نجد ومفاتنه الشعرية
سيظلّ حب المكان والحنين إليه منغرسًا في نفوس البشر وإن شرقوا أو غربوا، وحتى لو ابتعدوا عن مرابعهم طوعًا أو كرهًا؛ ذلك أن قلب المرء متعلق في الغالب بمسقط رأسه، وملاعب صباه، ومراتع شبابه، ومواضع آبائه وأجداده، وقبور السالفين من أسرته. وهذا الحنين مئنة على وفاء صاحبه وحسن عهده وكريم عشرته؛ فلا يتنكر للزمن خاصة الطويل منه، أو للبقاع خاصة المرجعية منها إلّا -حاشاكم- عديم المروءة، وخالٍ من مكارم الأخلاق وفضائلها. ومع أن هجرة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وصحبه المكيين إلى المدينة كانت عبادة وقربة وطاعة، إلّا أن الشوق لمكة وجبالها لم يبق حبيس تلك النفوس الطاهرة الكريمة، وشواهد السيرة الشأن في هذا معروفة.
وقد جعلت على رفوف المكتبة أمام ناظري هذا الكتاب، وصيرته واقفًا تجاهي خلافًا لكثير من الكتب على أمل أن تتاح لي فرصة الكتابة عنه مع أن قراءتي له قديمة جدًا، وهو ماكان هذه الليلة من شهر شوال الذي يلازمني فيه سهر بلا اختيار ولا رغبة. عنوان الكتاب المراد هو: نجد ومفاتنه الشعرية، جمعه وأعده وعلق عليه: خالد بن محمد الخنين، تقديم: الأستاذ الدكتور عبدالكريم اليافي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1413=1993م) عن الدار المتحدة للطباعة والنشر، ويقع في (475) صفحة مكونة من تقديم ومقدمة، ثمّ نجد في اللغة، وحدود نجد في الجغرافية، فصدى نجد في الشعر العربي، وأخيرًا ستة فهارس للشعر وتراجم الشعراء، والأعلام والأماكن، والمصادر والمراجع فالموضوعات أخيرًا.
أما المؤلف فأديب وشاعر من الدلم بالخرج، وقد عمل خلال إعداد طباعة هذا الكتاب ملحقًا ثقافيًا في السفارة السعودية بدمشق، وله عدة كتب أدبية وشعرية، وخبرات عملية ثقافية وإذاعية في المملكة والخليج، ونجمت لديه فكرة هذا الكتاب بعد أن اجتمع عنده كم لا بأس به من القصائد التي تستعلن بما تجده إذ تحنّ إلى نجد وتذكرها؛ فقرر التعمق في البحث إلى أن ضم مجموعه في كتاب يقف بشموخ في مكتبتنا المحلية والعربية، ولم يصرفه عن إكمال مشروعه ما في الشام من مباهج وحسن مناظر، ولذا حظي الكتاب بتقديم مسهب جميل من عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، ورئيس معجم العماد، وأستاذ علم الجمال في جامعة دمشق.
رجع الدبلوماسي الأديب الخنين إلى ألف كتاب وديوان، بيد أنه أفاد من عشر هذا الرقم فقط، وهو ما أثبته في مراجعه التي تفوق المئة بقليل. وقد رتب القصائد ترتيبًا معجميًا حسب القوافي، وابتدأ بالقافية المكسورة فالمضمومة ثمّ المفتوحة وأخيرًا الساكنة. ونسب كل قصيدة لمواضعها، وشرح الكلمات المبهمة أو التي تحتاج لإيضاح، ثمّ ترجم للشعراء من الرجال والنساء معتذرًا عن ترجمة عدد ممن لم يستطع الوصول إلى أيّ خبر عنهم في الكتب المعروفة، هذا غير ورود قصائد مجهولة النسبة ولا يُعرف لها قائل على سبيل الجزم أو الظنّ القريب من اليقين.
ويحتوي الكتاب على مئتين وواحد وثلاثين قصيدة، ويترجم لأربعة وثمانين شاعرًا، وهو خاص بالشعر العربي القديم، ولذا وعد المؤلف بأن يغوص في المراجع الحديثة ليستخرج منها ما قاله المحدّثون عن نجد شعرًا، وربما أنه قد فعل لأني وجدت من خلال البحث أن لهذا الكتاب القديم في مكتبتي طبعة حديثة من ثلاثة مجلدات. ولربما أن هذا الجهد الأدبي يحتاج إلى مثيل له في الشعر الشعبي الجميل الحافل بقصائد الحنين للمكان، ووصفه، والتغني به، والدفاع عنه، وإعلاء شأنه وقدره، ومن المقطوع به أن تراثنا الشعبي يحفل بأشعار رفيعة للشعراء الفحول الكبار.
ومن طريف ما أذكره أني استمعت لكلمة ألقاها فائز بجائزة الملك فيصل في الأدب العربي، وقال ما معناه إنه سعيد بتكريمه في ديار الشاعر الذي فتن به وبشعره. وإن مرجعية هؤلاء الشعراء لنجد ومواضعها، وما قالوه فيها لفرصة ثقافية وسياحية جاهزة للاغتنام لمن شاء في وزارتي الثقافة والسياحة وربما غيرهما كالإعلام والخارجية والتعليم. وفي هذا التراث الشعري الكبير سبيل لحسن المنادمة في ليالي نجد الصيفية والخريفية، وفي نهاراتها البرية المستعذبة شتاء وربيعًا، ولا ريب فكل الأوقات في نجد بديعة سواحر متميزة في أيامها ولياليها وفصولها ونجومها.
كما يرتبط بهذا الشعر مع اللغة وعلم البلدان، شيء من طبائع الإنسان وخصاله الشريفة من كرم وأنفة ونجدة وحمية وحرية، إضافة إلى ما اكرمه الله به من عفاف وتصون في أهله من الرجال والنساء، على كثرة تغزل الرجال وأحاديثهم عن الحب والعشق، وعلى ما في الحرائر من صباحة وملاحة وبهاء وجمال. وفيه طرف من أخبار التاريخ والوقائع وتراجم الرجال، وشيء غير قليل عن النبات والحيوان والماء والمناخ والجن والخيال.
حفظ الله بلادنا من جميع النواحي، وفي كل الأماكن، فنجدنا الشامخة، وحجازنا الأقدس، وشمالنا الأنيس، وجنوبنا الأشم المحروس، وشرقنا الكريم المعطاء، لا يوجد فروق جوهرية تحدث التباين بينها –باستثناء الحرمين الشريفين– وإن امتاز بعضها بزيادة أو تنوع في مجال أو حال فسنجد لدى غيره من المزايا والخصائص المنيفة الأخرى مثلها مما يوازن الكفة. ولا يوجد في الغالب خلاف معتبر في بناء شخصية الفرد العربي المسلم من أهلها وأناسها وتكوينه ومنطلقاته، فهو واحد أينما ذهب وحلّ، ومن أيّ مكان أتى سواء أكان قريب الدار أو نائيًا، حاضرًا أو باديًا، والله يديم عليهم مظلة الخير والإحسان والتوافق والأمن، مع رغد العيش وشكر المنعم وطاعته وحسن عبادته، ويعيذهم من المفسدين ومن نزغ الشياطين الذين لا يصدقون، ولا يخلصون، ولا يحسنون، ولا ينصحون.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
ليلة الأربعاء 24 من شهرِ شوال عام 1443
25 من شهر مايو عام 2022م
One Comment
نهوى المكان حيثما كانوا، نجد كانت ولا تزال مهوى أفئدة الشعراء، وقلبٌ ندّي ينبض للقاء العشاق كما ذُكر وصفها في الشعر القديم والحديث، ومن أعذب الأبيات المذكوره في كتاب “نجد ومفاتنه”، هذه القصيدة لابن الفارض..
يا ساكني نَجدٍ أما مِنْ رحمَةٍ
لأسيرِ إلْفٍ لا يُريدُ سَراحا
هَلّا بَعَثْتُمْ لِلمَشُوقِ تحيّةً
في طَيّ صافِيَةِ الرّيَاحِ رَواحا
يا عاذِلَ المُشْتَاقِ جَهْلاً بالَّذي
يَلْقَى مَلِيّاً لا بَلَغتَ نجاحا
يا أهلَ وِدّي هل لراجي وَصْلِكُمْ
طَمَعٌ فيَنعَمَ بالُهُ استِرْوَاحا
مُذْ غِبْتُمُ عن ناظِري ليَ أنّةٌ
ملأتْ نواحي أرضِ مِصْرَ نُواحا
وإذا ذكَرْتُكُمُ أميلُ كأنّني
مِن طيبِ ذِكْرِكُمُ سقيتُ الرّاحا
وإذا دُعيت إلى تناسي عهدِكُمْ
ألْفَيتُ أحشائي بذاكَ شِحاحا
قَسماً بمكَّةَ والمقامِ ومَن أتَى
البيتَ الحرامَ مُلَبّياً سَيّاحا
ما رنَّحَتْ ريحُ الصَّبا شِيحَ الرُّبى
إلّا وأهْدَتْ منكُمُ أرواحا