وتداعت الأمم علينا!
أوتي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، فجاء أمره تاماً، ونهيه واضحاً، وإخباره مكتملاً، وأما وصفه صلى الله عليه وسلم فمما يحار المرء في وصفه بما يستحق، فقد جمع الصورة الكاملة الواضحة، والإشارات الظاهرة والخفية، وإيقاف السامع على واقع الحال وكأنه يراه، حتى إذا ما عاصره حلف بالله غير حانث؛ أن هذا هو عين ماوصفه النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام.
واليوم، حين تجوب أجواء الشام المبارك طائرات النصارى التابعين لكنائس الغرب والشرق، وطائرات النظام النصيري الباطني، وسلاح الجو اليهودي، فضلاً عن امتلاء أرض الشام بجنود من مختلف الملل والنحل، ما بين نصيرية، وروافض، وغلاة، وخوارج، وفرس، وعجم، وعرب، وأعراق شتى، وتحيط بالبحر المتوسط سفن وبوارج للبوذيين وغيرهم من النصارى والروافض، فحينها لا يملك المسلم إلاَّ أن يستحضر حديث ثوبان رضي الله عنه، مصلياً ومسلماً على من أخبر به.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟! قال: “بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةَ مِنكُمْ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ”. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهَن؟ قال: “حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ”. أخرجه أبو داود (4299) وأحمد (37/82) بإسناد جيّد.
وفي هذا الحديث العظيم دلالات وحقائق مهمة، لا يسع المسلم إلاَّ أن يقف عندها، فمنها:
أولاً: هذا الحديث الشريف إخبار بغيب قد وقع، وهو من دلائل النبوة الصادقة.
ثانياً: في قوله “يوشك” دلالة على قرب وقوع هذا الحدث الجلل، وأنه بعد انتهاء عصر النبوة؛ لاستحالة توافقه مع وجود النبي عليه الصلاة والسلام، وهو المنصور بالرعب، الملقى في قلوب العدو.
ثالثاً: شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته حين حذرها من الحال المهين، وأبان لها سبب الصيرورة إليه؛ وهو سبب يتضمن طوق النجاة لمن شاء أن يتجنب هذا المصير، فغاية الإخبار التحذير لمن كان له قلب.
رابعاً: توحد الكفار ضد المسلمين، فهم من أمم شتى، بيد أنها تنادت وتداعت وتوحدت علينا نحن أمة الإسلام، وجاءت من كل أفق قريب وبعيد. والعجيب أن هذه الأمم منضوية تحت ميثاق هيئة الأمم، الذي يدعو للأمن والسلم، وعدم التدخل بشؤون الاخرين!
خامساً: أن هذه الأمم الباغية قد امتلئت بغضاُ وحقداً على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فأقبلت بشراهة كمن ينوي ألاَّ يبقي ولا يذر، وفي إقبالها المشترك وتداعيها دليل على التآمر قد يقنع من ينفي المؤامرة كلياً.
سادساً: أن هذه الأمم المعتدية تستهدف المسلمين في دينهم، وأنفسهم وديارهم، وثرواتهم، فكل المصالح حاضرة في عداء أمم الكفر لنا، وبالتالي دعى بعضهم بعضاً ليعبَّ من غنائمنا؛ وينهل دونما منغصات!
سابعاً: أننا سنكون لقمة سائغة للعدو، يسطو علينا صفواً عفواً؛ بسبب ضعفنا وفرقتنا وهواننا، دون أن يصاب الأعداء بضرر، أو تلحقهم مشقة من جراء العدوان.
ثامناً: أن النصر ليس بكثرة العدد، ولا بجودة العتاد، مع أهميتهما وضرورة الإعداد والاستعداد المبكر.
تاسعاً: أن أمة الإسلام ستبلغ في تعداداها رقماً ضخماً كبيراً، وقد تفوق أعداءها؛ ولكن لا قيمة لهذا العدد!
عاشراً: أن كثيراً من المسلمين حينذاك يشبهون الغثاء، وهو ما يحمله السيل الجارف مما لاقيمة له، أو تشوبه الأوساخ وتختلط معه. وهذا الوصف الكاشف يشير إلى الفرقة، والضعف، ودنو الهمة، وسفول القدر، وسفاهة الأحلام، كما ينبه إلى أننا نصل إلى حال من الضعة؛ بحيث ننجرف مع التيار، دون أن يكون لنا خيار في تحديد المسار.
أحد عشر: أن أمم الكفر كانت تهاب أمتنا، ثم نزعت الهيبة منَّا، وإن شيئاً كان موجوداً ثم اختفى لحري بأن يعود؛ إذا وجدت الأسباب، وانتفت الموانع، وماذلك على الله يعزيز.
ثاني عشر: في الحديث تقرير لسنّة الله الكونية؛ بربط الأسباب بمسبّباتها، حيث زالت هيبتنا من صدور الآخرين حين ابتلينا بالوهن؛ وهو: حبّ الدنيا وكراهية الموت.
ثالث عشر: ذم الركون إلى الدنيا، والتكالب على ملاذها، وليس من بأس أن تكون الدنيا الحلال بأيدينا؛ وإنما البلاء كل البلاء أن تكون مستقرة في قلوبنا تأمر وتنهى!
رابع عشر: أثر ترك الجهاد والقتال، فإن سر قوتنا كامن في الإقبال على الموت، ولن يقبل على الموت عاص أو منافق. واللافت المحزن أن صوت “السلام”، يرتفع من حناجر “زعماء” أمتنا فقط، بينما تقرع القوى العالمية طبول الحرب! ثم تتحول حمائم السلام هذه إلى ذئاب ضارية على شعوبها!
خامس عشر: أن هذا الحديث حجة علينا، فقد عرفنا العلة ووصفها، وأسبابها وسبل علاجها، وليس علينا إلا السمع والطاعة لخيرة الله من خلقه صلى الله عليه وسلم.
ولأننا أمة ذات مرجعية شرعية عليا، وقد تحقق فينا ما أخبر به رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فلا مفر من البحث عن علاج عللنا من ذات الطريق الذي علمنا به وجود العلة وسببها، ولا خير لأمة الإسلام إلا بالتقرب إلى ربها جل وعلا، وإتباع نبيها صلى الله عليه وسلم، والنظر في الوحيين الشريفين، والسيرة العطرة، وتاريخ دولة الخلفاء الراشدين، وفي ذلك النجاة والرشاد.
ففي القرآن يقول ربنا: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد الآية:11)، ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53)، ونحن أمة قد بلغ بها التغيير السلبي أن انسلخت من كثير من فرائض الدين وسننه، واتبعت سنن المجرمين، وقلدت الأعداء وخضعت لهم، وسكتت عن العدوان على مقدساتها، وديارها، ودمائها، بل وسوغته أحياناً إن لم تشارك فيه! فما أجدر الأمة بمجموعها وأفرادها أن تؤوب إلى أمر ربها، لتعلمه، وتعمل به، وتدعو إليه، وتنافح عنه، وتقاتل دونه، وهذا هو التغيير المنشود.
ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو دواود في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”، فالوصف واضح، والمآل بيِّن، والعلاج لاحب لاغبش عليه، وإنما الشان هو: متى يرجع “المسلمون” إلى دينهم؟
وفي السيرة العطرة الزكية، لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى وهو يعاني مرض الموت، فقد قاد المعارك، وعقد الألوية، وسيَّر الكتائب، وفعل ذلك جنباً إلى جنب مع الاتفاقيات والمعاهدات، وإيفاد الرسل، وبعث الكتب، فليست الدولة ذات قيمة مالم تكن مستعدة للحرب والقتال، وفي ذات الوقت تفتح الباب لمن ألقى السلم دون هوان، أو إعطاء الدنية. وقد فهم الصديق الأكبر رضي الله عنه هذا البعد في سيرة خله عليه الصلاة والسلام، فأنفذ جيش اسامة في وقت عصيب عصيب، وأوقع الرعب في قلوب كثيرة؛ مريضة أو ضعيفة.
وأما تطبيقات الخلافة الراشدة فلا تخلو أيامها الزاهية من حق يوضع، وباطل يرفع، وراية تعقد، وبلاد تفتح، ودول تزال، وحضارات يعلى عليها، مع نشر العدل، والالتزام بالخلق الكريم سلماً وحرباً، دون أن يكون مستندهم “شرعية” دولية، ولا مواثيق أممية، وإنما تربية محمدية، ومنهاج رباني، ولم يكونوا حينذاك أكثر الأمم ولا أقواها، بيد أنهم آمنوا أن الحياة قصيرة، والموت لامناص منه، وأن مردهم إلى الله؛ فأخلصوا العمل، ونبذوا الدنيا مقبلين على الدار الاخرة، وأحسنوا حمل رسالتهم السامية للعالمين.
وحين ننتقل من الحديث عن وحينا المقدس، ومن استعراض النموذج الأمثل للدولة الإسلامية، يتبقى علينا خطاب للأمة الإسلامية بأفرادها وكيانتها ومجاميعها، بعيداً عن دولها العاجزة، أو المكبلة، أو المتواطئة، فمتى يعود للأمة رونقها وتعي حقيقة استخلاف الله لها؟ وكيف تستعيد مكانتها، وتأخذ حقها الشرعي بالمشاركة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراقبة، وقول “لا”، لكل أمر يجلب لها شراً أيّا ًكان مصدره؟
ومتى تصبح أمتنا على قلب رجل واحد، مستعلية على مكر السياسة، ومتجاوزة تقسيم الجغرافيا، فلا يتألم منها جزء إلا هبت لنصرته ورفع الضيم عنه؟ وأي سبيل قويم يتوجب سلوكه؛ لإيصال رسالة الله الخالدة للناس كافة، حتى يتحقق موعود الصادق الأمين: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر” أخرجه أحمد (4/ 103).
وإن العزة بعد الذلة ليست أمراً مستحيلاً، ولا حلماً بعيد المنال، ففي الواقع نفضت أمم عن نفسها غبار الهزيمة وذلها؛ وأصبحت الآن قوة عالمية مؤثرة، وفي الحساب العقلي لكل عمل نتيجة، وكل جهد بني على رؤية سيبلغها أو يحوم حولها إذا بذلت الأسباب الحقيقية، وفي كتاب ربنا، وسنة نبينا من البشائر ما لايخفى، فالأرض لله سيورثها لعباده الصالحين، ولن تقوم الساعة حتى تعود الخلافة على منهج النبوة، منهج الرحمة في مكانها، والملحمة في موضعها، والحكمة في جميع أحوالها.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 08 من شهرِ الله المحرم عام 1437
22 أكتوبر 2015 م