عرض كتاب قراءة وكتابة لغة وأدب

العرنجية…!

العرنجية…!

قال لي ابني سعود -حفظه الله ووقاه-: إن عنوان هذا الكاتب لافت؛ فعمّا يتحدث؟ فأخبرته. ومن عادتي مع مَنْ حولي من أطفال أن أجعلهم يقرأون عنوان الكتاب الذي أحمله، واسم المؤلف والناشر، والهدف تدريبهم على القراءة وتصحيحها لهم، وتعريفهم بالعناوين والمؤلفين والناشرين، وتقريبهم من الكتاب والقراءة. وقد سألت أحد الأطفال عن معنى كلمة “هجين” بعد أن أقرأته العنوان واسم المؤلف والناشر؛ فقال: نص ونص!

حديثي هنا عن كتاب اعتزاز وبيان وديانة ودفاع عن العربية الفصيحة، عنوانه: العرنجية بلسان عربي هجين، تأليف: الترجمان أحمد الغامدي، صدرت الطبعة الأولى منه عن تكوين للدراسات والأبحاث عام (1443=2021م)، ويقع في (224) صفحة مكونة من مقدمة ثمّ أربعة أبواب فالمراجع. وقد أحسن مصمم غلاف الكتاب حين اختار رجلًا يخلط في لباسه العربي بالإفرنجي، ولم يكن زيه خالصًا في صورة واحدة. ومن حسنات الغلاف تعريف المؤلف للقراء بأنه ترجمان كي لا يظن ظانّ أنه هاوٍ عرف شيئًا وغابت عنه أشياء، وهذا صنيع حكيم لا يُستغرب؛ لأن “تكوين” دار نشر متميزة.

كتب المؤلف الترجمان أحمد الغامدي مقدمة فيها قصة الكتاب ومضمونه، وبعدها يأتي الباب الأول من “العرنجية” عن معنى العربية الفصيحة، وبيان حقيقتها، وعظيم شأنها، ومغبة هجرها، ويتبعه ستة عناوين يقول آخرها: إن العربية ديانة وليست “هُوية ولا تراثًا”، ويبين ما قبله معنى العربية الفصيحة، ومحمدة الثبات عليها، ويوقفنا على بليّة التدوين بعربية لا عامية ولا فصيحة. أما عنوان الباب الثاني فهو: نشأة الفصحى المعاصرة وتاريخها، ويضم ستة عناوين تصف لنا فساد الذوق، ودهشة علماء العربية من هذا التبدل، ويدحض بعض المزاعم عن التجديد والتيسير.

ثمّ يجيء الباب الثالث وهو أوسعها؛ لأن فيه البرهان على عجمة عربية هذا الزمان، وهذا البرهان فيه أمثلة وافرة من النحو، والإماتة والتغليب والاستحياء، والصرف، ومتن اللغة، وأساليب الكلام وتراكيبه. ولكل عنوان مما سلف مسائل، وفيها جميعها أمثلة وشروحات، ونصوص من القرآن والسنة وكلام العرب الفصحاء، فترجمات عن الإنجليز، ونقولات من لغة العرنجية من المترجمين والكتّاب أنجانا الله وإياكم من دروبهم المردية؛ وحري بالقارئ الناصح لنفسه أن يديم النظر في هذا الباب والتقييد منه، وتكرار العودة إليه.

ويختم المؤلف كتابه بالباب الرابع عن تقويم اللسان وفيه نصائح علمية وعملية لتعلّم اللسان بالقراءة والسماع، مع الدلالة على كتب منشورة أو مسموعة، وقنوات مرئية على الانترنت، وأردفها بنصائح تعين على تقويم لسان الترجمان برًا بالعربية، وبأصحاب الصنعة، وبالقراء، ومما أحال إليه معاشر المترجمين موقع فريد بديع عنوانه “الرصائف”، وهو أشبه بتطبيق عملي يساعد الترجمان على معرفة العربي الفصيح، والإنجليزي الخالص؛ كي ينجو من “التعرنج”، ويسلم قراؤه لاحقًا من وحل هذه المنقصة. ويا ليت أن تجد هذه المشروعات وأضرابها من يتكفّل بها خدمة للعربية الفصيحة، وتعبدًا لله رب العالمين قبل ذلك، وقمين بأقسام اللغة والترجمة في الجامعات أن تولي هذا الكتاب ما يستحقه من قدر عليّ، وأن تنسج على غراره مع لغات أجنبية أخرى.

وفي الكتاب جمل مهمة يكاد أن يدور عليها، منها أن الترجمة منذ قرن ونصف تقريبًا لم تراع الفرق بين لغة العرب ولغة الإنجليز؛ فأثرت على لغة المترجمين والكتّاب والقراء حتى جعلتها عربية المظهر إفرنجية الباطن. ومنها أن النحو على أهميته فليس بأهم من تقويم الأساليب والتراكيب والكلمات وحفظها من أخطاء أشنع من اللحن؛ فالمراد بالكلام الفصيح ما وافق كلام العرب في قوانينه وأساليبه واستعمالاته وليس في ضبط نحوه وإعرابه فقط.

كما نبه المؤلف الترجمان إلى أنه مع خطر التدوين بالعامية إلّا أن الكتابة بلغة “العرنجية” أسوأ مغبة منها لما فيها من خفاء على جمهرة القراء، وإيهام بأنها صواب مبين خاصة عندما يحكيها أديب أو يكتبها لغوي أو مؤرخ، وخطر لي حين قرأت ذلك التفريق بين البدعة والمعصية. ومما ورد في كتابنا الجميل أن الذوق هو الملكة المتحصلة في النفس؛ فيميز بها صاحبها الخطأ من الصواب، ويصل له المرء بكثرة القراءة في الأصول مثل القرآن والسنة وإرث العرب الأوائل. ولم يملّ مؤلفنا الموفق من التذكير بأن الخلاف ليس في ألفاظ وتراكيب فقط؛ وإنما في عربية تبدلت حتى لو قيل لكثير من كلام المعاصرين: ارجع إلى أصلك لما بقي منه شيء!

وقد شكر المؤلف الغامدي في المقدمة علماء ومترجمين وشعراء أعانوه بالمراجعة والتسديد والاقتراح، وخلع عليهم من الأوصاف ما هم أهل لها وزيادة، وهم المترجم يحيى فتحي، والمترجم علي أدهم، والشيخ سالم القحطاني، والشاعر أيوب الجهني، والشيخ فيصل المنصور، وأسأل المولى أن يجزيهم والمؤلف أحسن الجزاء على غيرتهم، وبيانهم، ومصابرتهم، فهم من الأسماء المعروفة، ولبعضهم حسابات وقنوات نافعة مفيدة، تجاهد من أجل سلامة اللغة وتنقيتها، وإبقاء الذوق العربي الصافي من الشوائب والأكدار.

ولن ينغصّ على الكتاب أو يغضّ منه ما يُقال أو يحتمِل إيراده من وصمه بالتشدد أو علو الكعب وصعوبة المراد؛ فاللغة عزيزة، وسمة المطالب أن تكون عالية رفيعة كي يقترب منها المستجيبون، ويدنو إليها الواحد منهم بلا بُعد عن حدودها، أو انحراف عن سبيلها. ومن البدهي أن في جزء من آراء الكتاب أقوال أخرى واجتهادات مخالفة، ولا يسلم من اعتراض كتاب بشري البتة، وإنما المقصد التنبيه إلى الغاية التي انبعث المؤلف لتجليتها، والغرض المأمول من الكتاب بلوغه.

لذا فإني أدعو نفسي، وجميع الكتّاب والمترجمين، وأيّ محبٍّ للعربية ومعتن بها أو دارس لفنونها، أن ينظر في هذا الكتاب الفينة تلو الفينة، والكرة بعد أختها، عسى أن يكون سببًا في إصلاح الذهن واللسان والقلم والذوق، والخلوص من “عرنجية” قديمة بعد الاستغفار منها؛ فالعربية مقدسة مقدمة، وليس حسنًا أن تدهمها العجمة الظاهرة أو الخفية؛ فاللهم سلّمنا ومن يقرأ من صفات “العرنجية” ومسالكهم، ولا تجعلنا من زمرتهم لا في قليل ولا في كثير، وهذا الدعاء قلته لنجلي سعود إبان حديثنا عن الكتاب فأمن الفتى الفصيح وهو يبتسم!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 16 من شهرِ صفر عام 1444

12 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. “أدعو نفسي، وجميع الكتّاب أن ينظرو في هذا الكتاب الفينة تلو الفينة”، أليس لديكم دعوة أخرى للكتّاب، كيف لهم أن يستعيدوا شغفهم للكتابة،” كم مرّ من الوقت دون أن أكتب شيئًا! اجتزت في أيام معدودة قرونًا من التخلي القَلِق عن الكتابة. لقد أَسِنْتُ مثل بحيرةٍ مقفرة، وسط طبيعةٍ لا وجود لها من الأصل!حينما أرغب الكتابة، بلغة سليمة او عرنجية لايهم! المهم أن أكتب بذات الروح المُحلقة! أريد عودة الشغف كما كان! ” ليتني كنت شخصًا آخر قادراً على رؤية مشهد احتضار الكتابة دون أن تربطني به علاقة، النهار لا يعدنا بأكثر من النهار، و شيخوخةٌ تصاب فيها الكلمات، إحساس فرح يصيبنا حين نكتب لكن بتفكير أشدّ حزناً”، تتجسد صورته أمامي كلما أردت الكتابة! من الذي ربطها به! خذ عود ثقابك وأحرق أوراقها الخريفية! في ماذا تجدي حروفنا نفعًا والجبال على كبريائها انكسرت لها شرائط الشمس،
    يا ترى ما شعور الكاتب إزاء حرائق الغروب!
    ام ماهو شعوره وقمره المسائي مُنكسرٌ أتلفه البُعد!
    ليس مهماً، لكن كان يجب أن يتعلم جميع الكتاب أن الكتابة هي النسيان، تجاهل واقع الحياة، لن يحزنني أني أكتب وهو لا يقرأ! يبدو أن الكتابة هي الوجه الآخر لليأس!

  2. بارك الله فيك على هذه المراجعة القيّمة للكتاب. وفعلًا هو كتاب يستحق التنويه ولا بد على المترجمين من اقتنائه لتحسين أساليبه وتعريبها تعريبًا حسنًا.

    شكرًا لك أيضًا لجهدك العظيم المبذول في هذه المدونة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)