عرض كتاب لغة وأدب

من أوراق المهنا

من أوراق المهنا

هذه منائر علم وهداية، ونوافذ أدب وإضاءة، أو كما أسماها مؤلفها تحت عنوان لافت لكتابه هو: صُوى و كُوى، تأليف: محمد بن سليمان المهنا، وقد صدرت الطبعة الثانية منه عام (1441=2020م)، عن دار الحضارة للنشر والتوزيع، ويقع في (400) صفحة من القطع المتوسط. يتكون الكتاب من مقدمة الطبعة الثانية التي أبان فيها المؤلف عن سعادة رزقها بنفاد نسخ الطبعة الأولى من كتابه بعد ثلاثة أيام من افتتاح معرض الكتاب، وبعد هذه المقدمة القصيرة تأتي مقدمة الطبعة الأولى، ثمّ فوائد الكتاب التي تطول أو تقصر، وجاءت تحت مئتين وثلاثة وسبعين (273) عنوانًا مستقاة من مئة مرجع أو تزيد.

ويكثر في المكتبة العربية والإسلامية القديمة والمعاصرة أمثال هذه المؤلفات، ذلك أننا أمة مشتغلة بالقراءة والكتاب اللذين يتصل خبرهما والحث عليهما بنصوص ديننا الحنيف، ولذا يمتلئ قلب القارئ سرورًا إذا قطف شيئًا من يانع ثمر مقروئه وعرضه لغيره؛ حتى عدّ أحد علماء الأندلس في القرن السادس أن التعاليق والأوراق سمة مصاحبة لمن لقيهم من علماء الآفاق. وهو منهج درج عليه المتقدمون والمتأخرون كما يقول المؤلف الذي اكتفى بذكر ثلاثة أمثلة معاصرة هم: المشايخ ابن باز، وابن عقيل، وابن عثيمين رحمهم الله، وإنه لمنحى في التأليف جدير بأن يحصر ويدرس، وتصدر فيه معاجم وأبحاث.

إذ تعين هذه الكتب الإنسان على البقاء مرتبطًا بالقراءة حال الشغل والسفر والمرض، وفيها إحماض من المذاق الجاد، وترويح عن النفس، وتنشيط للذهن على مكابدة العلوم الصعبة والمؤلفات العسيرة، كما أنها تحبب الناشئة بالقراءة، وترفد الكاتب والخطيب بمادة يحسن بمثلها الاستشهاد، وما أجمل المكتبة المنزلية التي لا تخلو من هذه الكتب خاصة تلك المصنفات التي يأمن المربي مضمونها على ابنه في معتزله، وعلى ابنته في خدرها، مثل كتابنا هذا الذي انتقى محتواه المؤلف وهو الفقيه والمحامي والأديب، وسليل الأسرة العريقة، ونجل رئيس قضاة الرياض ومحاكمها.

كما أن هذا الكتاب وأمثاله من المنتقيات الجياد والمختارات الأنيسة تحوي من الخير الكثير؛ ففيها تعريف بعلماء قدماء أو معاصرين، ودلالة على كتب وفنون، وإرشاد إلى أدباء ومؤرخين، وإحياء لمآثر، وبعث لهمم، وارتقاء بالوعي. ومن بركاتها تقريب بعض المفاهيم والعلوم والأخلاق حتى يستسيغها القارئ بلا عسر ولا تردد، ومنها اختصار طريق الوصول إلى كلمات ذات دلالة ووقع؛ كي يعاد استخدامها بدلًا من أن تستولي على ألسنتنا وأذهاننا كلمات أرسطو وكونفوشيوس وأفلاطون وغاندي وستيف جوبز وغيرهم من حكماء الشرق والغرب؛ ففي إرثنا العلمي الغنية مع تحقيق الاستقلالية.

سوف يجد الناظر في الصوى والكوى نقولات عن علماء كبار كالأئمة الأربعة، وابن تيمية، والشوكاني، والألباني، وابن باز، وغيرهم، وسيرى فقرات نثرية رائقة لكتّاب وأدباء كبار مثل محمود شاكر، والطنطاوي، والطناحي، وسواهم، ولن يعدم من يخلو بهذه التعاليق شيئًا من تجارب المؤلف وخبراته وهو الرجل الاجتماعي الجوّاب، وربما تروق له طرائف هذه الأوراق ومنه تلك المساجلات الشعرية بين شاعرين أو ثلاثين شاعرًا، وبعضها أربى على مئة بيت عن كبدة الحاشي!

أيضًا سوف يقتنص القارئ المتمهل كلمات عذبة صافية فيها تفسير وفقه وحديث، وأحكام وفتاوى، وسيقع على شيء غير قليل من القصص والمقولات والعبر النثرية أو الشعرية، وفيه فرائد لغوية جميلة، ومعاني أسماء البنات، علمًا أن أخبار النساء مبثوثة في الكتاب، وفيه آراء تفرح بها المرأة، وطبعًا يحوي الكثير مما يرتقي بابنة حواء مثل أبيات أبي فراس عن زوجته الخريدة عندما ذهبت تحج، ولربما تعجب الفتاة إذا عرفت معنى التطرية والتطريف، ولا أدري أتجرؤ على استخدامهما أم تنحاز إلى العجمة المستوردة البغيضة؟!

من لذائذ الكتاب وقفات طبية منها ما يعالج لثغة الراء إلى غين، وتحدٍّ قاد أحد أطرافه إلى تأليف كتاب وأجمل به من تحدٍّ بعيد عن التفاهة. وفيه شذرات من الوعي نقلًا عن د.عبدالوهاب المسيري الذي ترك من المؤلفات والمحاضرات ما على مثلها يُحال، إضافة إلى إشارة لكتاب حصن المسلم وهو كتاب أذكار سيّار ألفه د.سعيد بن وهف القحطاني وترجم إلى أكثر من أربعين لغة. ومن كنوزه نصوص نفيسة يحتاجها القارئ والكاتب، والطريقة الصحيحة لنطق بعض الأسماء، وهو باب يغلط فيه كثير من الناس.

ومنها تعليق قنو التمر في المسجد، وتصحيح يجعل الشارع أوسع من الطريق، وحكم الأضحية بلا أسنان علوية، ولن يكفّ القارئ عن الطخطخة عندما يقرأ حكاية غلام أبي العيناء ويكفيكم من شر سماعه، أو خبر الشيخ الخمّار أجارنا الله وإياكم، أو قصة الأمير الذي يجبر الشاعر الخلي من الإجادة بأن يصلي مئة ركعة في المسجد، وليت أن هذه العقوبة تشمل أضرابه كي تنكسر سوق النخاسة الفكرية! وأما معنى الطخطخة فابحثوا عنه داخل الكتاب حتى تكون طخطخاتكم على بينة!

إن مثل هذا المجموع وله إخوة قبله ومعه وبعده لجديرة بأن يُنشر عنها، ويوصى بها؛ خاصة مع ازدياد الانصراف نحو اللهو الذي تعين عليه الأجهزة والتقنيات، أو باعتياد الناس على القراءة القصيرة العاجلة، وتسارع الملل من الكتب الجادة المقتصرة على موضوع واحد، فهذه الأحوال الثقافية الطارئة أدعى لإيلاء مثل هذه التصانيف مزيد عناية حتى يخرج غالب القراء ما لديهم؛ لأنها تمسك بحجز الناس أن تهوي، وتبقي على الروابط مع إرثنا العلمي والأدبي والتاريخي الخالد، وسوف ينبغ من هؤلاء القراء فئام يكونون من جملة الثابتين الصابرين الذين يذودون عن الحمى، وينتصرون للحق والفضيلة والأمن والنماء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الأحد 13 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

09 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)