قلت مرة لبعض من شارك معي في جلسة للحديث عن القراءة جوابًا عن سؤال ورد حول أفضل الكتب العلمية والثقافية والمعرفية التي أنصح بها: الجواب عن مثل هذا السؤال صعب، نظرًا لاختلاف القدرات والأمزجة، ولكثرة الجديد مما يجعل من المتابعة أمرًا عسيرًا، ولتباين الأحوال وواجبات الوقت والمكان، بيد أن بعض المكتبات والناشرين والمؤسسات لا يصدر عنها كتاب تافه فيما رأيت، وإذا كان عنوان الكتاب الصادر من تلك الكيانات الثقافية محور اهتمام القارئ؛ فغالبًا لن يندم على شرائه، وضربت لهم مثالًا على دور النشر والمكتبات بدار الغرب الإسلامي في تونس، وعلى المؤسسات بسلسلة عالم المعرفة الكويتية.
إن عالم المعرفة سلسلة ذهبية –وربما أشد نفاسة– مكونة من كتب ثقافية تصدر في بداية كلّ شهر ميلادي، وتأخذ أرقامًا متوالية تناهز الخمسمئة حاليًا، ولها نفس الحجم مع اختلاف في شكل الغلاف ولونه وعدد الصفحات بين عدد وآخر، مع تجديد تصميم هوية الإصدار بين آونة وأخرى. وقد صدر العدد الأول منها في شهر يناير عام (1978م)، واستمر كذلك ولم يتوقف إلّا ثلاث مرات أولاها عقب الاحتلال البغيض، وآخرها مع أزمة كورونا، والتي بينهما لسبب لم يتضح لي ما هو، وأتمنى ألّا يكون لهن رابعة.
تهدف هذه السلسلة الثمينة إلى تزويد القارئ العربي بمادة جيدة من الثقافة في جميع فروع المعرفة، إضافة لبيان أحدث التيارات الفكرية والثقافية المعاصرة. انبثقت فكرة مشروع عالم المعرفة بناء على اقتراح مقدم في ورقة عمل من د.فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت منذ عام (1974م). اشترط د.زكريا أن تكون المادة رزينة في محتواها، نافعة في نتيجتها، جميلة في طباعتها، مراعية للشخصية القومية، ومدعومة من الحكومة كي تصبح النسخ شعبية في متناول اليد؛ إذ لا فائدة من طباعة فخمة فاخرة يصعب اقتناء نسخة منها على القراء البعيدين عن الثراء وما أكثرهم!
لذلك يُطبع من كل كتاب أربعون الف نسخة وأكثر فيما مضى، ثمّ نقصت أخيرًا لتصبح أزيد بقليل من ثلاثين ألف نسخة وفي كلٍّ خير. ومع أن ثمن النسخة الورقية مناسب جدًا، وعدد النسخ المطبوعة أكثر من المتعارف عليه عربيًا، إلّا أن الكتب متاحة إلكترونيًا بسعر زهيد. في نهاية كل ّكتاب يخبرنا المشرفون على السلسلة عن عنوان الكتاب القادم مع مختصر لطيف لفكرته من بضعة أسطر، مما يدل على عمل محكم مخطط، ضمن مشروع متابع من أصحاب رسالة، وحملة هم وقادة فكر. وقلّما يعاد طباعة أيّ كتاب مرة أخرى؛ بيد أنه سبق مثل هذا الإجراء، ومن الكتب المعاد طباعتها كتاب التفكير العلمي الذي ترجمه د.فؤاد زكريا، وهذا صنيع مع صنائع حميدة أخرى فيها وفاء تجاه صاحب الفكرة الذي كرم من الكويت حيًا وميتًا.
تتبع هذه السلسة للمجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون بالكويت المؤسس عام (1973). هو مجلس يشبه منارة الإشعاع طوال العام عبر إصداراته، ومعارضه، وندواته، ومجلاته، وأنشطته المساندة للغة العربية، ولثقافتنا. يؤكد هذا المشروع على حرص الكويت ومؤسساتها على الثقافة واستنارة العقول، وهو مشروع له أخوات في الكويت نفسها تتبع وزارة الشؤون الإسلامية وعلى رأس إنتاجها الموسوعة الفقهية، أو مركز البحوث الكويتية الذي يقف على رأسه العالم والأستاذ الجامعي والوزير الكبير معالي أ.د.عبدالله بن يوسف الغنيم.
كما توجد أعمال في بعض الدول العربية، مماثلة لفكرة عالم المعرفة الكويتية مع بعض الاختلاف، مثل المركز القومي للترجمة، والهيئة العامة للكتاب وكلاهما في مصر، وهيئة أبو ظبي للثقافة في الإمارات، ومطبوعات وزارة الثقافة السورية، والمطبوعات القطرية والعمانية، وإصدارات دارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك عبدالعزيز، وما تطبعه عدة مؤسسات ملكية في المغرب والأردن. ما أحوج القارئ العربي لمعرفة منابع الكتب في وطنه العربي الكبير، والحصول عليها إهداء لمن يستحق، أو بثمنها المعقول.
من حسنات هذه السلسلة، ومحاسنها جمة إذ أنها من غرر الثقافة في عصرنا، أن اسم مؤسسي هذا المشروع ثابتين في رأس كل كتاب، وهما أحمد مشاري العدواني، ود.فؤاد زكريا، وهذا من الوفاء وحسن العهد. ومن ضمن الحسنات الاستمرارية بلا انقطاع إلّا للقاهر من الأسباب أبعدها الله. ومنها جودة الترجمة والمراجعة، والحرص على اللغة العربية ومتطلبات البيئات المحلية، وإضافة بعض الحواشي التوضيحية، وحسن انتقاء الكتب والعناوين، وإعادة نشر بعض القديم، ووضع اسم الشهر الهجري ورقم السنة القمرية في كل عدد. ومن بديع طريقتهم إضافة قائمة بعناوين جميع الكتب المنشورة ضمن السلسلة في نهاية الكتاب الذي يصدر في شهر ديسمبر من كل سنة.
ومن المقترحات التي آمل مراعاتها من قبل السلسلة والإدارة الرائعة لها، أن تسعى لجعل الأعداد متاحة في منافذ البيع مثل بقية الكتب، لا أن يُتعامل معها مثل المجلات التي تُرفع من رفوف العرض بعد شهر أو شهرين، ثمّ تودع في المخازن والمستودعات التي تشبه المقابر أحيانًا! ومما أتمناه أن تصبح هذه الكتب متوافرة في أكبر عدد ممكن من المكتبات والأسواق ومنافذ البيع؛ لأن البحث عنها لغير المشترك فيه شيء من الصعوبة، وأن يكون لها أكثر من وكيل محلي، وكذلك تسهيل الاشتراك عبر الموقع من خلال إضافة خيار الدفع الإليكتروني.
أيضًا من المقترحات معالجة حجم الخط بتكبيره قليلًا أو توضيحه، وحثّ المترجمين أو المراجعين على وضع توضيحات أو تحفظات على بعض أفكار المؤلفين الأجانب المنطلقة من حضارتهم وفهمهم ورؤيتهم لبقية العالم، وإن أمكن كتابة ملخص قصير للكتاب فطيب. ومع شكري لمستوى التجاوب من الزملاء والزميلات في المجلس؛ والثناء على التجاوب الحسن وسماحة النفس التي تفيض منهم، إلّا أني وعامة محبي هذه السلسلة سوف نسعد عندما يكون الرد على الرسائل والأسئلة التي تصلهم أسرع.
وحتى لا أترك قارئ المقال دون إيراد بعض المواقف الجميلة مع هذه السلسلة، أقول إني طلبت من أحد الأصدقاء الكويتيين القادمين إلى المملكة إحضار نسخة من أحد كتب عالم المعرفة ترجمه أ.د.إمام عبدالفتاح إمام، وحينما فعل مشكورًا قال لي: لأول مرة اكتشف هذه المؤسسة المجاور موقعها لمنزلي! وأوصيت بعض شباب الأسرة أن يذهبوا للمجلس خلال زيارتهم للكويت كي يحضروا لي نسخة من بعض الأعداد القديمة؛ فانبهروا من ضخامة المستودع، وبثقة الموظفين الذين تركوهم وحدهم خلال البحث وجمع الكتب.
ووصل أحد الاشتراكات للبريد بعد أن كتب عليه بالخطأ عنوان يختلف عن عنواني فذهب لغيري، ولم يقصر الزملاء في المجلس إذ أرسلوا لي نسخة بديلة، وهكذا فعلوا عندما أخبرتهم بأن بعض الأعداد لم تصلني بسبب أخطاء بريدية. وزرت مرة جناح المجلس في معرض الكتاب بالرياض فأكرمني الموظف الحاضر فيه بنسخ مجانية من بعض الأعداد، وذهبت لجناح المجلس في معرض الكتاب بالقاهرة فوجدته مزدحمًا بصفوف من القراء؛ وكلّ صف ينتهي عند عدة نسخ من كتاب، والمحظوظ من وصل إلى الرف وفيه نسخة واحدة على الأقل؛ وهي واقعة مذهلة حقًا.
لذا فلا عجب أن يروي د.فؤاد زكريا في تقديمه لأول كتاب صدر من السلسلة بعد تحرير الكويت نقلًا عن شاب عربي لم يزر الكويت قوله: “إنني لا أعرف الكويت إلا بوصفها منبعا للثقافة“! وهذا من أنجع أدوات القوة الناعمة في الانتشار وجلب الولاء، ولأهمية هذا المسلك وحكمته الراشدة قال مصطفى أمين بعد جولة طويلة في البلاد العربية: “لو أغلقت الحكومة المصرية عشر سفارات، وأبقت مجلة الرسالة؛ لكان خيرًا لها وللعرب!”.
حفظ الله بلادنا والكويت وأهلها ومجلسها الثقافي المنير وبقية مؤسساتها. إن هذا المجلس العريق الشامخ ليؤكد لنا الثقة بالقارئ العربي ويعززها، ويعطينا الفرصة تلو الفرصة للاستمتاع بدهشة مع ما ينتقونه من عناوين كتب مؤلفة عبر علماء وكتّاب عرب، أو مترجمة إلى لغتنا الجميلة بلسانها القويم. أسأل المولى أن يوفقهم للمضي بلا عثار، ولمزيد الانتشار، فالقراءة عالم من المعرفة، عالم من المتعة، عالم من الدهشة، عالم من الوعي.
الرياض- الجمعة 14 من شهرِ محرم عام 1444
12 من شهر أغسطس عام 2022م
One Comment
الأخ احمد
مقالة رائعة
استمتعت بقراءتها بتمعن واعجبني ما قلته عن الكويت وغيرها من الدول العربيه
ماشاء الله
وللاسف فيه تأرجح في الجوانب الثقافيه الآن وقريبا نرجع لمجدنا في هالجانب