حقيقية عن المعارضات الطبيعية على هذا الوافد المستحدث؛ ففي كلّ بقعة من الدنيا يواجه الجديد بتوجس، وهذه المواجهة لمن عقل فيها ملمح حسن يدل على التيقظ الرشيد الذي يقبل المفيد ولو بعد حين، ويطرد المشين حتى وإن ظن ظانٌّ بأنه قد تمكن واستمكن ورسخ.
الرياض- الثلاثاء 14 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444
08 من شهر نوفمبر عام 2022م