إدارة وتربية عرض كتاب مواسم ومجتمع

الحج: تأمل وحركة

الحج: تأمل وحركة

الحج عبادة فيها صرف الوقت، وبذل المال، وإجهاد البدن، والثمرة هي إحياء القلب، وإنعاش الذهن، وتزكية النفس، وإذكاء الروح. وإنه لركن عظيم يجمع بين التأمل والحركة منذ أن ينوي المرء الشروع فيه إلى أن يوافي الموسم الميمون ثمّ ينفتل منه إلى أهله، ويقيم في دياره، مع أن روحه وأحاسيسه تسكنها تلك المشاعر والمناسك، وتستولي عليها أيامها التي لا تُنسى، ورحلتها التي لا تُجارى؛ ذلك أنها رحلة على طريق الأنبياء والصالحين، والغاية المقصودة بيت الله الآمن الحرام وجواره الطاهر، عسى أن يظفر الحاج بخلوة يجد فيها نفسه عند طاعة مولاه ومراضيه، فيسعد ما بقي له عمر، ويغنم حين يرتحل من على ظهر هذه البسيطة، وتقوم قيامته الصغرى ثمّ الكبرى.

ويرتبط الحج بإمام الأنبياء وقائد الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبجمع من الأنبياء أوصلتهم بعض الروايات إلى سبعين نبيًا عليهم الصلاة والسلام، بيد أن النسك لا يقع إلّا على شريعة النبي الخاتم صاحب الدين الباقي صلى الله عليه وسلم، وإنها لإشارة بالغة الأهمية بليغة الدلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يشيّد مكانًا للعبادة على ظهر الأرض سوى الكعبة المشرفة، ولا يصح دين وجهته ليست شطر المسجد الحرام، ولا على منهج يخالف دين الرسول النبي الأمي المبعوث من تلك الأصقاع إلى الناس كافة.

كما أن الحجاج سوف يشاهدون الكعبة التي جعلها الله قيامًا للناس، ويطوفون حولها، وإنها لعزيزة في قلوبهم، حبيبة إلى نفوسهم، تذوب لها المهج شوقًا، وتذرف العيون دموعها على مشارفها وحين تلمحها، ولربما أن بعض المحبين يفقد الوعي من هول المنظر المهيب، وشدة الوجد. ومن لفتات الكعبة المشرفة أنها غالية محفوظة تُكسى السواد فيزينها ويزيدها شرفًا، وهي عند أهلها ذات مكانة وتقدمة حتى لو كانت مجرد بناء مكعب بلا إضافات.

ومما يرتبط بالكعبة أنها على قيمتها الغالية، وقدرها الرفيع؛ إلّا أن سفك دم المسلم بغير حقٍّ أشد حرمة عند الله من هدمها. ومع رخص المال المدفوع لأجلها؛ إلّا أن إطعام البطون الجائعة، وترطيب الأكباد العطشى، أولى منها كما حكم بذلك وأفتى الخليفة عمر بن عبدالعزيز. وربما يكون للطواف حولها سبعة أشواط ارتباط مع سباعيات السماء والأرض، لكننا نجهل سره ولم نحط بخبره علمًا.

ونتذكر في الحج أمنا هاجر رحمها الله ورضي عنها، تلك المرأة المنقادة بيقين لأمر ربها وخالقها، الراضية بقدره وتدبيره، الطائعة لزوجها، المقتنعة باختياره ورأيه، ومع ذلك كله لم تحبس نفسها عن التحرك والبحث والمحاولة، حتى أصبح سعيها ركنًا وشريعة باقية، وأسال الله الماء المقدس المعجز من بين أقدام طفلها الذي تنتسب له أمة كبرى، ويعود بالبنوة إليه آخر الأنبياء والمرسلين وخيرهم؛ فما أعظم موقع المرأة حينما تنطلق مؤثرة عاملة وفق الحدود الإلهية، والمقتضيات الشرعية، وحسب الأولويات والأعراف السليمة لا حسبما يقول أهل الأهواء.

ويؤكد الحج على وحدة الأمة التي أزالت علامات الفرقة من لباس ولغات وأعمال، وذابت في مجموع واحد يتدفق مثل شلال نهر عذب طاهر، لباسه متماثل أو متشابه، ولغتهم تكاد أن تكون مفهومة؛ فالجميع يقولون الكلمات والعبارات ذاتها، وكل واحد منهم يطوف ويسعى ويقف ويبيت ويرمي دون أن يكون بين أفعالهم كبير فرق، فالوقت يستوعب، وبعض التقديم والتأخير متاح، والقاعدة النبوية الواضحة تقول للسائل أن افعل ولا حرج، وهي قاعدة مضبوطة لا يمكن تمييع الأحكام بواسطتها، ويستحيل بموجبها تعسير النسك على عباد الله.

كذلك يثبت الحج بقاء الدين والأمة المؤمنة به على كثرة ما تعرض له هذا الدين من محاولات تشويه أو تحريف أو اجتثاث، وعلى أليم ما نال أهله من البلاء والقتل الذي يفني أو ينقص العدد، إضافة إلى المصاعب الجمة بما يجعل المجيء لتلبية النداء كلفًا إلّا على قوم خالط الإيمان شغاف قلوبهم، ولا تستطيع قوة مهما كانت أن تنتزع منهم حب الكعبة والبيت الحرام والمشاعر والمناسك، والشوق لزيارة هاتيك الديار التي لا تغيب عن عين المسلم ووجدانه ورجائه.

وفيه ترتقي الأرواح، وتقترب من خالقها الذي وهبها نفخة مقدسة من روحه، وتزداد النفوس عزة، وتبقى الدافعية لمقاومة الشيطان وجنوده حية في النفوس، بل ينبعث الحذر من مرقده؛ لأن العدو متربص لا يفتر، ولا ينحصر في نوع واحد من المكر والخطر والكيد. وفي الحج فردية تتمثل بمسؤولية المرء عن نسكه وأخطائه، وفيه جماعية بذوبان الواحد مع العدد الغفير المعسكر مثل جيش منتظم، أو طوفان أبيض من البشر، يصنع الخير، وينطق به، وينويه دومًا، ويئد الشرور صغيرها وكبيرها.

أيضًا يمنح الحج أهله معنى الحياة؛ كي لا يكون الإنسان مجرد متفرج مفعول به. ويعين الحج أهيله على تطهير النفوس والقلوب تمامًا كما تنظف الأبدان والملابس ساعة الشروع في الإحرام؛ حتى يعود الحاج إلى فطرته النقية الخالصة من الشوائب، وتشرق بين جوانبه أنوار الوعي والسمو الروحي والبهاء الذي فطر الله عليه الناس قبل أن تجتالهم الشياطين، وهي لحظة تُكتشف فيها حقيقة الذات، وتستبين جواهر النفوس المختفية تحت غبار الأيام وسواد الليالي، وتنفضح عندها سبل المفسدين من قطاع الطرق المؤدية للرب العظيم سبحانه.

ثمّ إن الإنسان يتعرف على حقيقة نفسه في عرفات مع تساقط دموع عينيه في نهار ذلك اليوم وهو يبتهل ويدعو، إلى أن يخلو بنفسه في المشعر الحرام ليتفكر، ويزدلف لخالقه بالعزم على موافقة أمره ونهيه، مستثمرًا سكون الليل وهدأة الخلائق ونسائم الفجر؛ كي تترسخ لديه قناعة تسندها عواطف لاهبة باقية من يوم عرفة. وفي منى يكرر الحاج فعل الخليل عندما دحر الشيطان ورماه عسى أن تتحقق له المنى بصدق العبودية والتوحيد لله الواحد القهار.

ويذهب بعد تلك الجولات الموفقة صوب الكعبة بهوية جديدة صادقة متصالحة مع نفسها، راضية بمقتضيات ما آل إليه من حُكم وحِكم، لتصبح الكعبة قبلته الوحيدة، وتتحرر نفسه من وطأة الذات، وزخرف الدنيا وزينتها ومخاوفها، وتلك لعمركم أعظم حرية ينالها الحاج، ويقفل بعدها إنسانًا جديدًا في ذهنه وعهده وعمله، بل وفي شأنه أجمعه، ويجعل رباطه مع الكعبة ضابطًا لمسيرة حياته الفكرية والعملية والروحية؛ فالكعبة قبلة الصلاة، وبناء التوحيد، ووجهة الداعي، ولربما عاشت مع الحاج وعاش معها حتى لو كان بينه وبينها أمدًا بعيدًا.

من المهم أن أشير إلى أن أكثر الأفكار الواردة أعلاه كانت حاضرة في الذهن عند أيّ حديث أو كتابة حول الحج، وقد تجددت وأضيف لها غيرها من جنسها بعد قراءة كتاب ألفه عالم الاجتماع الإيراني د.علي شريعتي عنوانه: الحج الفريضة الخامسة، وهو الثامن من سلسلة الأعمال الكاملة لهذا المؤلف المفكر، ويقع في (335) صفحة من القطع المتوسط، وصدرت طبعته الثانية عام (1428=2007م) عن دار الأمير للثقافة والعلوم في بيروت بعد أن ترجمه للعربية عباس أمير زادة، ويحوي الكتاب كثيرًا من الملامح والأفكار لم أتعرض لها.

ألا ما أعظم فريضة الحج؛ فهي جهاد بلا قتال، ومن صور الجهاد فيها أن عباد الله المؤمنين يغيظون الكفار والمنافقين بموافاة الموسم، وأداء النسك وفق السنة، وبإظهار معالم القوة واللحمة والإخوة، ثم القفول بتوبة نصوح وأوبة أواه منيب. وما أعظم الحج الذي يدافع فيه الحاج أعداءه بداية من هوى النفس إلى من بعدها من أعداء ظاهرين وأخفياء. وما أعظم الحج الذي يوثق صلة المسلم بالقوة الروحية، وبالقوة الجسدية المتعانقة على طول الزمان مع الرمي، ومع التيقظ البصير لأي عدو كامن، أو محتمل، أو مجاهر.

إن الحج يجعل حياة المسلم حياة حراك إيجابي مفيد، بلا سكون أو خمول، وتصنع بين الحجاج ألفة وتضامنًا وإن لم يستطع بعضهم التعبير عنه، وتجعلهم سواء في الخضوع لله والانقياد له، ويفهم المسلم منه عمومية دعوة نبيه، وعالمية رسالته، ويعي أنه جزء من قبيلة أو مدينة او بلد دون أن يتعارض ذلك مع كونه جزءًا من أمة لها دين قويم كما لغيرهم ملل ونحل. وإن التعبد بجوار البيت العتيق ليهب المرء شحنات من شريف المعاني وسامي المفاهيم التي ترفع من مستوى الأنفة والاعتزاز في ذهنه وروحه، هذا غير ما تودعه في قلبه ونفسه من آثار خالدة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 04 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1443

03 من شهر يوليو عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الاديب احمد حفظه الله ورعاة على هذا المقال الشارح للصدر عن الحج . متمنيه ان ننال ثوابه وان منعتنا ظروفنا القاسية عن ايدائة . متمنية لكل الحجاج هذه السنة حجا مبرورا وذنبا مغفورا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)