عرض كتاب قراءة وكتابة

أين كانوا يكتبون؟

أين كانوا يكتبون؟

يصور هذا الكتاب بيوت الكتّاب كما في عنوانه: أين كانوا يكتبون: بيوت الكتّاب والأدباء في العالم، ويقع في (210) صفحات، منها (81) صفحة تحتوي على صور فقط، ولا تخلو أكثر الصفحات الباقية من صور بأحجام متفاوتة، والتصوير جميل جداً، ويعطي للمكان إيحاءات بديعة.

والكتاب من تأليف فرانسيسكا بريمولي-دروليرز، وتصوير إيكا لينارد، وترجمة رجاء ملاح، وتوطئة مارغريت دوراس التي تحدثت عن بيتها، ولذا فالصنعة الأنثوية المشهورة بدقتها التفصيلية واضحة في هذا العمل، فهو جهد أنثوي خالص كما ذكر زوج المترجمة شاكر نوري في مقدمة الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى عام (1430) بالتعاون بين أبو ظبي للثقافة والتراث، ودار ثقافة للنشر، والدار العربية للعلوم.

شمل الكتاب منازل عشرين كاتباً منهم خمس كاتبات، ويقع زمنياً في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومكانياً في أوروبا وأمريكا، وأشارت المؤلفة والمصورة إلى أن دافعهما لهذا التأليف اللطيف هو البحث عن روحية المكان التي أوحت لكتابهم المفضلين بما أبدعوه، وقد لاحظتا أن لذاكرة المكان سحراً وقوة تأسران المعاين له سواء أكان قصراً باذخاً أم بيتاً متواضعاً.

وسوف أسرد أولاً ماوقعت عليه من فوائد حول مكان الكتابة وبيوت الكتاب؛ ثم أنقل فوائد عامة لا تخلو من طرافة، وتكشف لنا شيئاً من حياة المبدعين وحملة الأقلام، وهذا شيء من خبر المكان:

1. هناك حب عميق يشعر به الكاتب تجاه البيت لارتباطه بالكتابة والإبداع، بل إن البيت يوحي لهم بالكتابة أحياناً، وكان الكاتب هيرمان هيسه يعود لبيته كلما ألح عليه هاجس الكتابة.
2. يثور الكاتب ويصبح عدوانياً إذا أزعجه أحد وهو يؤدي عمله، ولذا يكاد أن يكون مكان الكتابة موضعاً محرماً على كل أحد من أهل البيت دخوله-باستثناء أزواجهم-، ويسميه بعضهم الملجأ الإبداعي؛ وهي تسمية ذات دلالة.
3. عند غالبهم ثلاثة قوانين للكتابة المنزلية: خصوصية المكان، والبدء غالباً مع بواكير الصباح، والعزلة التامة للكتابة ساعات طويلة متواصلة.
4. أحب بعضهم البيت من أول نظرة! وربما وقع الكاتب في عشق المنزل حين شاهده وهو يحلق بالطائرة فوقه، فضلاً عن الحنين لمنازل العائلة الذي دفع بعض الكتاب لشراء منازل قديمة لأسرهم.
5. اشترى موسوليني للكاتب غابريال دانونزيو قصراً كي يتلهى به عن الأعمال النضالية! ويبدو أن شراء ذمم الكتاب أو إشغالهم بالملهيات قاسم مشترك بين الجبارين.
6. المكتبة هي القلب النابض لبيت الكاتب، والكتب موجودة في كل مكان من البيت تقريباً، وإذا خلا بيت من الكتب فاعلم يقيناً خلوه من أي كاتب.
7. للكتب وهي جاثمة تنتظر على المكاتب وفوق الرفوف منظر مهيب، ومحزن! يا الله أهكذا سنرحل تاركين أعز الأشياء؟
8. تمتلئ بيوتهم بالتحف واللوحات والتماثيل والمصنوعات الفضية والنحاسية والطينية والملابس والمقتنيات التي تنتمي لحضارات مختلفة.
9. يضع الكتاب أشياءهم اللصيقة بهم بجوارهم أثناء الكتابة حتى لا يضطروا للبحث عنها، وقطع سلسة الإبداع وحبل الأفكار، ولست أدري ماسيفعلون بالهاتف الجوال لو أدركوه!
10. من شدة احترام الكاتب جان جيونو لوالده الإسكافي كان يضع مطرقته الحديدية أمامه على مكتبه فهي رمز للكفاح، ويستعمل الكاتب الطاولة التي استخدمتها أمه لكي الملابس كي يكتب عليها.
11. يستقبل الكتاب ضيوفهم على نطاق ضيق، وفي أوقات محددة، وغالب ضيوفهم ممن يأنسون بهم أو يمتازون بالبراعة في موهبة ما.
12. كم من كاتب اشترى منزله أو أكمله ووسعه من عوائد النشر، وفي عالمنا يبيع الكتاب بيوتهم لطباعة كتبهم كما قرأت في سيرة عالم مغربي.
13. يفضل الكتاب السكن في الأرياف والأماكن القريبة من الطبيعة التي لم تغيرها المدنية كي تمنح الكاتب فرصة للتأمل.
14. من عاداتهم تسمية البيوت والغرف بأسماء معبرة، والكتابة على الجدران والأعمدة واللوحات الجدارية ولكن بشكل فني وليس بطريقة تخريبية.
وأما المقتطفات التي جاءت في الكتاب وليست ذات ارتباط بالمكان فهذه بعضها:
1. تستخدم الكاتبة كارين بليكسون اللغة الإنجليزية لأنها لغة حبها، ثم تترجم أعمالها إلى لغتها الدانمركية!
2. الكتابة طريقة للشفاء من الآلام ونسيان الأحزان، وكم ولد الإبداع من رحم المآسي!
3. الكتابة إحساس، والكلمة مقدسة، وكتابة سطر واحد عذاب.
4. يقول كارلو دوسي: عندما تكتب فإنك تستهلك دمك؛ والكتابة بالنسبة له تمثل حرية وصراعًا.
5. للكتابة متعتها ولعنتها. كينيت هامسون.
6. لاحظت تعدد النساء في حياتهم، وأن الحب والعشق مستمر معهم حتى في سن الشيخوخة! وعلى المرأة المبتلاة بزوج كاتب أن تفطن لذلك!
7. زوجة همنجواي كانت تعرف شهوة زوجها لتذوق الثمار المحرمة! ولذا كانت تخاف من ارتباطه بغيرها، وقد كان!
8. ألهمت امرأة عجوز الكاتب وليم بتلر حين كان في شبابه، وفي شيخوخته كانت تلهمه فتاة شابة.
9. يعمل الكتاب بسرية حتى لايسرق أحد أفكارهم.
10. يلبس الكاتب بيير لوتي الثياب التي اشتراها في أسفاره ليعيش في ذكرى رحلاته المتنوعة.
11. أصبح الكاتب مارك توين ضحية للشهرة، ولأجل ذلك تمنى العيش في قرية ألمانية مافيها أحد يتكلم الإنجليزية.
12. كان مارك توين يقرأ فصول رواياته لزوجه وأولاده ويعدلها حسب مقترحاتهم، وهذه حالة تفاعلية نادرة فأزهد الناس بعالم أهله.
13. لغالب الكتاب هوايات أخرى كالتمثيل وممارسة الرياضات باختلافها، وخياطة السجاجيد، وإجادة رواية القصص، فضلاً عن أعمال الزراعة والبستنة التي تكاد أن تكون سمة مشتركة، ولبعضهم اهتمام بالآثار والتصوير والرسم وجمع التحف.
14. يتضح بجلاء خوف الكتاب من نضوب الإبداع، وسعيهم لتنمية الخيال بالسفر، والحديث مع الناس، وتسجيل الخواطر، والمشي، والتأمل، والخيال المفرط حتى أن زوجة أحدهم كانت تسميه الكاذب المحبوب لسعة خياله.
15. يدمن بعضهم على الشراب المحرم، ومنهم من ابتلي بالكآبة والضجر وسماع الأصوات الغريبة، والحمد لله أن جعل في الشاي والعصير والقهوة وكل مشروب حلال بديلاً عما حرم.

ولا أعلم إن كان قد نهض أحد لتسجيل مثل هذه الملاحظات عن الكتّاب والمبدعين في العالم العربي، أم أن الإهمال مصير أكثرهم أحياء وأمواتًا؛ حتى أن منازلهم قد تتحول إلى مرآب أو طريق قبل أن يتمكن باحث مهتم من تصويرها ونقل خبرها للناس.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

 الخميس 29 من شهرِ ربيع الأول عام 1435 

 

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)