إدارة وتربية عرض كتاب

هل يسمع الموتى كلام الأحياء؟

هل يسمع الموتى كلام الأحياء؟

زيارة المقابر، والسلام على الأموات، مع الدعاء لهم سنة شرعية ثابتة، وهي مثل أيّ سنة قصر عنها جفاء التاركين بحجة الانشغال أو الخوف من الموت، والإقبال على مباهج الدنيا بلا تنغيص حتى قال قائلهم مستظرفًا ناصحًا بألا يقطع المرء المفاوز، ولا يمشي مع الجنائز، ولا يعيش مع العجائز! وهي سنة تجاوزها آخرون بالغلو سواء بأعمال بدعية عند القبور مثل الاحتفالات وإحضار الأطعمة ووضع الزينات انتهاء بالشركيات والخزعبلات، والخير كل الخير فيما وافق الكتاب والسنة، فهو القسطاس والصراط المستقيم والتوسط الشرعي، وما عداه عدول عن الجادة، وانحراف عن الصواب.

وهذه الزيارة من سنة الصالحين والأبرار والأتقياء عبر التاريخ -نحسبهم-. وقد كان من عادة والدي أن يزور والدته بعد وفاتها، ثمّ أضاف إلى زيارتها زيارة والده الذي لحق بالجدّة بعد ثلاث سنوات من رحيلها، وظلّ أبي البار يداوم على هذه الحال منذ وفاتهما بزيارة أسبوعية إلى ما قبل مرضه الذي توفي فيه -رحمهم الله جميعًا-، وهذا يعني أن زيارته اتصلت لمدة ستة عشر عامًا، واستثمر ذهابه مع الأموات بعد الصلاة عليهم للسلام على والديه والوقوف على قبريهما، والله يجمعهم بالجنة وكلّ مسلم ومسلمة.

وفيما مضى قرأت كتابًا ألفه أحد علمائنا الذين درسوا الفقه ودرسوه، ثمّ رجعت إليه اليوم لإعادة قراءته من جديد، وكان الباعث الذي دفع المؤلف للبحث في موضوعه ثمّ نشره، هو الباعث نفسه الذي حملني حملًا لإعادة قراءة الكتاب مع أني في حال انشغال ذهن، وضيق وقت، وتزاحم أولويات. وهذا الباعث المشترك هو وفاة الأم؛ فبعد وفاة والدة المؤلف ومواظبته على زيارتها في مقبرة أم الحمام كتب هذه الدراسة، وبعد وفاة والدتي وحرصي على تتابع زيارتها في مقبرة الشمال كتبت هذه المقالة، فاللهم ارحمهما وارفع درجاتهما، وجميع الأمهات والآباء.

عنوان الكتاب المقصود: هل يسمع الأموات كلام الأحياء؟ وهو من تأليف أ.د.زيد بن عبدالکریم الزید، أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، وعميد المعهد العالي للقضاء بالرياض سابقًا. وصدرت الطبعة الأولى منه عن دار التدمرية بالرياض عام (1438=2017م)، ويقع في (91) صفحة من القطع الصغير مكونة من مقدمة وأربعة مسائل فالخاتمة، وبعده مسرد بكتب المؤلف وأبحاثه. وتستهدف هذه الدراسة كما ذكر أ.د.الزيد في المقدمة الوصول إلى رأي تطمئن إليه النفس، ويتحول إلى سلوك عملي شرعي مصان من معرة الجفاء، ومحفوظ من بلاء الغلو.

أما المسائل التي يدور عليها الكتاب فهي أربعة بعدها خاتمة، وهذا بيانها:

المسألة الأولى: الأحاديث الواردة في سـمـاع الأموات لكلام الأحياء.

المسالة الثانية: أبرز علماء السلف الذي قالوا بسماع الأموات لكلام الأحياء.

المسالة الثالثة: أبرز نصوص علماء السلف الذين قالوا بسماع الأموات لكلام الأحياء.

المسألة الرابعة : من آداب زيارة القبر المعين.

ثمّ أورد الشيخ جملة من الأحاديث الواردة في سماع الأموات لكلام الأحياء، ونقل شروحها، وما فيها من استشكالات مع إجابات العلماء عنها. ومن أبرزها حديث القليب بعد معركة بدر حينما نادى النبي عليه الصلاة والسلام القتلى من صناديد قريش قائلًا: “يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟” وحين تعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مخاطبة جيف المشركين قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”، وفي رواية أخرى: “إنهم الآن يسمعون ما أقول”.  

كما روى أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: “إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه . ….” الحديث، وفيه دليل على أن الميت يسمع ويتكلم بعد موته. ومن الأدلة الدعاء الوارد مع زيارة المقبرة: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين…”، فلا معنى للسلام على أقوام لا يسمعون، ومنها زيارته -عليه الصلاة والسلام- الدائمة لقبور أهل البقيع، وجلوسه عند قبر أمه ومعه الصحابة رضوان الله عليهم، ووضعه علامة عند قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وإخباره من معه بأنه وضعها كي “أتعلّم بها قبر أخي”، والعناية بمعرفة القبر تفيد أن الميت يعرف الحي، وينتفع بزيارته ودعائه وهو عنده؛ بل لو لم يكن الميت يعرف القادم إليه لما سميت زيارة.

كذلك نقل المؤلف حديث ابن عباس رضي الله عنه وهو النص الأقوى في هذا الباب: “ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام “، وسبق الإشارة إلى أن الميت يسمع قرع النعال أو خفقها، وياله من سماع مخيف أسأل الله أن يجعله علينا أمنًا وسلامًا وحميد العاقبة. ومن الأدلة طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه ممن حضره ساعة احتضاره أن يمكثوا عند قبره مقدار نحر جزور للاستئناس بالجالسين حوله، ومثل هذا الطلب وتعليله لا يكون برأي وإنما بعلم مروي عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام.

وأورد المؤلف بعض الآيات القرآنية الكريمة التي ربما يُفهم منها أن الموتى لا يسمعون، وأفاض في بيان توجيه المفسرين لمعناها بما لا يخالف الأحاديث الشريفة المحتج بها. وسرد أسماء العلماء الأعلام الذين قالوا بسماع الأموات لكلام زوارهم من الأحياء في المقابر، وهم الأئمة أحمد والطبري والقرطبي وابن تيمية وابن القيم وابن مفلح وابن كثير وابن رجب والسيوطي والشوكاني والشنقيطي وعبدالرحمن بن قاسم وابن عثيمين، واقتصر صنع المؤلف على جمع أقوالهم وتصنيفها وترتيبها تاريخيًا، مع الإشارة لمواضعها في كتبهم. ويلاحظ أن هؤلاء العلماء من أكثر المذاهب الفقهية، وفيهم أعلام من المدرسة السلفية بمدارسها الحنبلية، والتيمية، والوهابية، وهذه المدارس من أعظم المرجعيات العلمية حرصًا على رعاية جناب الإيمان والتوحيد، ومقاومة الخرافات والشرك. وكي ينصف المؤلف بقية الآراء ذكر أن الرأي الآخر الذي ينفي السماع قال به قدوات وأئمة من أهل العلم والاجتهاد، وهو ليس موضوع الكتاب وبالتالي فلا توسع فيه.

وعاد المؤلف كثيرًا لكتاب الروح لابن القيم الذي أحاط بهذا الموضوع لدرجة أن استبعد بعض طلبة العلم صحة نسبة هذا الكتاب إليه، أو علل ذلك بأسبقية تأليف ابن القيم للروح على اقترابه من شيخ الإسلام ابن تيمية، وهما الأمران اللذان نفاهما الشيخ د.بكر أبو زيد آل غيهب أحد أعلم المعاصرين بابن القيم وكتبه. ومن الاقتباسات الظاهرة ما رجع إليه المؤلف واستند عليه مما جاء في تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطي الذي أزال بعلمه وبيانه أيّ لبس أو شك في اضطراب المعاني أو تضادها.

إن في الزيارة الشرعية للمقابر تطبيقًا للسنة وإحياء لها، وفيها إحسان للميت ذلك أن الزائر يكون أكثر رقة ورحمة؛ فيرجى له إجابة الدعاء بسبب خشوعه وحاله في المناجاة. ويحسن الزائر لنفسه بوعظها وترقيق القلب. ومع أن العلماء الذين أفاض الكتاب بذكر آرائهم مجمعون على أن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر بها، إلّا أنه لا مناص من التأكيد على أن الحاجة هي من الميت للحي وليست العكس؛ فالميت لا ينفع نفسه حتى ينتظر منه نفع غيره، ولذا لا مفر من التفريق بين سماع الموتى الثابت إن شاء الله، وبين دعاء الأموات المحرم لأنه شرك قبيح.

ومن المهم الالتزام بآداب زيارة القبور التي ختم بها المؤلف مسائل الكتاب كي لا تفضي الزيارة إلى محظور، وحتى يستفيد منها الحي والميت، ويزيد تطبيق السنة في مجتمعات المسلمين، وتضمر البدع أو تزول. علمًا ان الزيارة وموضع الزائر من الميت في السلام والدعاء، وهل يسلم على الميت من تلقاء وجهه، ثمّ يدعو له مستقبلًا القبلة، وطريقة قيامه أو قعوده، ترجع كلها لما يختاره الزائر دون اعتداء أو إثم، والله يوفقنا للصالحات والوفاء، ويرحم أمواتنا وأمواتكم ويغفر لهم، ويلهمنا إدامة الدعاء والزيارة للمقابر وساكنيها؛ فما أحوجهم للأنس بالأحياء والإفادة من الدعوات، وسيأتي علينا يوم ولا محالة فنكون معهم، وفي مثل حالهم ورجائهم ممن خلفنا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 13 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

14 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. توفي زوج اختي وابن عمي وعمره 27 سنة قبل اكثر من خمسين سنة بعدما عان من مرض السرطان وترك لها ثلاثة اطفال صغار تربيهم. حلمت به قبل شهرين يزور زوجته اختي وهو بصحة جيدة واساله ان ياخذ اختي للحج . فاخبرني بانها حجت . وهي المسكينة مريضة مقعدة تصعب عليها الحركة تتمنى لو تحج او تعتمر . يتمنى الابن لو تتحمل سفر الحج او العمرة . فاخبرتهم اطلقوا على عامرة اختي حجية عامرة . انا بعيدة وادعوا لوالديا ولكثير من الاموات الاغراب ممن كان لهم على فضل ومن ظمن هولاء والله على ما اقول شهيد والديك ووالديهم ووالدين والديهم .لما نستفاد نحن القراء من كتابات ابنهم البار بوالديه ياريت يقراؤن اولاد هذا الزمان عن هذا البر ليقتدوا به . بعدما اصبحت الام حماة زائرة مثل استاذ الجامعة الزائر شتان بين الوصفين . انا اعتقد مثل ما يتقبل الله نحن المغتربين صلاتنا وصيامنا وعبادتنا يتقبل دوعائنا للاموات والله اعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)