سير وأعلام شريعة وقانون

محمد بن حسن الجبر وآثار لا تبلى!

في يوم الاثنين الرابع من شهر شعبان قبل بضعة عشر عامًا ارتحل إلى الدار الآخرة د.محمد بن حسن الجبر (1362-1427) بعد حياة حافلة بالآثار المنيفة، وجلائل الأعمال، والأحدوثة الحسنة الباقية حتى لو لم يخلّف وراءه ذرية تحمل اسمه، والله يأجره وزوجه الوفية عن هذا الفقد، ويجزيهما بأعظم العوض عندما يلقونه. وإن الإبحار في حياة هذا الرجل الجاد ليكشف لنا أشياء جديرة بأن تبرز عسى أن يكون فيها القدوة الحسنة لمن شاء الإحسان بعد الإتقان من أجيال تُعقد عليها الآمال، وقد لا تفتح أعينها على مثل هؤلاء النخب وأضرابهم ممن يستحقون الاستشهاد بهم، والاحتجاج بنبوغهم وعصاميتهم.

فمما ذكره لي طلابه أنهم كانوا يشعرون إبان تدريسه إياهم أن الأستاذ الذي أمامهم أستاذ فريد قياسًا على بقية أعضاء هيئة التدريسمع ما حباهم الله به من خصائص، ولم يأت هذا الشعور بالتفرد غير مفسر؛ بل قالوا إنه الرزين طبعه، العميق علمه، المهيب حضوره، الراقي تعامله. ومما أخبرني به أحد طلابه أنه نعس مرة فخاطبه د.الجبر مباشرة وسأله: ما رأيك في كذا؟ وما هو تفسيرك لذلك؟ وغايته إيقاظ الطالب بدون إحراجه. وقال لي مَنْ درس عنده قبل أكثر من أربعين عامًا إن د.الجبر أعجب بي غاية الإعجاب؛ فاقترح عليّ أن أحوّل دراستي من قسمي لقسم القانون! ولأنه يعتني بطلبته الأذكياء في الانتقاء والتوجيه والتعاهد؛ فقد خلفه اثنان منهم في رئاسة هيئة الخبراء، وجعل أحدهما وهو معالي د.عصام بن سعيد ناظرًا على وقفه.

هذا القسم وذلكم التخصص الذي أحبه الجبر منذ يفاعته فمنحه خلاصة جهده وزهرة عمره ونتاج عقله؛ فهو الذي أسس قسم القانون في كلية العلوم الإدارية، وكان شديد المنافحة عنه بأدب وسمو في مجلس الكلية؛ حتى أنه صارح زملاءه في عضوية المجلس بوضوح أن تخصص القانون يدفع ضريبة اشتراكه في كلية واحدة مع علوم المال والإدارة، وحقه أن يستقلّ كي يدرس طلبته كمًا كبيرًا، وكيفًا عميقًا من مواد الاختصاص؛ وهو النهج الذي تحقق الآن.

ومن حرصه على القسم وطلبته تلك المساعي الحثيثة التي ناء بحملها لتيسير الابتعاث لهم، وتنويع البلدان المقصودة بالابتعاث كي لا تقتصر البعثات على أمريكا وبريطانيا فتنويع المشارب مجلبة للمنافع. ومنها رفضه مزاحمة مواد القسم الأساسية بدراسة اللغة الإنجليزية التي يمكن إتقانها بوسائل أخرى؛ مع أنه يحثّ الطلبة على البراعة في اللغة العربية، وعلى إجادة لغات أجنبية قدر وسعهم، وهو شيء متحقق فيه فعربيته رائقة راقية، ولغته الفرنسية يثني عليها الناطقون بها، وكان يجيد الإنجليزية.

كما يمكن ملاحظة حرصه على تخصص القانون من تآليفه في هذا الباب لسدّ الحاجة، وإغناء المكتبة، وإفادة الطلاب والدارسين؛ حتى أن كتابه عن القانون التجاري تربّع على مراجع هذا الباب. وعندما أصبح وكيلًا لوزارة التجارة جمع القوانين التجارية السعودية في مجلد ووزعها مجانًا على المتعاملين مع الوزارة، ومثلها صنع مع المبادئ القضائية التجارية التي قررت سابقًا، ووزعها بعد طباعتها بمجلدين على المحامين كي يستأنسوا بها في عملهم، ومنهجه هذا يعين على نشر الثقافة القانونية في أوساط مهمة ومؤثرة.

ومن الإشارات البديعة على عنايته الفائقة بالتخصص أن مدير مكتبه من دارسي القانون؛ وبالتالي فهو زميل للجبر وصاحب له على غرار المصاحبة بين الفقهاء الكبار وطلابهم النوابغ، وبالتالي فالحال مناسبة للتعليم المباشر، والتدريب اليومي، والاقتباس من نظرات المدير القانوني وآرائه، وهذا ليس بكثير على قانوني بزغ نجمه منذ كان طالبًا جامعيًا حتى أن أحد أساتذته في مصر ضنّ به أن يترك كلية حقوق القاهرة وينتقل لجامعة أخرى، ونصحه بالبقاء في الكلية العريقة وقد فعل. وقال قانوني آخر كما روى الحربش إنه نسيج وحده من بين سائر أهل الاختصاص، ولأجل ذلك وصفه أ.سليمان الحربش في مقالة تأبينية بأنه من فقهاء القانون لا من شراحه فقط، ووصفه بصفوة المستشارين.

ومن مناقب الرجل ومحاسنه أنه جعل في وزارة التجارة كاتب عدل تسهيلًا على مراجعيها من رجال الأعمال، وسعى إبان عمله في لجان فض المنازعات إلى الصلح الذي يحمي الأطراف، ولا يهدر الحقوق، ويحول دون العثرات المالية. ولأنه ممن أرسى قواعد تدريس القانون في البلاد فقد كانت له آراء حصيفة في التعامل مع القوانين القديمة خلاصتها ألّا تلغى نهائيًا، وإنما يبنى عليها وتعدل وتطور فهو أسهل من الإتيان بجديد، وفي هذه الطريقة حفظ لتاريخ التشريع وعراقته. وكانت له يد طولى في المناقشات مع دول الجوار بخصوص الجدار الجمركي الموحد، وفي الوقت نفسه له جهود مضنية في التفاوض مع الدول الكبرى بخصوص التعرفة الجمركية قبل انضمام المملكة لمنظمة التجارة الدولية.

ثمّ إن الرجل الذي استقطب لأعمال حكومية بعيدًا عن عرينه الأكاديمي لم ينسحب تمامًا من العمل التدريسي ولو بنصاب قليل، وكان يطلب من زملائه إعطاء الكلية ما تستحقه من نصيب قبل أن ينتقلوا إلى عمل آخر. ومما لفت نظري أن د.الجبر وهو القامة البارزة في اختصاصه درّس مادته لطلبة أقسام أخرى مثل السياسة والمحاسبة وغيرهما، وهذا الإجراء غير معهود في الجامعات؛ بيد أنه فعل ذلك مع أن قسمه أولى به وبعلمه، ويمكن لغيره من الأساتذة تدريس الأقسام الأخرى بدلًا عنه، لكنه ربما أراد تقوية الحس القانوني لدى طلبة الأقسام الأخرى، ورفع قيمة القانون لديهم، واستقطاب المميز منهم، ولا غرابة ولا بأس فيمن يحبّ فنه، ويجلب المكارم والمواهب إلى محبوبه.

ومما سمعته عن معالي د.محمد بن حسن الجبر حرصه الكبير على ألّا يصادم القانونُ شريعةَ ربّ الأرض والسماء كما هو حاصل في بلدان أخرى، ولذا جعل من تدريس القانون بصياغاته وتقسيماته معينًا لدارسي الشريعة وسببًا إضافيًا في فهمها وحسن تطبيقها، ولم يحرم طلبة القسم الجديد من التزود بعلوم الفقه وأصوله، وأحكام الأسرة والمواريث وغيرها، والشيء الأهم أنه لم يلق في روع أحد منهم أنه يدرس علمًا يضارع شريعة الرب تعالى في عليائه، أو ينافسها في الحكم والقضاء، فضلًا عن أن يقصيها.

كذلك استثمر د.الجبر علاقاته الواسعة مع الوسط الأكاديمي المصري للتعاقد مع خيرة الأساتذة الذين درسوه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة التي تخرج فيها عدد من أعضاء مجلس الوزراء ورجال الدولة، ولربما أنه سعى لاجتذاب النابه من زملائه الذين صاروا أساتذة خاصة أنه يعرفهم زمن الطلب لتفوقه الدراسي بينهم؛ حتى خشي البعض من مرتبته العالية ظنًا منهم أنه من أبناء مصر. وإكمالًا لما بدأه في حياته العلمية الحافلة، سارعت زوجه الأكاديمية الكريمة د.طرفة بنت عبدالرحمن الغنام إنفاذًا لرغبة عرفتها منه إلى التبرع بمكتبته العربية والفرنسية لجامعته التي أحبها.

وفي المدة التي قضاها د.الجبر في الكلية والجامعة ثمّ وزارة التجارة، ومصلحة الجمارك، وهيئة الخبراء، سعى إلى تطوير الجهاز الإداري وموظفيه، مع التيسير على المراجعين والمتقاطعين مع العمل وشؤونه، ونشط في استخدام التقنية وإدخالها، ونجح في حسن التقسيم والفرز، وإتاحة المعلومات لمن رام الاستفادة منها من داخل المؤسسة ومن خارجها، وتلكم خصائص رجل دولة كبير، لا يحتجن الفائدة لنفسه أو جهازه، ولا يحتجز المعارف والخبرات دون الآخرين، وإننا لفي مسيس الحاجة لأقوام هذا ديدنهم؛ فالمصلحة العامة أولى.

وبعد أن دهمه المرض، وغدا طريح الفراش في المستشفى، لم ينقطع عن الخدمة من على سريره الذي يرقد عليه، وحينما شعر بدنو الأجل كتب وصيته وأنهى تنظيم وقفه وهو في أمريكا، وأصبح له من العمل الصالح الخيري والمجتمعي ما نتسامع به حتى الآن إن في بناء المساجد وفرشها وصيانتها، أو في خدمة العمل الصحي والمجتمعي الخيري، أو في التكفل بمصاريف تعليمية لمن يستحقها من الطلاب، وشمل جبره كثيرًا من الأحياء وحتى الراحلين فيما تبرع به لصالح مؤسسات إكرام الموتى.

ومما برز في سيرته العذبة الثناء على الملحق التعليمي بالسفارة السعودية في باريس الشيخ عبدالعزيز الطويل؛ لسعيه في خدمة المبتعث المجتهد الجبر؛ كي يتمكن من التفرغ لدراسته والتفوق فيها وقد كان، ويا لها من محمدة حرم منها عدد من المسؤولين الذين لا يبادرون ويغيب عنهم فقه المآلات والمصالح العليا. ومما لمحته في الرواية عنه وفاء الزملاء والأصدقاء له، كما تبدى لي في أحاديث الأستاذ الحربش والدكتور العنزي عنه في الحلقة التلفزيونية التي سأشير إليها.

أما على صعيد العائلة والأسرة والشأن الخاص، فعرف عن د.الجبر بره بوالدته، وقوة صلته بأخيه الشيخ عبدالعزيز الذي تكفل بمصاريف دراسته الجامعية. وشُهد للجبر بحنانه على أبناء أسرته العريقة وبناتها، وسعيه لحفظ حقوقهم؛ فهو العم النصير والخال الشفيق، وكان يكثر الابتهال لأفراد في أول يومه وآخر ليله كما يصنع الصالح من الآباء والأمهات. ولم يغفل عن محيطه القريب أو البعيد سواء في محياه بجهوده العلمية والعملية، أو بعد وفاته بوقفه ووصيته وقصة حياته. ومع عنايته بأسرته إلّا إنه تضايق من وجود عبدالسلام بن محمد الجبر في قاعة إحدى الشعب التي يدرسها، ولم يهدأ باله إلّا حين علم بأن هذه هي الشعبة الوحيدة التي تناسب الطالب. وزادت طمأنينته عندما رأى معدل عبدالسلام العالي وجديته الدراسية، وكان قد أخبره في أول الفصل بأنه سيعامله مثل سائر الطلاب، وأن خؤولة د.الجبر لوالد عبدالسلام، وقرابتهما الأسرية، تكون خارج الجامعة فقط.

ومن مقولات د.محمد الجبر المحفوظة: يجب ألّا ندفن رؤوسنا في التراب، وأن نستفيد من تجارب الآخرين، وألّا نكتفي بنقد غيرنا لأن الاكتفاء بنقدٍ هذه صفته إنما هو هروب من العمل والمسؤولية! ومن تجرده للحق وبعده عن المصادمة قوله للمستشارين معه: نحن نعرض الآراء ولا نفرضها! ومن حكمته حثه نفسه وغيره ألّا يتأثروا بتجربة الدراسة في الخارج فيجتهد الدارس بغرسها في بيئتنا كما هي. وهو رجل شغوف بالعلم والجامعة والقراءة والتأليف، فليس بكثير أن يثنى على غزارة علمه، ودقة استنباطاته للقواعد القانونية، وسلاسة عرضه، وخلو كتبه من الحشو الزائد، حتى قال عنه أ.خالد القويزأحد طلابه-: الدكتور محمدرحمه الله تعالىأستاذ القانون التجاري من الذين تعلموا العلم للعلم، لَوذَعيّ، أَلمَعيّ، فَهِم، واسِع الإدراك.

إن رجلًا هذا جزء من خبره، وهذه شذرات من مسيرته في دراسته، وعمله، وتآليفه، وتمثيله للبلد، وأعماله الخيرية، ووقفه الناجز المستمر، ليس ابنًا مقتصرًا على أسرته العريقة، ولا للأحساء الشامخة فقط؛ بل لجميع أنحاء المملكة. وستبقى ثماره يانعة لا تذبل، وآثاره خالدة لا تبلى بإذن الله في مناحٍ عديدة جميعها تقع في ميادين الشرف والمآثر والمفاخر، وعسى أن تكون هذه السيرة الفخمة أمام نواظر الأجيال؛ كي تنجيهم من الخمول، والكسل، والتفاهة، ومن مصادمة إرثهم الحضاري وثقافتهم الراسخة، وتنقذهم من أيّ بلاء ناقع يودي بعقولهم وأرواحهم؛ فتضيع بسببه الدنيا والآخرة.

واعترافًا بالفضل فقد أفدت في كتابة هذا المقال من بعض طلابه مثل شقيقي حمد، والأستاذ خالد الخويطر، ومن زملائه إبان الدراسة حسبما ورد في مقالة الدبلوماسي محمد طرابلسي، ومن الأستاذ عبدالرحمن الرحيلي الذي سمع عنه من زملائه بوزارة التجارة، ومن معالي د.ماجد المنيف الذي كان قريبًا منه في الجامعة والوزارة والمصلحة والهيئة، وقضيتُ معه لهذه الغاية وقتًا مثمرًا مزومًاعبر تطبيق زووم، وشاهدت للسبب ذاته حلقة مؤثرة من حلقات برنامج الراحل التي يعدها ويقدمها الإعلامي الموفق محمد الخميسي وفريقه المتعاون، وطافت بنا تلك الحلقة المتقنة مع د.الجبر في محياه ومماته.

ahmalassaf@

الرياض- السبت 26 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

22 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)